خواطر وقصص بقلم رانية مرجية
تاريخ النشر: 13/06/25 | 13:22
الكتابة الإبداعية… حين نداوي الجرح بالحبر
بقلم: رانية مرجية
هل جرّبتم يومًا أن تكتبوا بدل أن تصرخوا؟
أن تمسكوا قلمًا بدل أن تكسروا شيئًا؟
أن تملؤوا ورقةً بيضاء بدل أن تفرغوا قلوبكم في عتمة غرفة لا يسمعكم فيها أحد؟
الكتابة الإبداعية، كما أفهمها، ليست للترف ولا للهواة ولا للنخب التي تمسح أحزانها بالمصطلحات.
الكتابة، كما أمارسها، فعل نجاة.
الكتابة ليست ما أفعله… بل ما يبقيني على قيد الضوء.
حين أكتب، لا أروي حكاية.
بل أمدّ أصابعي إلى جرح قديم، أنظف حوله، أتنفس قربه، وربما أضع عليه وردة.
حين أكتب، لا أداوي نفسي فقط… بل أعانق كل ما لم أستطع معانقته يومًا،
أعانق تلك النظرات التي لم تُقال، وتلك الكلمات التي بقيت في الحلق،
أعانق مَن غاب، ومَن بقي، ومَن لم يعرف كيف يقترب مني… فأبعدته.
الكتابة الإبداعية علاج صامت، لكنها تصرخ من الداخل.
هي أن تقول كل شيء، دون أن يسمعك أحد،
أن تحضن كل من أحببت ولم تستطع أن تخبره أنك كنت بحاجة لحضنه.
أنا لا أكتب لأنني قوية… بل أكتب لأتذكّر أنني لم أنكسر كلّيًا.
أكتب لأربّي في داخلي امرأة تعرف كيف تبكي على الورق دون أن تنهار في الحياة.
أكتب لأمنح نفسي فرصةً ثانية، وربما أولى.
الكتابة جعلتني أتعامل مع ذاتي كما أتعامل مع طفل خائف:
أربّت على كتفه، أطمئنه، وأقول له: لا بأس…
ثم أصدّق ذلك لأستطيع الاستمرار.
أحيانًا، حين أكتب، أشعر أنني أمدّ ذراعي عبر الحبر…
وأحضن من أحببتهم دون أن أسمّيهم.
أضمّهم كما يشتهي القلب لا كما يسمح الواقع.
الكتابة ليست مجدًا، بل نجاة.
ليست منصة، بل حضن.
هي أن تفرغ صدرك في السطور، ثم تنظر إلى نفسك وتقول:
“نجوتُ مرة أخرى، وسأكتب كي أنجو مرة أخرى.”
فامسكوا أقلامكم…
واكتبوا،
واكتبوا،
واكتبوا.
فمن لا يجد أحدًا ليحتضنه،
قد يجد في الورق حضنًا لا يخذله
——————————————————————
القديس أنطونيوس البدواني… قلبٌ مشتعل بمحبة الله والفقراء
بقلم: رانية مرجية
في الثالث عشر من حزيران، تتوقف أرواح كثيرة عن الركض. يضع المؤمنون انشغالاتهم جانبًا، ويتفرّغون لحضورٍ من نوع مختلف. هو ليس حضورًا جسديًا، بل روح تحلّق فوق الزمن، تُنير العقول، وتربت برقة على القلوب المتعبة. إنه عيد القديس أنطونيوس البدواني، الراهب، الواعظ، الشفيع، وحبيب الفقراء.
أنطونيوس الذي ما زال، بعد ثمانية قرون، يقف كمنارة هادئة في عالم فقد الكثير من بوصلة الرحمة والحقيقة.
✝️ من لشبونة إلى السماء
وُلد فرناندو دي بولونيس عام 1195 في لشبونة لعائلة متدينة، وبرز منذ صغره بعقله المتّقد وشغفه بالكتب المقدسة. التحق بدايةً برهبنة القديس أوغسطينوس، وهناك غاص في أعماق الكتاب المقدس، حتى صار له مع الكلمة علاقة حميمية، لا تقف عند الحروف، بل تتجاوزها إلى المعنى، إلى النور.
لكن الروح التي تسكن قلبًا مشتعلًا لا تهدأ. إذ قرأ عن استشهاد خمسة رهبان فرنسيسكان في المغرب، فاشتعلت فيه الرغبة في أن يُبشّر كما بُشّروا، ويُحِبّ كما أحبّوا. ترك كل ما لديه، والتحق برهبنة القديس فرنسيس الأسيزي، وأخذ اسمًا جديدًا: أنطونيوس. اسم جديد لحياة جديدة.
🔥 الكلمة التي تحرق الظلام
لم يكن أنطونيوس راهبًا صامتًا، ولا لاهوتيًا في برج عاجي. بل كان كلمة حيّة. وعندما تكلّم، لم تكن اللغة مجرد وسيلة، بل صلاة. حمل البشارة بعمق متّقد، وراح يطوف المدن الإيطالية والفرنسية، يعظ في الكنائس والطرقات، يُصغي للفقراء، ويُداوي بالكلمة جراح البسطاء.
يُقال إن صوته كان يدخل القلوب قبل الآذان، وإنه حين تحدث، أنصتت حتى الأسماك، حين أعرض الناس عنه.
لكنه لم يكن يطلب المجد، ولا التصفيق، بل الحقيقة وحدها. لذلك استحق أن يُلقب بـ”معلم الكنيسة”، وأن يُعلن قداسته بعد أقل من عام على وفاته. فالنور لا يحتاج إلى كثير من الوقت ليُرى، فقط إلى أعين نقيّة قادرة على التأمل.
🌿 شفيع الضائعين… وأبٌ لكل من أضاع نفسه
لا نلجأ إلى أنطونيوس فقط حين نُضيع مفاتيحنا أو مقتنياتنا الصغيرة، بل نلجأ إليه عندما نُضيع أنفسنا. حين نشعر بأننا تائهون في هذا العالم المتسارع، المزدحم، المليء بالأقنعة. نبحث عن حضوره، عن صلاته، عن هدوئه الذي يسبق السلام.
في قلبه، كان للفقراء مكانٌ دائم. لم يحبّهم فقط، بل رأى فيهم صورة المسيح المتألم. وعاش مثلهم، بسيطًا، فقيرًا، نقيًا، متحررًا من وهم الامتلاك، ليملأ قلبه بالحب وحده.
⛪ إلى اليوم، لا يزال ضريحه حيًّا
في مدينة بادوفا، حيث استراح جسده المنهك من أجل السماء، لا تزال الجموع تتوافد، لا لتلمس العظام، بل لتتلمس أثر الروح. فأنطونيوس، وإن مات جسده في 13 حزيران 1231، إلا أن صوته لا يزال يُهمس في ضمائر الباحثين عن الله.
ضريحه ليس مجرد مزار، بل مكان تلتقي فيه الأرض بالسماء. وهناك، يرفع الناس صلواتهم، وينذرون قلوبهم من جديد لمغفرة غابت، أو إيمان خفت، أو رجاء كاد يضمحل.
🙏 أنطونيوس… ما زلت بيننا
في زمن تغلب فيه المظاهر على الجوهر، والضجيج على التأمل، نحتاج إليك أكثر من أي وقت مضى.
نحتاج إلى من يُعيد ترتيب أولوياتنا،
إلى من يذكّرنا أن الكلمة تُبني لا تُهدم،
أن الفقر طهارة إذا سكنه الحب،
وأن القداسة ليست معجزة خارقة، بل حياة عادية تُعاش بأمانة استثنائية.
في عيدك، لا نأتي لنطلب… بل لنصمت.
لنُصغي إليك، كما أصغى إليك السمك،
لنعرف من جديد أن من يُحب الله حقًا، لا يضيع أبدًا.
————————————
المدرسة كمؤسسة أمنية: بين سلطة التعليم وتعليم السلطة
بقلم: رانية مرجية
لم يعد بإمكاننا الحديث عن المدرسة العربية بوصفها مجرد حاضنة تربوية أو بيئة معرفية محايدة. فقد تحوّلت، بمرور الزمن، إلى مؤسسة مزدوجة الوظيفة: تُدرّس وتراقب، تُقيّم وتُصنّف، تُعلّم وتُخضع. ومن المؤسف أن المدرسة، التي كان يفترض أن تكون الحاضنة الأولى للتفكير النقدي والتعبير الحر، أصبحت في كثير من السياقات العربية امتدادًا ناعمًا لسلطة الدولة، ومركزًا لإنتاج الطاعة لا الوعي.
ليست المشكلة في المناهج فقط، رغم ما تحمله من فراغات فكرية وتوجيهات أيديولوجية، بل في البنية العميقة التي تحكم علاقة الطالب بالمعلّم، والمعلّم بالإدارة، والإدارة بالسلطة. المدرسة لا تُخرّج اليوم مواطنين أحرارًا بل أفرادًا مدجّنين، تدرّبوا على الخوف من السؤال، وعلى خفض الصوت في حضرة السلطة. هي أشبه بمختبر لتطويع الأذهان منذ الصغر، حيث يُكافأ من يقلّد، ويُعاقب من يُفكّر.
الأخطر من ذلك أن المؤسسة التعليمية لا تكتفي بمراقبة الطالب داخل الصف، بل تلاحقه خارج أسوار المدرسة. صارت حساباته الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفايسبوك، جزءًا من الملف التربوي غير المعلن. منشور بسيط عن واقع التعليم، أو تعليق يعبّر عن موقف سياسي، قد يُكلّف الطالب أو المعلّم استدعاءً أو تحقيقًا أو إنذارًا. وكأن حرية التعبير، المعلّقة كشعارات على الجدران، لا يُسمح بممارستها في الواقع.
المدير، في كثير من الحالات، لم يعد شخصية تربوية حقيقية، بل أشبه بوظيفة أمنية مقنّعة. يقيس الانضباط لا الإبداع، ويُقيّم السلوك لا الفكرة. ما يُزعج ليس ضعف التحصيل، بل قوّة الرأي. وما يُخيف ليس الجهل، بل الوعي. والويل لمعلم يتجرأ على تشجيع طلابه على التفكير المستقل، أو تلميذ يكتب في دفتره رأيًا يزعج المؤسسة. فالتعبير الحر صار تهمة، والصدق جريمة، والمبادرة خروجًا عن النص.
وفي هذا المناخ، تتحوّل حصص التعبير إلى طقوس شكلية، يُطلَب من الطالب خلالها أن “يُحب الوطن”، دون أن يُفكّر في معنى هذا الحب. أن يشكر الحكومة، دون أن يسأل عما قدّمته له. أن يردد نشيدًا لا يفهمه، ولا يُسمح له أن يقول ذلك. كل تعبير لا يتماشى مع الخط العام يُمزَّق، وكل فكرة خارجة عن القاموس الرسمي تُحذف، وإن بقيت، فبشروط المؤسسة لا بشروط الحياة.
الطامّة الكبرى أن أولياء الأمور أنفسهم كثيرًا ما ينحازون إلى هذا القمع الناعم. فبدل أن يدافعوا عن أبنائهم، يسارعون إلى تأنيبهم وتبرير “خطئهم” أمام المدرسة. يتخلّى البيت عن دوره النقدي، ويتحوّل إلى فرع صغير للرقابة، لا لاحتضان التساؤل. وهكذا، يُحاصر الطالب من الجانبين: مدرسة تفرض الصمت، وبيت يُبرّره.
نحن لا نعيش أزمة مناهج فحسب، بل أزمة فلسفة تربوية بكاملها. نحن في حاجة إلى زلزال فكري يعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والسلطة، بين المدرسة والمجتمع، بين التعليم والحرية. فلا نهضة ممكنة في ظل مدارس تخاف من الرأي أكثر مما تخاف من الجهل، ولا مجتمع يمكن أن يُبنى على الخوف من السؤال.
إن إصلاح التعليم لا يبدأ من تغيير الكتب فقط، بل من إعادة الاعتبار للمعلّم المفكّر، والطالب المتسائل، والمدرسة التي تعترف أن التفكير ليس تهديدًا، بل ضرورة وطنية. لا نريد مدارس تخرّج موظفين في ماكينة صمّاء، بل مواطنين أحرارًا، يعرفون كيف يسائلون، لا كيف يُكرّرون.
في النهاية، التربية التي تخشى من الصوت الحر، هي تربية تُعدّ الأجيال للخضوع، لا للنهضة. ومدرسة تُدرّس التعبير… لكنها تمنعه، ليست مؤسسة تعليمية، بل مركز تدريب على الصمت المُنظَّم
——————————————
رسالة مفتوحة في حضرة الغياب
🖋 بقلم: رانية مرجية
أمي،
ها أنا أكتب لكِ كما كنتِ تكتبين لي القصص قبل أن أعرف كيف أمسك القلم،
أكتب لكِ لأن الحرف لم يعد مجرد صوت في الهواء، بل ظلّك الذي يرافقني،
ودفئك الذي يتسلّل خفية من بين السطور.
كنتِ أول من وضع كتابًا في يدي،
وقلتِ لي: “اقرئي… فإن القراءة نجاة”،
ولم أكن أعلم أنني ذات يوم سأقرأ الغياب نفسه،
سأقرأ موضعك الفارغ على الطاولة
وسأُدمن قراءة الوجوه لأبحث عنكِ بينها… ولا أجدك.
أمي،
كل كتاب أقرأه اليوم يحمل شيئًا منكِ:
نبرة صوتك، نظرة إعجابك، سؤال طفولي كنتِ تطرحين عليّ لأعيد التفكير مرتين.
كنتِ أستاذتي الأولى، ولم تكوني مدرسة.
كنتِ مكتبتي، دون أن تملكي مكتبة.
كنتِ القصيدة، حتى قبل أن أكتب شعري الأول.
أفتقدك،
لكنّ الحنين لا يصرخ في قلبي، بل يهمس كما كنتِ تهمسين لي عند النوم.
ولا أبكيك بالبكاء، بل أشتاقك بالنصوص.
كل مرة أضع نقطة في آخر السطر،
أشعر أنّ يدكِ ما زالت على كتفي، تربّت عليّ وتقول:
“أحسنتِ… لكنك قادرة على أجمل”.
رحلتِ يا أمي،
لكنّك ما زلتِ تقرئينني… في سرّك.
وأنا ما زلت أكتبك… كلما حاولت أن أكتب عني.
إلى التي جعلتني أعشق القراءة كي لا أموت من الواقع،
إلى التي رحلت ولم ترحل،
إلى التي لا تُعوّض، ولا تُنسى، ولا تُختصر.