هناك أمم اذا اضطهدت نهضت

تاريخ النشر: 06/02/20 | 9:32

بقلم: إبراهيم أبو صعلوك
تعيدنا “صفقة القرن” التي خفضت أقواما ورفعت أخرين، إلى مدرسة التاريخ البشري التي علمتنا أن أمم الأرض برمتها ومن ضمنها الأمة الإسلامية، قد تعرضت على مر العصور والأزمان للاضطهاد، من قبل غيرها من الأمم التي فاقتها غلبة وقوة، حين هوت تلك الأمم المغلوبة. ومن عجيب المفارقات أن سبب سقوط الأمم المغلوبة والمضطهدة يكاد يكون واحدا لا ثان له، ينحصر في تهاوي تمسك هذه الأمم بماضيها وامتدادها التاريخي، ومن عجيب المفارقات أيضا أن هذا التاريخ ذاته يشكل في الوقت نفسه الحصن الحامي لها من الانقراض والذوبان، والوقود الدافع لها على النهوض ثانية بعد الغلبة والاضطهاد ما دامت متشبثة به. فكلما كان هذا التاريخ عريقا وراسخا في نفوس أهله ويعتبر في نظرهم ارثا دينيا، ثقافيا واخلاقيا كانت فاعليته كدافع للنهوض أكبر وأكبر، فضلا عن ذلك تشكل طبيعة ونشأة الأمم نفسها دافعا لنهوضها من السقوط أيضا.
شهد المسلمون كغيرهم من الأمم أزمات شديدة على مر العصور، حيث بدأت رحلة المسلمين مع الأزمات، بوفاة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبعدها مباشرة حروب الردة التي ظن من شنها أنه يمكنه القضاء على الإسلام والمسلمين، تماما كما هو الحال في جميع العصور التي عقبت تلك الحقبة، فالكفر ملة واحدة وإن اختلفت الأماكن الأزمان، والحق حق وأن عدلت أو جارت الأيام والأزمان. لكن المسلمون نهضوا بعدها بفضل تمسكهم بماضيهم الديني وبفضل طبيعة نشأنهم العربية التي تأبى الذل والمهانة، وفتحوا بلاد الدنيا شرقا وغربا حتى بلغوا أقصى شرق أسيا والأندلس غربا.
ولكن كما قال أبو البقاء الرندي حين رثى الأندلس:
“هِـيَ الْأُمُـورُ كَـمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ مَـنْ سَـرَّهُ زَمَـنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ”‏
دارت الأيام على المسلمين، فاحتل الصليبيون في عام 1099 الكثير من البلاد الإسلامية بما في ذلك القدس، وعثوا فيها تخريبا وتقتيلا، فكان ذلك الاضطهاد دافعا ليعود الحق إلى أهله وينتصر المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين عام 1187م. فقال الشاعر الرشيد بن بدر النابلسي مادحا صلاح الدين الأيوبي، ومبيننا أن الزمان يعتذر الأهل الأمجاد عن زلاته وهفواته فقال:
هذا الفتوحُ الذي جاء الزمانُ به إليك من هفوات الدهر يعتذرُ
تَجُلّ علياه عن دح يُحيط بــــــــه وصفٌ وإن نظم المّدَاح أو نثروا

لكن كما قيل لكلّ جواد كبوة، كبى المسلمون ودُمرت عاصمتهم بغداد على يد المغول عام 1258 وذاقوا من الذل والهوان أشكال وألوان، ‏‏عبر عنه تقي الدين إسماعيل التنوخي واصفا حال بغداد بقوله:
‏ يَا زَائِرِينَ إِلَى الزَّوْرَاءِ لاَ تَفِدُوا -فَمَا بِذَاكَ الحِمَى وَالدَّارُ دَيَّارُ
تَاجُ الخَلِيفَةِ وَالرُّبْعُ الَّذِي شَرُفَتْ بِهِ المَعَالِمُ قَدْ عَفَاهُ إِقْفَارُ
ومثله شمس الدين الكوفي حين قال في رثاء بغداد:
قف في ديار الظاعنين ونادهـا -‏((يا دار ما فعلت بـك الأيـام؟))‏
أعرضت عنك لأنهم قد أعرضوا – لم يبق فيـك بشاشـة تستـام
يا دار أين الساكنون وأيـن -ذياك البهـاء وذلـك الإعـظـام
يا دار أين زمان ربعـك مونقـاً -وشعـارك الإجـلال والإكـرام
يا دار مذ أفلت نجومـك عنـا -والله من بعـد الضيـاء ظـلام

وسطرت كتب التاريخ وصف هذا الحال الذي تجلى في خراب مكتبة بغداد التي حوت من العلوم ما كان يمكنه نفع ‏‏الإنسانية حتى أخر أيامها، وفي قتل ما يزيد على 90000 مسلم.
لكن النصر العائد إلى التمسك بالماضي وأمجاده، لم يتأخر فجاءت معركة عين جالوت في 25 رمضان في عام 1260 للميلاد، لتعيّد أمجاد بني الإسلام ثانية.
ولكن الأيام دول تتولى فيها المصائب فتنسي المتأخرة منها السابقة، كما قال أبو البقاء الرندي ضمن قصيدته التي رثى فيها الأندلس:
تِـلكَ الـمُصِيبَةُ أَنسَت ما تَقَدَّمَها وَمـا لَـها مِن طِوَالِ المَهرِ نِسيانُ
جاء سقوط الأندلس وانتهاء حكم المسلمين للجزيرة الأيبيرية على مدار زهاء ثمانية قرون، مدويا حيث انسى المسلمين جميع الاضطهاد الذي تعرضوا له ولكن سقوط الأندلس ما له نسيان نظرا لبشاعة جرائم الفرنجة حيث يقول الرندي واصفا ذلك:
يا رُبَّ أمٍّ وَطِـفلٍ حـيلَ بينهُما – كَـمـا تُـفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبـدانُ
وَطفلَة مِثلَ حُسنِ الشَمسِ إِذ برزت – كَـأَنَّما هـيَ يـاقُوتٌ وَمُـرجانُ
يَـقُودُها الـعِلجُ لِلمَكروهِ مُكرَهَةً – وَالـعَينُ بـاكِيَةٌ وَالـقَلبُ حَيرانُ
مع ذلك ومادام سقوط الأندلس ما له نسيان ومادام المسلمون يهبون واقفين رغم الكبوات، لتمسكهم بتاريخهم وصلابة عودهم وطبيعتهم العربية التي تأبى وتعاف الذل والهوان، كما وصفها صفي الدين الحلي:
إذا جرينا إلى سبقِ العُلى طلقاً، -إنْ لم نكُنْ سُبّقاً كُنّا مُصَلّينا
تدافعُ القدرَ المحتومَ همّتُنا، -عنّا، ونخصمُ صرفَ الدّهرِ لو شينا
نَغشَى الخُطوبَ بأيدينا، فنَدفَعُها، -وإنْ دهتنا دفعناها بأيدينا
مُلْكٌ، إذا فُوّقت نَبلُ العَدّو لَنا -رَمَتْ عَزائِمَهُ مَن باتَ يَرمينا
عَزائِمٌ كالنّجومِ الشُّهبِ ثاقِبَة -ما زالَ يُحرِقُ منهنّ الشيّاطِينا
وكما أثبت التاريخ، وما دام لم يفلح ما حل بهم من ذل هوان على مر التاريخ أن يقضي عليهم كغيرهم من الأمم التي لم يبقى لها أثر مثل الفراعنة، السامريون، الرومان وغيرهم، ستكون صفقة القرن كمن سبقها من الكوارث التي حلت بالأمة الإسلامية دافعا للنهوض من جديد، لأن هناك أمم اذا اضطهدت نهضت.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة