قصة قصيرة: الأسطوانة المشروخة

ميسون أسدي

تاريخ النشر: 25/09/22 | 10:28

الجرامافون أو ما نطلق عليه بلغتنا العامية البتفون، هو جهاز قديم، كان يستخدم لتسجيل الصوت عليه، ثم إعادة تشغيله وسماعه مرّة أخرى باستخدام اسطوانة دائرية. ما زال البعض يملكون تلك الأجهزة كتحفة تاريخية فخمة. والحديث عن الجرامافون في هذه القصة مثل محادثة كفيف عن الضوء والألوان.
العمّة كاملة
تعيش العمة كاملة المسنة والفقيرة جدًّا في بيت للإيجار في ضواحي مدينة القدس، وتتقاضى راتب شيخوخة بالكاد يسدّ رمق عيشها، وقد تحوّلت لشبه متسوّلة، تزور كل معارفها لتحصّل على بعض القروش أو وجبة طعام.
أبناؤها الأربعة جاحدون بحقّها، بحجّة قسوتها عليهم في صغرهم، حيث أدخلتهم إلى دير للراهبات، بسبب شظف العيش. تتلقّم العلقم من أبنائها، ولكنّها لا تتذمر. استولى ابنها الصغير على راتبها الضئيل فصارت تعتاش على الفتات المتبقي منه. تخافه العجوز ولا تتعرّض له بما يمسّه…
كانت لا تحرم نفسها من كلّ متعة فحسب، بل الحاجات الضرورية للغاية. وتعمل من أجل ابنائها بكلّ قواها الغزيرة التي لا تفنى.
تحلم العجوز بأنّه سيأتي يومًا وتحنّ عليها ابنة أخيها الثرية جدًّا ببعض المال، ولكن حلمها كوعد ابليس بالجنة.
فيّاض
ولد فيّاض في فلسطين وهو في نهاية عقده السابع… هاجر وهو في مقتبل العمر إلى هولندا، يتقاضى راتب التقاعد المحترم من الحكومة الهولندية. تعابير محياه ساخرة وكلماته مقتضبة حادّة وهو طويل القامة قوي البنية وله عينان كبيرتان بنظرات طويلة وصوت عميق وحركات ثابتة متزنة. وتحبه النساء ويستطيع أن يحيّر كلّ شخص ولا يتحير… لا يهمّه المال أو ميراث أمّه. يملك بيتا في القدس، وقد تخلى عن كل شيء من إرث والدته.

عائلة المغربي
تعيش عائلة المغربي المكوّنة من أربعة أفراد في ضواحي القدس، زوج وزوجة وابنتان، مقابل بيت عجوز وحيدة تدعى كوكب، وقد اهتمّت زوجة المغربي بالعجوز كوكب لأنّ أولادها يعيشون خارج البلاد ونادرًا ما يزورونها، واعتبرتها الزوجة واحدة من العائلة وأصبحت تزورها باستمرار وتهتم لكلّ ما تطلبه، وكانت تضع ابنتيها في صغرهما في عهدتها، عندما تغيب مع زوجها عن البيت. أصبحت العجوز كوكب جدّة للبنات ولعائلة المغربي. علم أولاد العجوز كوكب الذين يعيشون في الخارج بما تفعله جارتهم الرؤوف، واثنوا عليها.
سمير
سمير البحري، هكذا ينادوه معارفه. عمل سنين عديدة في البواخر البحرية التجارية وخرج للتقاعد مع راتب محترم، فعاد للعيش بجانب والدته في ضواحي القدس. لم تستفد والدته من صحبته ورعايته، لأنّها توفيت بعد عودته بفترة قصيرة، وبعدها أصبح يهتم بكل صديقات والدته العجائز تكفيرًا عن ذنبه بالبعد عن الوالدة سنوات طويلة والعيش على متن السفن في عباب البحر.
نجمة
نجمة هي ابنة العجوز كوكب وشقيقة فياض. قصيرة القامة ممتلئة الجسم قوية القدمين. تعيش في حي للأغنياء في واشنطن. اشترت نجمة وزوجها قطعة أرض في ضواحي واشنطن وشيّدت عليها فيلا جميلة بها بركة سباحة وتزينها الورود والتماثيل على أنواعها.
أوصت كوكب ابنتها نجمة بأن تهتم بعمتها كاملة الفقيرة بعد موتها، لكن نجمة كانت تتّصف بالبخل رغم ثرائها وتتصرف بالعكس تمامًا، فعندما تأتي نجمة إلى البلاد تنام في بيت عمتها المستأجر وتأكل من صحنها وفتات طاولتها بسبب شحّها، ومع ذلك، تدّعي أن عمتها وأولادها دون المستوى.
أعلنت نجمة أنها ستبيع بيت والدتها في القدس، فأوصاها شقيقها فياض بأن تعرضه أولا على عائلة المغربي وتراعيهم بثمنه، لأنهم يبحثون عن بيت جديد لابنتهم التي تزوّجت حديثًا، ولأنّهم أصحاب الفضل الكبير في إسعاد والدتهم كوكب في وحدتها، وحاليًّا، يقدّمون المساعدات العديدة للعمة كاملة الفقيرة.
حضرت نجمة إلى القدس، لبيع البيت، بعد أن حرمت أخوها فياض من حصّته في الميراث بطريقة قانونية. حيث أقنعت أمها كوكب قبل وفاتها، بالتنازل عن شقتها لصالحها، بحجّة أنّها تقوم على رعايتها مادّيًّا. وهي تعرف بأن شقيقها فيّاض لا يحب ان يدخل في صراع معها، فهو لا يمدحها ولا يقدحها.
باعت نجمة بيت والدتها لعائلة المغربي ولم تتساهل بالسعر، ولملمت أغراض أمّها البالية التي أكل عليها الزمن في صناديق، حتّى المعالق والطناجر خزنتها، وتلفزيون مستعمل وغيرها من الأشياء التي لن تأخذها معها إلى خارج البلاد، فتكلفة شحنها أغلى من ثمنها. كوّمت هذه الأغراض في بيت عمتها كاملة. من بين الأغراض كان هناك جرامافون قديم. قامت نجمة بوضع الجرامافون في صالون عمّتها على ظهر الخزانة لأنّه الغرض الوحيد ذو القيمة من بين الزبالة التي لملمتها.
بعد عدّة أشهر، عادت نجمة إلى زيارة عمّتها كاملة، فوجدت أن الجرامافون قد اختفى. فسألت عمّتها عنه، فادّعت كاملة أن صديقهم سمير البحري الذي يزورها يوميًّا ليجلب لها بعض الطعام، هو من أخذه، مع أن سمير انسان أمين ومحبوب ويعطف عليها أكثر من ابنائها. لم يصدّق أحد ادعاءاتها، ولكنّها كرّرت الحكاية عدّة مرات، وقد عُرفت كاملة بأنها كالأسطوانة المشروخة، فهي تعيد عدة قصص بنفس الجمل طوال الوقت وفي كلّ الظروف.
ذات مساء، جاء سمير لزيارة العجوز كاملة بحضور نجمة، وزوجة المغربي، سألته نجمة إذا كان قد أخذ الجرامافون. فنفى ذلك وحزن من فعلة العجوز النكراء، وعلم بأنّ أحد ابنائها هو من أخذ الجرامافون، وهي تريد التستر عليه. نكست العجوز رأسها بالأرض خجلا من فعلتها، كطفل صغير أمسك به متلبسا، وهي تطرف بعينيها وتذرف العبرات، وراحت تفكر والقلق يتملّك قلبها وهي شاردة الفكر في كيفية الهروب، فقال لها سمير بشعور من الأسف: خسارة يا عمّة أنّك بعتني بقشرة بصل!
بكت نجمة بكاء حارًا أمام عمتها. نظر الحضور إليها بحقد مستغربًا هذا البكاء، فهناك أمر مريب ببكائها، فسألوها: لما تبكين وانت تملكين الملايين من الدولارات؟ فأجابت: أنا أبكي لأن عمتي تكذب، وعرفت الآن أنّها تعرف من أكل علبة الحمص، ولا تريد أن تخبرني…
سألها سمير بابتسامة ساخرة وسط استغراب واندهاش الجميع: أية علبة حمص؟ عن أي حمّص تتكلمين؟!
برق في نظرة نجمة وميض من الاغتراب الذي يقترب من العداوة وهي تنتحب: إني في غاية الأسى وان حزني عميق جدًا، اشتريت في الصباح علبة حمص صغيرة، أكلت نصفها ووضعت النصف المتبقي في الثلاجة عند عمتي، ثمّ ذهبت إلى البريد، وعندما عدت، وجدت أن العلبة فارغة تقريبًا….
انتفضت نجمة أمام الحضور في مرارة. ولا يمكن أن يكون هناك شك، فقد كانت الكلمات صريحة والمضمون بيّن.
الجميع: !!!!!!!!!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة