مقالة الصرخة… لأننا تعبنا من التهذيب/ “جنازة الفقير المحترم… مقبرة الصمت”

بقلم: رانية مرجية – الرملة

تاريخ النشر: 10/06/25 | 6:24

ما عدت أومن بالمقالات المهذبة. تلك التي تتفنّن في التوازن، وتخاف على القارئ من الانزعاج. لا وقت لدينا لنضع الكلمات في قفازات بيضاء. نحن في زمن الصرخة، لا الهمس. زمن المقالة التي تُكتب كأنها آخر ما يمكن قوله قبل أن يُطبق علينا الجدار من كلّ الجهات.

مقالة الصرخة ليست مقالًا أكاديميًا، وليست محاولة لرصّ الأفكار فوق بعضها كي نبدو مثقفين. إنها النار التي تخرج من حلقك حين يُصفع وجه الوطن، أو تُكسر أكتاف الأمهات، أو حين ترى كاهنًا أرثوذكسيًا صامتًا أكثر من اللزوم، أو قائدًا يتقن فنّ التخلي عن الناس.

مقالة الصرخة تُكتب عندما تفيض الروح ولا يعود في الداخل متّسعٌ للحريق.

تُكتب دون مسوّدة، ودون مراجعة. تخرج كما هي:

فجّة.

غاضبة.

صادقة حدّ القلق.

أكتبها عندما أنظر في عيون جدتي المرحومة التي هجّرت من اللد ولم تسأل أحدًا عن اللجوء. فقط مشت على قدميها حتى رام الله وقالت: هذه الأرض أرضي وإن ضاق بي المكان.

أكتبها حين يُنتهك تراث كنيستي الأرثوذكسية على يد وكلاء السياسة، ونحن نصفّق خشية أن نبدو “متعصبين”.

أكتبها حين يقول لي أحدهم: “اصبري، الله كريم”. فأجيبه: أنا لا أكتب لله فقط. أنا أكتب أيضًا لئلا نُكمل حياتنا في قفص الانتظار.

مقالة الصرخة لا تُكتب كي تُنشر فقط.

هي تُكتب كي لا ننفجر.

كي لا نقتل أحدًا، أو أنفسنا،

كي نصرخ بالكلمات، لا بالرصاص.

في زمن الخسائر اليومية، تصبح المقالة التي لا تصرخ خيانة ناعمة.

كل مقال لا يُزعج سلطة، لا يُوقظ غافلاً، لا يربك نظامًا، هو مقال للتزيين، لا للتغيير.

أنا أكتب لأقلق.

وأقلق لأبقى.

وأبقى لأحكي.

وأحكي كي لا يكتبوا روايتنا بدلاً عنّا.

فليقرأونا وهم يضعون أيديهم على قلوبهم.

أو ليمزّقوا أوراقنا.

لكننا لن نصمت.

لن نكتب برخصة من أحد

“جنازة الفقير المحترم… مقبرة الصمت”

بقلم: رانية مرجية

يموت الفقير المحترم بصمت.

لا أحد يشعر بغيابه… وكأن وفاته امتداد لحياته: خافتة، هامشية، لا تُقلق أحدًا.

يموت بعد عمرٍ من التعب، من الالتزام، من الصدق، من التزام طابور البريد والاحترام في الباصات والسكوت في الاجتماعات.

يموت وهو يملك سريره المتواضع، ودفتر الديون في البقالة، وخزانة أحلام مؤجلة لم تفتح أبدًا.

وفي يوم جنازته… تمرّ الدقائق ثقيلة.

الحاضرين ثلاثة أو أربعة، أقاربه القلائل، وشيخ الحارة الذي جاء مجاملة، وربما رجل مسن لا نعرف هل جاء لوداعه، أم ظنّ أن الجنازة لشخص آخر.

لا مكبرات، لا خطب حماسية، لا لافتات تنعيه بـ”المناضل الكبير” أو “رجل البر والإحسان”.

لا أحد يصفق لذكراه، ولا تظهر صورته على صفحات الفيسبوك مزيّنة بآيات الرحمة.

تموت الكرامة معه… دون أن تصدر صوتًا.

أما إذا مات الغني، ولو كان فاسدًا أو حراميًا أو نصّابًا محترفًا… فحدّث ولا حرج!

تُغلق الشوارع، تُوزّع المناشف، وتُنشَر نعوته على عشرات الصفحات من صحفٍ لم تكتب عنه حيًا.

الجميع يأتي، حتى من لم يعرفه.

الجميع يبكي، حتى من شتمه.

يعلو صوت الرثاء، وتنهال كلمات الوفاء، كأنهم يدفنون قديسًا لا رجلاً بنى مجده على رقاب الناس.

يموت الغني، ويُرفع على الأكتاف كما لم يُرفَع أي مبدأ في حياته.

حتى الذين كانوا ضحاياه، يأتون… لأن المجتمع علمهم أن يحترموا السلطة حتى وهي ميتة.

وأن يسيروا خلف النعش الفاخر، لا حبًا بالميت، بل احترامًا للمال.

أي عدل هذا؟

أي ميزان هذا الذي يُكرم الكاذب ويدفن الشريف بصمت؟

أي قيم هذه التي تجعل جنازة المحترم فارغة، وجنازة اللص زحامًا وبكاءً ونفاقًا؟

أنا لا أبكي فقط على موتى الفقراء.

أنا أبكي على مجتمعٍ صار فيه المال شهادة حسن سيرة، والغنى جواز عبور إلى قلوب الناس، مهما كان الثمن.

وأسأل:

هل كنا نحترمهم فعلًا؟

أم أننا فقط نحبّ أن نكون بقرب السلطة… حتى في المقابر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة