كن إنسانًا أولاً… ثم حدّثني عن الدين
بقلم: رانية مرجية – الرملة
تاريخ النشر: 30/06/25 | 20:02
حين سمعت العبارة أول مرة: “كن إنسانًا أولاً، ثم حدّثني عن الدين”، لم أسمعها فقط بأذني، بل ارتجّت في أعماقي كناقوس يُقرع من مكان بعيد… كأنها جاءت لتوقظ فينا سؤالًا مؤجَّلًا: هل يمكن للدين أن يكون ستارًا نغطي به خيبتنا الأخلاقية؟ وهل صرنا بحاجة إلى التذكير بأن الله لا يسكن في الشعارات، بل في النوايا والأفعال؟
لقد صرنا نعيش في زمن يعلو فيه صوت الوعّاظ أكثر من صوت المتألمين. زمن يُرفع فيه كتاب الله على لافتات المتعصّبين أكثر مما يُفتح في حضن فقير أو على سرير مريض أو في يد طفل يتيم. وصرنا، للأسف، نُقاس بمقدار التزامنا الظاهري بالشعائر، لا بمقدار ما نحمله من رحمة، وصدق، وكرامة، وإنصاف.
أيُّ دين هذا الذي لا يرتجف غضبًا حين يُظلم إنسان؟
أيُّ إيمان هذا الذي لا ينكسر حين يُهان الفقير باسم الله؟
أيُّ تدينٍ هذا الذي يزرع الفُرقة، ويُجيز الغدر، ويُشيد الأسوار بدل الجسور؟
أنا لا أكتب ضد الدين – حاشا لله – بل أكتب دفاعًا عنه.
أدافع عن وجهه الحقيقي، عن معناه الأول، عن روحه التي تمشي حافيةً بين الناس، تُطعم، وتغفر، وتحتضن. أكتب لأقول: إن الدين الذي لا يُترجم إلى إنسانية، ليس من الله، بل من صُناع الكراهية في معابد النفاق.
لقد رأينا من يذبح باسم العقيدة، ويُكفّر باسم الفتوى، ويجلد باسم العفّة، ويُقصي باسم النقاء… وكلّهم، دون استثناء، نسوا أن أول ما أنزله الله في كلّ الديانات لم يكن قانونًا ولا سيفًا، بل وصيّة بسيطة: “لا تقتل، لا تظلم، لا تكذب، لا تزِنِ، لا تشتهي ما ليس لك”.
ما أغربَ البشر حين يُطيلون صلاتهم ليبرّروا قسوتهم، ويَخشون الله في لباس امرأة، ولا يَخشونه في دَمعة يتيم.
الدين الذي لا يزرع التواضع، ليس دينًا…
والدين الذي لا يحمي كرامة الإنسان، ليس سوى قناعٍ خادعٍ لمشاعر متعفّنة.
لقد علّمتني التجارب، أنّ الذين يحملون أنبل القيم، هم أولئك الذين لا يتباهون بإيمانهم، بل يُترجمونه في لحظة عطش، أو كلمة طيّبة، أو وقفة حقّ.
في قريتي، كانت جدتي تُصلّي بخشوع، لكنّها لم ترفع صوتها يومًا لتُخبرنا كم ركعة صلّت. كانت تصوم، لكنّها تفطر على خبز تقاسمته مع جارٍ جائع. كانت تلبس ثوبًا بسيطًا، ولكن وجهها كان يضيء من طهارة قلبها.
وأنا، كلما فكّرتُ في صورة الدين الحقّ، تذكّرت يديها… يدين ترتجفان حين يُطرق الباب في الليل، لأن خلفه إنسان قد يحتاج لقلبٍ لا لمحاضرة.
يا صديقي…
حدّثني عن الدين فقط إن كنت قد جرّبت الجوع، فشبعت ولم تنسَ الجائع.
حدّثني عن الإيمان فقط إن كنت قد تذوّقت الظلم، فرفضته حتى حين كنت في موضع قوّة.
حدّثني عن التقوى فقط إن كنت لا تغتاب، ولا تجرح، ولا تحكم على الناس كأنك الله.
إنسانيتك هي جواز سفرك إلى الله…
فإن مزّقتها لتدخل معسكر الطقوس فقط، فاعلم أن الرحلة انتهت قبل أن تبدأ.
نعم، كن إنسانًا أولًا، ثم حدّثني عن الدين.
لأن الله لا يعبد بالكلمات فقط، بل بما نصنعه من نور للآخرين… وما نمنعه عنهم من ظلام