برطعة .. قلبٌ مشطور .!

تاريخ النشر: 13/07/20 | 13:02

يوسف جمّال : عرعرة

بعد تردد دام أسابيع عدة , دخلت بيت جدّي القديم ,الذي لم يدخله منذ وفاته قبل خمس أعوام إلا أبي ..
لحقت جدّتي بجدي ودفنت بجانبه في مقبرة القرية ..ولكني لم أجد لها في الصندوق شهادة وفاة .!
البيت كان في الطابق الأرضيّ لبيتنا الجديد , مكوّن من غرفتين كبيرتين قديمتين ومطبخ صغير ومنافع .. وأمامهما أرضية “مصبوبة ” بالباطون , تكمل ما بقي من المساحة التي تحت بيتنا .. على هذه المسطبة كنا نقضي نهارتنا وجزءاً كبيراً من ليالينا .. أفراد عائلتنا و عائلات أعمامي وعماتي وجيراننا .. يقضيها الكبار بسمرهم في الليالي والصغار في ألعابهم النهار ..
بعد موت جدّي وجدّتي , تفرّق القوم وخلت الدِّيار ..
ولم يعد يدخل البيت إلا أبي وأمي , يقومان بتنظيفه من الغبار , التي عادة ما تتراكم في البيوت المتروكة , وبعض أنواع الصيانة , أما الساحة فتحوَّلت إلا ملعباً للأطفال يلعبون فيها ألعابهم ..
اليوم فقط عرفت أن جدتي ” بتقربلي لزم “.!
وأنها من عائلتي .. عائلة كبها .!
وعرفت أن الكبار أخفوا انتمائها الحقيقي .. لأنها التحقت ببلدها متسلِّلة .! وأقامت عدة عقود في بلدنا , الجزء الغربي من برطعة , بصورة غير قانونية ..
لأنها عندما قطعت الوادي فقدت جنسيتها الأردنية .. ولم تحاول أن تحصل على الجنسيّة الاسرائيلية ..
ليست هذه المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة جدّي .. ولكن هذه المرة الأولى التي أدخلها بعد وفاته ..
غرفة جدّي .. كانت كما هي ..
السرير الذي كان يتوسطها , الخزانة القديمة برفوفها وجواريرها الذي كتب عليها الدهر ضرباته ..
حصيرة القش التي رفض أن يستغني عنها مطوية في مكانها .. مثبَّة في صدر البيت ..
حفّايته التي أصرَّ أن لا يستبدلها بالقديمة ( انجليزية الأصل ) , إلا بعد أن وجد توأمتها في سوق جنين , تقف مكانها بجانب الباب ..
وفي الزاوية القريبة من الباب حذاءه القديم , الذي كان يصِّر على تلميعه كلّ عدة أيام , رغم أنه كان لا ينتعله إلا مرة في أخر الشهر, عندما كان يقصد البريد ” ليقبض” تأمين الشيخوخة .!
ألقيت نظرة تحت السرير , فاصطدمت عيناي بصندوقه القديم , الذي كان يصرُّ أن يضعه بالقرب منه تحت سريره .. كان لا يسمح لأحد أن يقترب منه .. صندوق حديدي كبير , طوله حوالي نصف متر , وعرضه بمقدار نصف طوله ..
إن إصراره الشديد , على عدم السماح لأحد أن يقترب منه أو النبش فيه أو الإطلاع على محتوياته .. جعل جميع من يؤمون البيت , أن يبنوا قصوراً من الخيال حول ما قد تكون محتوياته ..
جلست القرفصاء , ومددت يدّي تحت السرير , مسَّكت بالصندوق بكلتا يديَّ , وحاولت أن أسحبه بكلِّ ما أملك من قوة , فلم أقدر على أزاحته قيّد أنملة .. كان أثقل من جبل أحد .!
فتنازلت عن فكرة سحبه , وقرَّرت أن أتعرَّف على محتوياته , وهو في مكانه تحت السرير ..
حاولت أن أرفع غطائه فلم أستطع , منعني القفل الذي كان يحميه بقوة من محاولات اقتحامه .!
بحثت عن مفتاح القفل في جميع زوايا البيت , في جوارير الخزانة ورفوفها في طاقات البيت وشبابيكه فلم أجده .
وبعد أن كدت أيأس من العثور عليه خطرت لي فكرة ..
لماذا لا يكون المفتاح تحت وسادة نوم جدّي .!؟
فقد كان يرفعها قليلاً كي يتناول من تحتها النقود , ويوزعها على أحفاده ,وأنا منهم , “كحسنة ” منه , أو يكلفُّنا بشراء مستلزمات له من الدكان , وخصوصاً عُلب الدُّخان , بعد أن ترك ” الحلل” منه , بعد أن يئس من أيجاد دخان جيِّد مثل دخان زمان .
رجعت الى السرير رفعت الوسادة , فوجدت مفتاح قفل صغير هناك .. أخذته وعدت الى الصندوق ,أدخلته في فتحة القفل وحركته فيه فانفتح .. سحبت القفل من مكانه ووضعته جانباً , رفعت غطاء الصندوق حتى لاصق السرير بيد , ومددت اليد الأخرى الى داخله , فاصطدمت بأكياس من النايلون , مسكت ما استطاعت يدي أن تمسكه منها, وأخرجتها الى الخارج , ووضعتها بجانبي على مصطبة البيت ..
وأكملت ” غرف ” محتويات الصندوق .. حتى أفرغته من كلِّ ما فيه ..
كانت كلّها مستندات ووثائق مغلَّفة بأغلفة من النايلون ..
تناولت الوثيقة الأولى .. أخرجتها من كيس النايلون .. كانت كواشين الأرض التركية .. ووثائق تقسيمها بين إخوته وأولاده , والخرائط المرافقة لها ..
وصولات دفع ضرائب الأرض .. ووثائق كثيرة أخرى ..
لفت انتباهي وثيقة زواجه من جدتي .. كانت مكتوبة باللغة العربية فقط .. قرَّبتها من عيني وقرأت : المملكة الأردنية الهاشمية ..!
مؤرَّخة 25 من شهر تموز سنة 1950..
فغامت الدُّنيا في وجهي ..
في هذه السنة , كانت برطعة مقسَّمة الى قسمين : الغربية والشرقية ..!
جدّي عاش ودفن في برطعة الغربية ..
ما السرُّ الذي يكمن وراء , كون وثيقة زواجه أردنية !؟
قرأت أسماء مأذون الزواج والشهود , لقد كانوا جميعهم من أقربائنا في برطعة الشرقية ..
ومما زاد الأمور تعقيداَ وإبهاماَ , أنني ترعرعت , وها أنا وصلت الى سن الشباب , وأنا أعرف ان جدَّتي ” جاءت ” غريبة من الجليل .!
كنت أمسك بالوثيقة بيدّي مسلِّطاً عيني فيها .. عاجزاً عن تفسير طلاسمها ..
وإذا بيدٍ تربت على كتفي , وتنشلني من هذا الحوّأم , الذي غرقت فيه ..
التفت الى الوراء فاصطدمت عيناي بعيني أبي .! كانت ابتسامة غريبة تحتوي على كل َّ معاني الاحتواء تنتشر على صفحات وجهه ..
تناول الوثيقة من يدي وقرّبها من نظّارته السميكة ..
وبدأ يحكي الحكاية .. حكاية برطعة .. حكايتها مع جدّي وجدتي ..
وبدأ يروي لي القصة , كما سمعها من جدي, .. و الذي كان من القليلين , الذين عرفوا سرَّها الدفين..! :
” كنت خاطباً لأمك ابنة عمّي عندما جاء اليهود في الثماني وأربعين ,وعندما قُسِّمت برطعة الى شرقية وغربية , فصل الوادي الذي أصبح حدّأً بين البرطعتين .. بيتنا في الغربية وبيت فاطمة خطيبتي وابنة عمي في الغربيه .! .”
أحبُّبتها الى درجة الجنون .!”
كان جدُّك يقول عندما كان يبدأ بسرد حكايته :
“عندما تعلَّمت غزل الطواقي , غزلت لي الطقيَّة الأولى .. وأرسلتها إليَّ سرّاً ..
كنا في الثامنة من عمرنا , عندما مسكت بيدها , وأخذتها معي وأجلستها بجانبي في الكتّاب .. كانت أول بنت من القرية تتعلّم فيه .!
قبلها الشيخ لأنها كانت ابنة أخ المختار .!”
***************
” كنت في بيتهم أجلس مع أبي على مصطبة بيتهم .”.
كانت تغرّق عيني جدِّك بالدموع , عندما يحكي ذكريات يوم إعلان الانفصال ولكنه كن يقاوم غرقه في ذكريات حزنه المؤلمة , ويصرُّ على إكمال القصة :
“عندما سمعنا المنادي يعلن عن تقسيم البلد الى شطرين .. و أن الودي أصبح الحد الفاصل بينهما ..وعلى المتواجدين في الشَّطرين أن يعود كلُّ واحد منهم الى الشطر الذي يسكن فيه .!
في البداية لم تستطع قوى فهمي , أن تدرك أو تفسِّر ما يقول ..
خرجت فاطمة من الغرفة , التي كانت تتواجد فيها في تلك اللحظة , ودخلت الى الديوان .. دخلت علينا تبكي .. تبكي بنحيب مجنون ..
لقد سمعتْ إعلان الانفصال ..
*************
هربت من أمامها .. قطعت الوادي الذي لا يبعد عن دارها سوى بضع عشرات من الأمتار , ودخلت بيتنا الذي يبعد نفس البعد عن الوادي , ولكن من الناحية الغربية ..
دخلت غرفتي وألقيت بنفسي على سريري ..
وأغلقت تفكيري ..أغلقت كلَّ منافذه .. جعلته يعيش في شلل تام .. طردت كلَّ فكرة تحاول الدخول إليه ..
ولكن لحين ..
بدأت تتكشَّف الأمور .. وبدأت الساعات والأيام تكشف عن ظلمات البئر الذي رمونا فيه .!
كان يتوٌّقف عن الكلام , وينظر الى عينيَّ , ليرى تأثير أحداث القصة عليَّ ويستمر بسردها:
يا ولدي – فرضوا علينا أن نعيش في بلد هاجمته سكين وشطرته شطرين .. يفصل بينهما واد عرضه أمتار قليلة .. وتفصله عوالم مسافات بعدها أكوان .. بحار ومحيطات ..
كلّ شطر من البلد سيتبع الى دولة أخرى .. عالم آخر .. شمس أخرى .. بلدان بينهم عداء ومقاطعة تامة .. حدود مغلقة لا ينفذ منها إلا الريح والعصافير ..
الأخ سينفصل عن أخيه والأب عن بنيه , والصديق عن صديقه حتى الجار عن جاره ..” .
كان جدُّك يقف هنا , ويخرج من علبته سيجارة أخرى , ليطفئ النار التي تنامى اشتعالها في داخله .. ليتمكّن من إكمال قصته مع فاطمة :
ومعنى ذلك أن الحبيب سينفصل عن حبيبته .. أننا – أنا وفاطمة – سيفصل بيننا وادي المستحيل .!
ولكن صممنا , أنا هي , أن نقهر المستحيل ..أن نقهر الوادي .!
في البداية بدأنا نلتقي على حافتيّ الوادي ..نحكي لغة أشجان المحبين , فإذا شعرنا بقدوم جنود حرس الحدود , نهرب مسرعين ونختفي في بيوتنا ..
في إحدى المرات قبض علينا جنود “بالجرم” المشهود , ولما حققوا معنا وتأكدوا من حكايتنا , أبلغونا أننا لا نخالف القانون , ما دمنا لا نقطع الوادي ..
كان مع الجنود من كلا الدولتين , أوامر بإطلاق النار , على كلِّ من يحاول قطع الوادي الى الجهة الأخرى .. وكثر المتعاونين مع السلطة ,الذين كانوا يخبرنها عن كلِّ متسلل ..وكان كلّ من يقع منهم في أيديهم , يتعرَّض للتعذيب والسجن ..
فكنت أجلس على سطح دارنا ساعات طوال , حتى أتأكد من خلو جانبي الوادي من حرس الحدود , فأقطعه بكل ما أتيت من قوة حتي أدخل دار عمي ..
وعند رجوعي كانت سميرة, تصعد الى سطح بيتهم تراقب الوادي , فإذا تأكَّدت من خلوه من العسكر , تنزل عنه وتعطيني الإشارة , فأقطع الوادي بسرعة لأعود الى بيتي .!
واستمرَّ الوضع على هذا الحال ما يقارب السَّنة .!”
ويخرج سيجارة أخرى من علبته ويشعلها .. ويتأنى في بثِّ دخانها .. ربما كيّ يعطيني جرعة من الراحة أتمالك فيها نفسي وأستعدُّ لسماع البقيّة من أحداثها ..
ويستمرُّ في إكمال القصة :
” سألني – يا بنيَّ- جدُّك في أحد الأيام , عن موعد زيارتي القادمة لبيت عمي , فأجبته بعد يومين إذا خلت الطريق من حرس الحدود ..
سأكون في مرافقتك .! قال بلهجة من قرَّر قراراً لا يحتمل أية مناقشة .
ولكن يا أبي الطريق مليئ بالمخاطر .! أجبته بنغمة الخوف من العواقب .
انه لأمر هام لا بدّ من البتِّ فيه .! أسكتني بصوت مقهور ..
قطعنا أنا وأبي الوادي بعد تفحَّصناه , وتأكدنا أن الطريق سالكة ..
عند وصولنا بقينا ,أنا وسميرة , لوحدنا واختلا أبي بعمّي في غرفة أخرى, وبعد وقت طويل ,عادا وأسرعنا لقطع الوادي , وقبل ان نصل الى بيتنا , نظر أبي حوله وهمس في أذني بلهجة تعبّر عن أمر في غاية الخطورة :
– سنعود الى بيت عمّك غداً .!
– لماذا .!؟
– ستعرف عندما نصل البيت. ! أجاب بلهجة آمرة تفهمني أن هذا الكلام ليس وقته .!
وفي اليوم التالي رجعنا الى بيت عمّي ..
وكان المأذون والشهود في انتظارنا ..وخرجنا بعقد زواج أردنيُّ الجنسيَّة.!
وبعد أسبوع أقيمت حفلة زفاف , لي ولفاطمة , من كلا جانبي الوادي ..
أعلن على الملأ أن عريسها أحد معارفهم من بدو الغور .. وأما عروستي فهي من عرب الطبّاش ,تعرّف عليهم أبي في تجارته مع أهل الجليل .!
وفي الليل قطعت سميرة الوادي خفيَّة ..
وعاشت أمك هنا في برطعة الغربية , وهي لا تحمل الهوية الاسرائيلية..
عشنا , أنا وهي , كلَّ هذه السنين في خوف وهلع , من أن يكشف سرّها .. سيكون عقابها الطرد وفراق أولادها .. وعقابيَّ السجن والغرامات !” .
هذه قصة جدِّك- يا ولدي- كما رواها لي .. وها أنا أنقلها لك ..
قمت من مكاني, وخرجت من غرفة جدّي , وأنا أشعر أني أحمل حملاً ثقيلاً .. مثقلاً بالآلام التي لا تُنسى , وأعيش آثارها المدمِّرة عل حياتي , وعلى حياة من يأتي من بعدّي .. وتركت أبي هناك .!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة