تحليل موسع مستلهم من كتاب “العقل المحاصر” لمروان دويري

بقلم: إيمان مصاروة الناصرة

تاريخ النشر: 25/06/25 | 14:46

العقل في متاهته: تفكيك أنماط التفكير المعيقة وبناء مشروع النهضة في المجتمع العربي – قراءة معمقة في كتاب ‘العقل المحاصر’ لمروان دويري”

تحليل موسع مستلهم من كتاب “العقل المحاصر” لمروان دويري
العقل المحاصر: قراءة في أنماط التفكير المعيقة لنهضة المجتمع العربي

……………….

مدخل: جرح الوعي العربي
في زمن تتكاثف فيه أزمات الفكر والسياسة والاجتماع في العالم العربي، يطل علينا كتاب “العقل المحاصر: أنماط التفكير المعيقة لنهضة المجتمع العربي” لمروان دويري كصرخة عميقة في وجه الركود الذهني، ومحاولة جريئة لتشريح جذور العجز الحضاري الذي ينهش جسد الأمة. ينتمي هذا العمل إلى طليعة الكتب التي تجرؤ على اقتحام مناطق محرمة في الوعي الجمعي، متجاوزًا سطح الأعراض إلى جذر الداء: أنماط التفكير المتكلسة التي تشكلت عبر قرون من التراكم الثقافي والسياسي، وأصبحت قيدًا على العقل العربي في سعيه نحو النهضة والتحرر.

بنية الكتاب: بين التحليل النفسي والمنظور المنظومي
ينطلق دويري من خلفيته العميقة في علم النفس العلاجي والتربوي، ويستثمر خبرته في البحث المقارن بين الثقافات ليبني أطروحته على أرضية علمية راسخة تجمع بين التحليل النفسي والمنهج المنظومي-الخوارزمي. لا يكتفي المؤلف بتشخيص سطح الظاهرة، بل يغوص في تحليل أنماط التفكير والمواجهة التي تهيمن على الشخصية العربية، محاولًا تفكيكها إلى عناصرها الأولية، وربطها بمسارات التاريخ والثقافة والسياسة.
يبدأ الكتاب بتأصيل نظري لمفهوم “النقلة” في الشخصية والثقافة، ويستعرض كيف تنتقل أنماط التفكير من جيل إلى جيل، وتتشكل في ظل سلطات متداخلة: سلطة الصحراء، سلطة القبيلة، سلطة النص، وسلطة الموروث الديني والثقافي. ثم ينتقل إلى تحليل الثقافة الجماعية العربية في مقابل الثقافة الفردانية الغربية، ويستعرض كيف تكرّس البنى السلطوية والهرمية أنماطًا من التفكير الخاضع، وتعيد إنتاجها عبر مؤسسات التربية والدين والسياسة.
أنماط التفكير المعيقة: قوالب ذهنية في قبضة التاريخ
يقدّم دويري تحليلاً معمقاً لأنماط التفكير التي تعيق النهضة، ويصفها بأنها “نظارات” يرتديها الإنسان العربي دون وعي، فتلوّن إدراكه للعالم وتحدد ردود أفعاله تجاه الأحداث الشخصية والجمعية والسياسية. من بين هذه الأنماط: العزو الخارجي وغياب المسؤولية الذاتية، الخضوع للسلطة والتفكير القدري، التمسك بالمرجعيات التقليدية الجاهزة، الانغلاق أمام الثقافات الأخرى، تغليب معيار الحق على معيار الجدوى، النزعة الإقصائية والتخوينية، وتضخم الشعبوية على حساب الموقف المبدئي.
يحلل الكتاب كيف أن هذه الأنماط ليست مجرد ظواهر نفسية فردية، بل هي نتاج بنى اجتماعية وثقافية متجذرة، تتغذى من تفاعل معقد بين السلطة السياسية والدينية، وبين اللغة والموروث، وبين آليات التربية والتنشئة الاجتماعية. ويؤكد أن هذه القوالب الذهنية تخلق حالة من العجز الجمعي، تجعل المجتمع العربي أسيرًا لدائرة مفرغة من إعادة إنتاج الفشل، وتمنعه من بناء مشروع نهضوي حقيقي.

نحو تحرير العقل: من النقد إلى الأفق
لا يقف دويري عند حدود التشخيص، بل يطرح في الفصل الأخير من الكتاب مسارات للخروج من أسر التفكير المعيق. يشدد على أن أي مشروع للتحرر الوطني أو الاجتماعي يجب أن يبدأ بتحرير العقل من قيوده وقوالبه، لأن العوامل الخارجية مهما بلغت خطورتها، لا يمكن مواجهتها بفاعلية إلا إذا امتلك الفرد والمجتمع أدوات نقد الذات وتطويرها.
يستند المؤلف إلى نظريات العلاج النفسي ونظريات الديالكتيك والمنهج المنظومي، ليقترح أهمية كشف الصراع النفسي الداخلي، وتفعيل الحوار بين النقائض، والانتقال من المرجعية القبلية الاصطفافية إلى المرجعية المبدئية الأخلاقية، وتكريس الفكر التعددي وقبول الآخر. يدعو الكتاب إلى إعادة بناء مناهج التفكير والتربية، وتطوير أدوات تحليل الواقع وصناعة السياسات، من خلال اعتماد تقنيات علمية مثل بناء السيناريوهات والدراسات المستقبلية، بما يتيح للمجتمع العربي تجاوز حالة الجمود والانغلاق والانطلاق نحو أفق التجديد والإصلاح.

قيمة الكتاب وإضافته الفكرية
يمثل “العقل المحاصر” إضافة نوعية للمكتبة العربية والفلسطينية، ليس فقط بسبب جرأته في تناول المسكوت عنه، بل أيضاً لعمق تحليله وتكامله المنهجي. يجمع الكتاب بين الرؤية النقدية الجذرية، والطرح العلمي الرصين، واللغة الأدبية المحكمة، مما يجعله نصًا مفتوحًا للحوار بين مختلف التخصصات: علم النفس، الفلسفة، الاجتماع، السياسة، والتربية.
إنه كتاب يطالب القارئ بأن يخلع نظاراته المعتادة، وأن يجرؤ على مساءلة المسلمات، وأن يخوض مغامرة تحرير العقل من حصاره الطويل. وفي زمن تتكاثر فيه الدعوات السطحية للإصلاح، يذكّرنا دويري بأن النهضة الحقيقية تبدأ من الداخل، من نقد أنماط التفكير قبل نقد السياسات والهياكل، ومن تحرير الذات قبل تحرير الأرض.

خاتمة: دعوة للتأمل والعمل
” العقل المحاصر” ليس مجرد كتاب في التشخيص أو التحليل، بل هو مشروع فكري متكامل يدعو إلى ثورة هادئة في بنية الوعي العربي. إنه يضع أمامنا مرآة صادقة، ويطالبنا بشجاعة النظر فيها، لا لنجلد الذات أو نبرئها، بل لنمتلك الشجاعة في تغييرها. في ظل الأزمات المتراكمة، تبقى دعوة دويري لتحرير العقل العربي من قوالبه الصلبة هي الخطوة الأولى نحو نهضة منشودة، تبدأ من الذات وتمتد إلى المجتمع، وتعيد للعقل العربي قدرته على الحلم والفعل معًا.

الفصل الأول: الإطار النظري والمنهجي
(مستند إلى الكتاب الأصلي وبتوسعة تحليلية أدبية)
مدخل إلى الإطار النظري:
يضع مروان دويري في كتابه “العقل المحاصر: أنماط التفكير المعيقة لنهضة المجتمع العربي” أسسًا نظرية متينة لتحليل أزمة النهضة في المجتمعات العربية، منطلقًا من قناعة أن أي محاولة لفهم تعثر المشروع النهضوي العربي لا بد أن تبدأ من دراسة البنية الذهنية والثقافية التي تتحكم في أنماط التفكير والمواجهة لدى الأفراد والجماعات. إن الإطار النظري هنا لا ينحصر في مقاربة واحدة، بل هو تداخل خلاق بين التحليل النفسي، والمنظور المنظومي (Systemic-Algorithmic Approach)، والجدل الديالكتيكي، مع استلهام أدوات علمية وفلسفية واجتماعية متنوعة1.
1. التحليل النفسي للشخصية العربية:
ينطلق دويري من فرضية أن الشخصية العربية، كغيرها من الشخصيات القومية، تتشكل عبر تداخل معقد بين الفردي والجمعي، وبين الوعي واللاوعي، وأن كثيرًا من أنماط التفكير والمواجهة السائدة هي في جوهرها أنماط دفاعية تشكلت استجابة لتجارب تاريخية وجماعية طويلة الأمد.
يستعير المؤلف مفهوم “النقلة” (Transference) من التحليل النفسي، ليحلل كيف تنتقل أنماط التفكير من جيل إلى جيل، وكيف يعيد الأفراد إنتاج قوالب ذهنية جماعية دون وعي، فتغدو هذه الأنماط بمثابة “نظارات” يرى الإنسان من خلالها العالم، وتحدد ردود أفعاله تجاه الأحداث الشخصية والاجتماعية والسياسية. يذهب دويري إلى أن هذه النقلة ليست مجرد عملية نفسية فردية، بل هي عملية ثقافية جماعية، تتجذر في التجربة التاريخية للأمة، وتعيد إنتاج نفسها عبر التربية، والدين، واللغة، والمؤسسات الاجتماعية. وهنا يبرز سؤال الصحة النفسية والمجتمعية: كيف يمكن لمجتمع أن يحقق التوازن بين حاجته للثبات والاستقرار (وهو ما توفره القوالب الذهنية) وبين حاجته للتجديد والتكيف مع المتغيرات؟ يرى دويري أن المجتمع العربي عالق في حالة ركود ذهني، حيث تحولت أنماط التفكير الدفاعية إلى عوائق أمام التغيير، وأصبحت جزءًا من الهوية الجمعية.
2. التوجه المنظومي-الخوارزمي (Systemic-Algorithmic Approach):
لا يكتفي دويري بالتحليل النفسي، بل يوسع أفق التحليل إلى المنظور المنظومي، الذي ينظر إلى المجتمع والثقافة بوصفهما منظومات معقدة تتفاعل فيها عناصر متعددة: الفرد، الجماعة، السلطة، اللغة، الدين، الاقتصاد، إلخ.
في هذا السياق، يعتمد المؤلف على أدوات تحليلية مثل بناء السيناريوهات، ودراسات المستقبل (مصفوفة التأثير المتبادل، دولاب المستقبل، وزن السيناريوهات)، ليؤكد أن أي تغيير حقيقي في المجتمع لا بد أن ينطلق من فهم شامل للعلاقات المتبادلة بين عناصر المنظومة، وأن التركيز على عنصر واحد (السياسة أو الاقتصاد أو التعليم فقط) دون بقية العناصر محكوم عليه بالفشل.
يؤكد دويري أن الجمود في نمط التفكير العربي لا يعود فقط إلى عوامل نفسية أو ثقافية، بل هو نتاج تفاعل منظومي بين سلطات متعددة: سلطة الصحراء، سلطة القبيلة، سلطة النص، سلطة الموروث الديني والثقافي، وسلطة السياسة والاقتصاد. هذه السلطات تتشابك وتعيد إنتاج نفسها عبر آليات التربية والإعلام والمؤسسات، فتخلق حالة من “الحصار الذهني” يصعب كسره إلا بتغيير جذري في بنية التفكير والمنظومة ككل.
3. نقد التوجهات الفكرية الجامدة والاختزالية:
ينتقد دويري التوجهات الفكرية الجامدة التي تسيطر على العقل العربي، سواء كانت دينية أو أيديولوجية أو علمية. فهذه التوجهات تميل إلى اختزال الواقع المعقد إلى ثنائيات بسيطة (خير/شر، نحن/هم، حق/باطل)، وتبحث عن أجوبة جاهزة ونهائية، وتخشى الشك والتعددية والحوار. كما ينتقد التوجهات العلمية الاختزالية والسببية التي تتجاهل تعقيد المنظومات الاجتماعية والثقافية، وتحاول تفسير الظواهر البشرية بقوانين ميكانيكية أو اقتصادية أو بيولوجية بحتة. يؤكد المؤلف أن النهضة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تجاوز هذه التوجهات الجامدة، وتبني منظور جدلي (ديالكتيكي) ومنظومي يقر بتعدد العوامل وتفاعلها، ويحتفي بالحوار بين النقائض، ويبحث عن حلول مركبة ومرنة بدل الحلول الجاهزة والبسيطة.
4. المنهج المقارن بين الثقافات:
يستفيد دويري من خبرته في البحث المقارن بين الثقافات، ليقارن بين أنماط التفكير والمواجهة في المجتمعات العربية ونظيراتها في المجتمعات الغربية والآسيوية. ويخلص إلى أن كثيرًا من أزمات النهضة في العالم العربي تعود إلى هيمنة ثقافة جماعية سلطوية، تكرّس الخضوع للسلطة والعزو الخارجي والانغلاق، في مقابل ثقافة فردانية غربية تشجع على المبادرة وتحمل المسؤولية والانفتاح على الآخر. هذه المقارنة ليست دعوة للاستلاب أو التقليد، بل محاولة لفهم نقاط القوة والضعف في كل ثقافة، واستلهام الدروس التي يمكن أن تساعد في بناء مشروع نهضوي عربي أصيل، قادر على التفاعل مع العصر دون أن يفقد هويته.
5. أدوات البحث والتحليل:
اعتمد دويري في بناء كتابه على مزيج من الأدوات البحثية:
• التحليل النفسي العميق للنصوص والسلوكيات الفردية والجماعية
• الدراسات المقارنة بين الثقافات
• بناء السيناريوهات المستقبلية وتحليل المنظومات
• نقد الخطاب الديني والسياسي والإعلامي
• الاستفادة من الأدبيات الفلسفية والاجتماعية والنفسية الحديثة
هذا التنوع في الأدوات يعكس قناعة المؤلف بأن أزمة النهضة العربية هي أزمة معقدة ومتعددة الأبعاد، ولا يمكن فهمها أو معالجتها إلا عبر مقاربة شمولية تدمج بين التحليل النفسي، والمنظور المنظومي، والمنهج المقارن، والنقد الجذري للخطابات السائدة.

خاتمة الفصل:
يضع هذا الإطار النظري والمنهجي القارئ أمام مسؤولية مزدوجة: مسؤولية نقد الذات وتفكيك أنماط التفكير المعيقة، ومسؤولية إعادة بناء المنظومة الفكرية والثقافية للمجتمع العربي على أسس جديدة تحتفي بالحوار، والتعددية، والتكامل بين الفرد والجماعة، وبين الثبات والتجديد. إنه دعوة للانفتاح على أدوات البحث العلمي الحديث، دون الوقوع في فخ الاستلاب أو التقليد الأعمى، ودعوة لتحرير العقل العربي من حصاره الطويل، ليصبح قادرًا على الحلم والفعل معًا.

الفصل الثاني…
الثقافة الجماعية والفردانية

مدخل: جدلية الجماعة والفرد في تشكيل العقل العربي
يحتل موضوع الثقافة الجماعية مقابل الثقافة الفردانية موقعًا مركزيًا في تحليل مروان دويري لأنماط التفكير العربية المعيقة للنهضة. فالثقافة ليست مجرد تراكم عادات وتقاليد، بل هي منظومة عميقة من القيم والتصورات التي تحدد علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالسلطة والمجتمع. وفي السياق العربي، يبرز الطابع الجماعي للثقافة كإحدى السمات الجوهرية التي تميز الشخصية الجمعية، وتنعكس بقوة على أنماط التفكير والمواجهة، وعلى آليات اتخاذ القرار، ومفهوم المسؤولية، وحدود المبادرة الفردية.
أولًا: ملامح الثقافة الجماعية العربية
يذهب دويري إلى أن الثقافة العربية، منذ تشكلها التاريخي، اتسمت بطغيان الجماعة على الفرد، وبهيمنة قيم الانتماء والولاء والاصطفاف على حساب قيم الاستقلالية والمبادرة الذاتية. تتجلى هذه السمات في عدة مظاهر:
المبنى السلطوي الهرمي:
المجتمع العربي تقليديًا مجتمع هرمي، تتدرج فيه السلطة من الأعلى إلى الأسفل، من شيخ القبيلة أو زعيم العشيرة إلى رب الأسرة، ومن الحاكم إلى المحكوم. هذا الهيكل السلطوي لا يقتصر على السياسة، بل يتغلغل في كل مفاصل الحياة: في العائلة، في المدرسة، في العمل، وحتى في العلاقات الدينية. ويخلق هذا النمط علاقة رأسية بين الفرد والجماعة، حيث يُتوقع من الفرد الطاعة والانصياع، ويُعتبر الخروج عن الجماعة خيانة أو تمردًا.
الهوية الجمعية
تتشكل هوية الفرد العربي غالبًا من خلال انتمائه إلى جماعة أوسع: العائلة، العشيرة، الطائفة، الأمة. وتغدو قيمة الفرد مرهونة بموقعه داخل هذه الجماعة، لا بإنجازاته أو خصائصه الذاتية. هذا النمط يعزز الشعور بالتماهي مع الجماعة، لكنه في الوقت ذاته يحد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات مستقلة، ويجعل من الصعب عليه تحمل المسؤولية الشخصية عن أفعاله.
سلبية الأمر الواقع وقبوله وإلقاء المسؤولية على عوامل خارجية:
في الثقافة الجماعية، كثيرًا ما يُنظر إلى الظروف الخارجية (القدر، السلطة، الغرب، المؤامرة) بوصفها الفاعل الرئيسي في حياة الأفراد والمجتمع، بينما يُقلل من شأن الفعل الفردي أو المبادرة الذاتية. ويؤدي هذا إلى نمط من التفكير العزوي (External Attribution)، حيث يُنسب النجاح أو الفشل دومًا إلى الخارج، ويُنظر إلى الذات كضحية عاجزة.
العلاقات المنضبطة والخاضعة للأصول:
تحكم العلاقات الاجتماعية في الثقافة الجماعية مجموعة صارمة من الأعراف والتقاليد، ويُتوقع من الأفراد الالتزام بها دون نقاش. يُنظر إلى الخروج عن هذه الأعراف، أو محاولة التفكير بطريقة مختلفة، كتهديد للنظام الاجتماعي، وغالبًا ما يُقابل بالعقاب أو النبذ أو الاستهجان.
ثانيًا: الثقافة الفردانية الغربية – مقاربة مقارنة
في مقابل الثقافة الجماعية العربية، يعرض دويري ملامح الثقافة الفردانية الغربية، حيث تُعطى الأولوية لقيم الاستقلالية، والاعتماد على الذات، والمبادرة الفردية، وتحمل المسؤولية الشخصية. في هذه الثقافة:
• يُنظر إلى الفرد باعتباره وحدة قائمة بذاتها، له حقوقه وواجباته، ويُشجع على اتخاذ قراراته بنفسه، حتى لو تعارضت مع رغبات الجماعة.
• تُعتبر الحرية الفردية قيمة عليا، وتُحترم الاختلافات والتنوعات داخل المجتمع.
• يُنظر إلى النجاح والفشل على أنهما نتيجة مباشرة لاجتهاد الفرد أو تقصيره، لا لعوامل خارجية أو قوى غيبية.
• يُحتفى بالابتكار والتجديد، ويُشجع الأفراد على تحدي المألوف وكسر القوالب التقليدية.
هذه المقارنة لا تهدف إلى تمجيد نموذج على حساب آخر، بل إلى إبراز كيف أن اختلاف البنية الثقافية يؤدي إلى اختلاف جذري في أنماط التفكير والمواجهة، وفي القدرة على التغيير والتجديد.
ثالثًا: انعكاسات الثقافة الجماعية على أنماط التفكير العربي
يرى دويري أن هيمنة الثقافة الجماعية في العالم العربي أدت إلى ترسيخ أنماط تفكير تعيق النهضة، منها:
الخوف من الاختلاف:
حيث يُنظر إلى التمايز أو الخروج عن الإجماع كتهديد لوحدة الجماعة، فيُفضل الأفراد التماهي مع السائد حتى لو كان خاطئًا.
ضعف المبادرة الفردية:
إذ يتردد الكثيرون في اتخاذ قرارات مستقلة أو تحمل مسؤولية أفعالهم، خوفًا من العقاب أو النبذ الاجتماعي.
العزوف عن النقد الذاتي:
فالنقد يُعتبر غالبًا هجومًا على الجماعة أو تشكيكًا في ثوابتها، لا أداة للإصلاح والتطوير.
انتشار ثقافة الضحية:
حيث يميل الأفراد والمجتمعات إلى تبرير إخفاقاتهم بعوامل خارجية، بدل البحث عن الأسباب الذاتية أو إمكانيات التغيير.
رابعًا: مميزات الثقافة الجماعية نسبة إلى الفردانية
لا ينكر دويري أن للثقافة الجماعية بعض الإيجابيات، مثل تعزيز التضامن الاجتماعي، وتقوية الروابط الأسرية، وتوفير شبكة أمان للأفراد في أوقات الأزمات. غير أن هذه الإيجابيات تتحول إلى عوائق حين تتحول الجماعة إلى سلطة قمعية تفرض على الأفراد قوالب تفكير جامدة، وتمنعهم من الإبداع والمبادرة.
في المقابل، تحمل الثقافة الفردانية مخاطر التفكك الاجتماعي، وضعف الروابط الأسرية، والشعور بالوحدة، لكنها تتيح للأفراد مساحة أوسع للتعبير عن ذواتهم، وتحمل مسؤولية مصائرهم، والمشاركة الفعالة في صنع التغيير.
خامسًا: نحو ثقافة متوازنة – دعوة دويري
يخلص دويري إلى أن النهضة العربية المنشودة تتطلب إعادة توازن بين قيم الجماعة وقيم الفرد، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى. يدعو إلى ثقافة جديدة تحتفي بالتعددية، وتمنح الأفراد مساحة للمبادرة والإبداع، دون أن تفقد المجتمع تماسكه أو تضامنه. ويشدد على أن هذا التوازن لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إصلاح عميق في أنماط التربية والتعليم، وفي الخطاب الديني والإعلامي، وفي بنية السلطة السياسية والاجتماعية، بحيث يُعاد الاعتبار لقيمة الفرد ومسؤوليته، دون أن يُلقى به في العزلة أو التفكك.

خاتمة الفصل
إن جدلية الجماعة والفرد ليست مجرد قضية ثقافية أو نفسية، بل هي مفتاح لفهم أزمة النهضة العربية. فبينما يحتاج المجتمع إلى التضامن والتماسك، يحتاج أيضًا إلى الحرية والإبداع والمبادرة الفردية. وأي مشروع نهضوي جاد لا بد أن يبدأ من هنا: من إعادة بناء العلاقة بين الفرد والجماعة على أسس جديدة، تتيح للعقل العربي أن يتحرر من حصاره الطويل، ويستعيد قدرته على الحلم والفعل معًا.

الفصل الثالث:
سلطات التكوين في الشخصية العربية

مدخل: الشخصية العربية بين تعدد السلطات وتداخلها
يولي مروان دويري في كتابه “العقل المحاصر” أهمية خاصة لتحليل منظومة السلطات التي أسهمت عبر القرون في تشكيل الشخصية العربية وتكوين بنيتها الذهنية والاجتماعية. فهو يرى أن الفرد العربي ليس نتاجًا تلقائيًا لبيئته الأسرية أو الاجتماعية المباشرة فقط، بل هو حصيلة تفاعل معقد بين سلطات متراكبة ومتداخلة: سلطة الصحراء، سلطة القبيلة والنظام السياسي، سلطة اللغة والنصوص، سلطة الموروث الثقافي والديني، وسلطة الدين والفكر القدري. هذه السلطات، في تفاعلها وتكاملها وصراعاتها، أنتجت نمطًا خاصًا من الشخصية العربية، يتسم بسمات جماعية وسلطوية وانغلاقية في كثير من الأحيان، وتنعكس في أنماط التفكير والمواجهة التي يصفها الكتاب بدقة وجرأة.

أولاً: سلطة الصحراء – الجذور الأولى للتماسك والانغلاق
يبدأ دويري تحليله من الجغرافيا، حيث شكلت الصحراء العربية فضاءً قاسيًا فرض على الإنسان العربي أن يطور آليات صمود وتكيف خاصة. الصحراء، بامتدادها وقسوتها، غرست في الوعي الجمعي قيم التضامن الجماعي، والاعتماد على العشيرة، والانغلاق على الذات لحماية البقاء. في هذا السياق، نشأت قيمة “النجدة” و”الفزعة” و”الوفاء للجماعة”، مقابل الحذر من الغريب والآخر المختلف. هذه القيم، وإن أسهمت في بناء تماسك اجتماعي قوي، إلا أنها في الوقت ذاته زرعت بذور الانغلاق والتحفظ، وأنتجت شخصية تميل إلى الحذر والشك، وتخشى التغيير والمغامرة، وتفضل الاستقرار على المخاطرة. يرى دويري أن سلطة الصحراء لا تزال حاضرة في لاوعي الإنسان العربي، حتى بعد التحضر، وتظهر في الميل إلى التكتل، والاصطفاف، والتمسك بالجماعة، والخوف من التفرد والاختلاف.

ثانياً: سلطة القبيلة والنظام السياسي – هرمية السلطة وتقديس الزعيم
ينتقل التحليل إلى سلطة القبيلة، التي شكلت عبر التاريخ الإطار التنظيمي الأساسي للمجتمع العربي. القبيلة ليست فقط رابطة دم ونسب، بل هي نظام سياسي واجتماعي واقتصادي متكامل، يقوم على هرمية صارمة، حيث يحتل الشيخ أو الزعيم موقع السلطة العليا، وتُبنى بقية العلاقات على أساس الولاء والطاعة والتبعية.
هذا النمط الهرمي انعكس لاحقًا في أنظمة الحكم العربية، حيث انتقل من القبيلة إلى الدولة، ومن الشيخ إلى الحاكم المطلق أو الزعيم الأوحد.في ظل هذا النظام، يُنظر إلى الفرد باعتباره جزءًا من الجماعة، وتُقاس قيمته بمدى ولائه وانصياعه، لا بقدرته على المبادرة أو الإبداع. يرى دويري أن سلطة القبيلة أنتجت في الشخصية العربية نزعة للخضوع للسلطة، وتقديس الزعيم، والخوف من الخروج عن الإجماع، كما زرعت في الوعي الجمعي فكرة “العيب” و”العار” المرتبطة بالخروج عن القواعد الجماعية. هذه السلطة لا تزال حاضرة في مؤسسات الدولة الحديثة، وفي العلاقات الأسرية والاجتماعية، وتُعيد إنتاج نفسها عبر التربية والتعليم والإعلام.

ثالثاً: سلطة اللغة والنصوص – سلطة الكلمة وقدسية النص
يولي دويري أهمية كبيرة للغة العربية بوصفها حاملة للثقافة ومُشكلة للوعي. فاللغة العربية، بثرائها وبلاغتها، منحت الكلمة سلطة استثنائية في المجتمع العربي. النصوص المقدسة (القرآن، الحديث، الشعر الجاهلي) احتلت مكانة مركزية في تشكيل الوعي الجمعي، وأضفت على اللغة طابعًا قدسيًا، جعل التعامل مع النصوص يتم بحذر وتقديس، وأحيانًا بتوقف عن النقد أو التجديد. هذه السلطة اللغوية أنتجت شخصية تميل إلى الحفظ والتلقين، أكثر من الميل إلى التحليل والإبداع. يرى دويري أن سلطة النصوص أسهمت في ترسيخ أنماط التفكير الجامدة، حيث يُنظر إلى النص بوصفه “الحقيقة النهائية”، ويُخشى الخروج عليه أو تأويله بطرق جديدة. كما أن سلطة اللغة انعكست في الخطاب السياسي والديني، حيث تُستخدم الكلمات والشعارات كأدوات للهيمنة، وتُوظف البلاغة أحيانًا لإخفاء الفقر المعرفي أو التهرب من مواجهة الواقع.

رابعاً: سلطة الموروث الثقافي والاجتماعي – تقاليد الماضي وقوة العادة
الموروث الثقافي، بما يحمله من عادات وتقاليد وأعراف، يشكل سلطة خفية تهيمن على السلوك الفردي والجماعي. يرى دويري أن قوة العادة والتقليد في المجتمع العربي تفوق أحيانًا قوة القانون أو الدين أو حتى السلطة السياسية. العرف الاجتماعي يُفرض بقوة الجماعة، ويحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض، ويُعاقب الخارج عنه بالنفي أو النبذ أو التشهير. هذه السلطة أنتجت شخصية تميل إلى المحافظة، وتخشى التغيير، وتفضل السير في طرق مألوفة حتى لو كانت عقيمة أو متجاوزة. يرى المؤلف أن سلطة الموروث تُعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال، من خلال التربية الأسرية، والتعليم التقليدي، والطقوس الاجتماعية، وتُعزز الميل إلى التفكير الدائري، حيث يُعاد إنتاج نفس الحلول ونفس الأخطاء عبر الزمن.

خامساً: سلطة الدين والفكر القدري – الحتمية والتسليم
يخصص دويري حيزًا مهمًا لتحليل دور الدين والفكر القدري في تشكيل الشخصية العربية.
الدين، بوصفه سلطة روحية وأخلاقية، لعب دورًا مركزيًا في بناء منظومة القيم والمعايير، لكنه في الوقت ذاته، حين يتحول إلى فكر قدري، يُنتج نمطًا من التفكير يبالغ في الحتمية والتسليم، ويقلل من شأن الفعل الإنساني والمبادرة الفردية.
الفكر القدري يُرسخ فكرة أن كل شيء مقدر سلفًا، وأن الإنسان محدود القدرة أمام إرادة خارجية مطلقة، سواء كانت إرادة الله أو إرادة السلطة أو القدر أو الظروف. هذا النمط من التفكير يُضعف حس المسؤولية الفردية، ويُعزز الميل إلى العزوف عن الفعل، وانتظار التغيير من الخارج أو من “القدر”. يرى دويري أن سلطة الدين، حين تُفهم بطريقة مغلقة وجامدة، تُسهم في ترسيخ أنماط التفكير المعيقة، لكنها حين تُفهم كقوة تحررية وأخلاقية، يمكن أن تكون رافعة للتجديد والإصلاح.

سادساً: تفاعل منظومة السلطات في الثقافة العربية
يؤكد دويري أن هذه السلطات لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتفاعل وتتشابك، وتُعيد إنتاج نفسها عبر الزمن.
في لحظات الأزمات، تشتد قبضة السلطات على الفرد، ويصبح العقل أكثر عرضة للانغلاق والتقليد والخضوع.
وفي لحظات الانفتاح، تظهر إمكانيات التغيير والتجديد، لكن هذه الإمكانيات تظل محدودة ما لم يتم تفكيك منظومة السلطات وإعادة بناء العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين النص والتأويل، وبين الموروث والتجديد.

خاتمة الفصل
إن تحليل سلطات التكوين في الشخصية العربية يكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها العقل العربي، ويضعنا أمام مسؤولية مزدوجة: مسؤولية نقد هذه السلطات وتفكيكها، ومسؤولية إعادة بناء منظومة قيمية وفكرية جديدة، تتيح للفرد أن يتحرر من أسر الماضي، ويشارك بفاعلية في بناء مستقبل أكثر حرية وعدالة وابتكارًا.
يدعو دويري إلى حوار جديد مع الموروث، ومع السلطة، ومع الذات، حوار يفتح الباب أمام نهضة حقيقية تبدأ من تحرير العقل، ولا تنتهي إلا بتحرير الإنسان والمجتمع معًا.

الفصل الرابع…
أنماط التفكير والمواجهة المعيقة لنهضة المجتمع العربي

مدخل: أنماط التفكير كقوالب خفية تحكم المصير
يطرح مروان دويري في كتابه “العقل المحاصر” فرضية مركزية مفادها أن أزمة النهضة في المجتمع العربي ليست فقط نتاج عوامل خارجية كالمؤامرات أو الاحتلال أو السياسات الدولية، بل هي أيضًا وبشكل حاسم نتاج أنماط تفكير جمعية متجذرة تشكلت عبر قرون من التراكم التاريخي والثقافي. هذه الأنماط تعمل كـ”نظارات” غير مرئية يرتديها الأفراد والمجتمعات، فتحدد زاوية الرؤية، وتلوّن الإدراك، وتضبط ردود الأفعال تجاه الأحداث الشخصية والاجتماعية والسياسية.
إن خطورة هذه الأنماط تكمن في أنها غالبًا غير واعية، ويصعب على أصحابها تمييزها أو نقدها، ما يجعلهم أسرى لقوالب ذهنية جامدة تمنعهم من المبادرة والتجديد، وتدفعهم إلى تكرار نفس الأخطاء وإعادة إنتاج الفشل عبر الأجيال.

أولاً: العزو الخارجي وغياب المسؤولية الذاتية
يعد العزو الخارجي أحد أخطر أنماط التفكير المعيقة، حيث يميل الأفراد والمجتمعات إلى نسبة أسباب الفشل أو المعاناة إلى عوامل خارجية: القدر، السلطة، الاحتلال، الغرب، المؤامرة، الظروف الاقتصادية… إلخ.
على المستوى الشخصي، يبرر الفرد إخفاقه الدراسي أو المهني أو الأسري بأنه ضحية للظروف أو لسوء الحظ أو لظلم الآخرين. وعلى المستوى المجتمعي، يُعزى تأخر المجتمع أو إخفاقاته إلى “الاستعمار”، أو “التآمر الخارجي”، أو “القيادات الفاسدة”، دون مساءلة جدية للذات أو مراجعة للأخطاء الداخلية. أما على المستوى السياسي، فتتجلى هذه الظاهرة في شيوع نظرية المؤامرة، حيث يُفسر كل فشل أو أزمة بأنه نتيجة لمخططات خارجية، ما يبرر العجز ويحول المجتمع إلى ضحية سلبية ومتلقية يرى دويري أن هذا النمط يضعف حس المسؤولية الفردية والجمعية، ويكرس ثقافة الضحية، ويمنع المبادرة الذاتية، ويجعل التغيير الحقيقي شبه مستحيل.
ثانياً: الخضوع للسلطة والتفكير القدري
يرتبط نمط الخضوع للسلطة ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ الطويل للهرمية السياسية والاجتماعية في العالم العربي.
في ظل سيادة القبيلة أو العائلة أو الحزب أو السلطة الدينية، يتعلم الفرد منذ طفولته الطاعة والانصياع، ويُعتبر الخروج عن الإجماع أو معارضة السلطة “عيبًا” أو “خروجًا عن الجماعة”. هذا النمط من التفكير يتعزز بفعل الفكر القدري، الذي يرسخ فكرة أن كل شيء مقدر سلفًا، وأن الإنسان محدود القدرة أمام إرادة خارجية مطلقة: الله، السلطة، القدر، الظروف. ينتج عن ذلك ضعف في المبادرة الفردية، وتردد في اتخاذ القرارات، وخوف من تحمل المسؤولية، وانتظار دائم للتغيير من الخارج أو من “الزمن” أو من “الزعيم المخلّص” يؤكد دويري أن هذا النمط يُضعف مناعة المجتمع أمام الأزمات، ويجعله عرضة للاستبداد والتسلط، ويمنع نشوء ثقافة النقد الذاتي والمحاسبة.

ثالثاً: المرجعية التقليدية والانغلاق الثقافي
من السمات البارزة في أنماط التفكير العربية الاعتماد على المرجعيات التقليدية الجاهزة، سواء كانت دينية أو عرفية أو اجتماعية. في مواجهة أي مشكلة أو تحدٍ، يُلجأ إلى “ما قاله الأجداد”، أو “ما ورد في النصوص”، أو “ما اعتدنا عليه”، دون بحث جاد عن حلول جديدة أو اجتهادات معاصرة. هذا النمط يعزز الانغلاق أمام الثقافات الأخرى، ويجعل من الصعب الاستفادة من التجارب الإنسانية المتنوعة أو الانفتاح على الأفكار الجديدة. يرى دويري أن هذا النمط يُعيد إنتاج نفسه عبر التربية والتعليم والإعلام والخطاب الديني، ويحول المجتمع إلى دائرة مغلقة تكرر نفسها باستمرار، وتخشى التجديد وتقاوم التغيير.

رابعاً: تغليب معيار الحق وغياب معيار الجدوى
يلاحظ دويري أن العقل العربي يميل في كثير من الأحيان إلى تغليب معيار “الحق” المجرد على معيار “الجدوى” العملية. في كثير من القضايا السياسية أو الاجتماعية، يُطرح السؤال: “من صاحب الحق؟” بدلًا من “ما هي الوسيلة الأجدى لتحقيق الأهداف؟” أو “كيف يمكن إدارة الصراع أو التفاوض بذكاء لتحقيق مكاسب واقعية؟”
ينتج عن ذلك ميل إلى التصلب في المواقف، ورفض الحلول الوسط، وإهدار الفرص العملية، بدعوى “المبادئ” أو “الثوابت”، حتى لو كان الثمن استمرار المعاناة أو ضياع الحقوق فعليًا. هذا النمط يُضعف القدرة على إدارة الأزمات، ويجعل المجتمع عرضة للهزائم المتكررة، ويمنع بناء استراتيجيات واقعية وفعّالة للتغيير

خامساً: النزعة الإقصائية والشعبوية وتضخم الشعبوية على حساب الموقف المبدئي
يرصد دويري انتشار النزعة الإقصائية في الخطاب العربي، حيث يُميل إلى تخوين أو تكفير أو إقصاء المختلف، سواء كان ذلك في السياسة أو الدين أو الثقافة. يُنظر إلى التعددية والاختلاف كتهديد لوحدة الجماعة، وتُفرض معايير الاصطفاف والولاء، ويُقصى كل من يخرج عن “الإجماع”. في الوقت ذاته، تنتشر الشعبوية، حيث يُغلب الخطاب العاطفي والجماهيري على الموقف المبدئي أو الأخلاقي، وتُتخذ القرارات بناءً على المزاج العام أو رغبات الشارع، لا على أسس علمية أو أخلاقية ثابتة. هذه النزعة تُضعف النقد الذاتي، وتمنع الحوار، وتكرس الانقسام والاستقطاب، وتجعل من الصعب بناء مشروع وطني أو نهضوي جامع1.

سادساً: الصواب الواحد ووهم الموضوعية وتخطيء الآخر
من مظاهر التفكير المعيق أيضًا الاعتقاد بوجود “الصواب الواحد” أو “الحقيقة المطلقة”، ورفض الاعتراف بنسبية المعرفة وتعدد وجهات النظر. ينتج عن ذلك ميل إلى تخطيء الآخر، وشيطنته، ورفض الحوار معه، ما يؤدي إلى جمود فكري وثقافي، ويمنع التقدم والتجديد. يرى دويري أن هذا النمط يُغذي التعصب العقائدي، ويحول المجتمع إلى ساحات صراع بين “مطلقات” متناحرة، بدل أن يكون ساحة حوار وتكامل بين المختلفين.

سابعاً: المسايرة وتعارض القول والفعل وثقافة الضحية
يرصد دويري ظاهرة المسايرة، حيث يميل الأفراد إلى قول ما يُرضي الجماعة أو السلطة، حتى لو كان مخالفًا لقناعاتهم، ما يؤدي إلى تعارض بين القول والفعل، وانتشار النفاق الاجتماعي. يرتبط بذلك استمرار ثقافة الضحية، حيث يُفضل الأفراد والمجتمعات تبرير إخفاقاتهم بعوامل خارجية بدل تحمل المسؤولية الذاتية، ما يُكرس العجز ويمنع التغيير الحقيقي.
إن تحليل أنماط التفكير المعيقة يكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها المجتمع العربي، ويضعنا أمام مسؤولية مزدوجة: مسؤولية نقد هذه الأنماط وتفكيكها، ومسؤولية إعادة بناء منظومة فكرية جديدة تتيح للعقل العربي التحرر من قوالبه الجامدة والانطلاق نحو الإبداع والمبادرة.يرى دويري أن أي مشروع نهضوي حقيقي يجب أن يبدأ من هنا: من نقد الذات، وتعرية أنماط التفكير المعيقة، وفتح الباب أمام الحوار والتجديد، وتبني ثقافة المسؤولية الفردية والجمعية، وقبول التعددية، وبناء استراتيجيات عملية وواقعية للتغيير.فقط بتحرير العقل من حصاره الطويل يمكن للمجتمع العربي أن يستعيد قدرته على الحلم والفعل معًا.

الفصل الخامس…
نحو نهضة مجتمعنا الفلسطيني/العربي

مدخل: النهضة ليست شعارًا بل مشروع تحرر يبدأ من الداخل
ينطلق مروان دويري في هذا الفصل من قناعة راسخة أن النهضة الحقيقية لأي مجتمع لا يمكن أن تتحقق عبر شعارات أو خطابات سياسية أو حتى عبر إصلاحات مؤسساتية سطحية، بل تتطلب ثورة عميقة في بنية التفكير وأنماط المواجهة لدى الأفراد والجماعات. فالمجتمع الفلسطيني والعربي، رغم ما يواجهه من تحديات خارجية هائلة كاستمرار الاحتلال والاستعمار والصراعات الإقليمية، يظل أسيرًا لأنماط تفكير ومواجهة متجذرة هي التي تحدد في النهاية مدى قدرته على الفعل والمبادرة والتغيير.إن تحرير الأرض والإنسان، كما يصر دويري، يبدأ بتحرير العقل من قوالبه الجامدة، لأن أي تحرر خارجي يظل هشًا وعرضة للانتكاس إذا لم يواكبه تحرر داخلي يبدّل زاوية الرؤية ويعيد تعريف العلاقة مع الذات والآخر والعالم.

أولاً: أهمية كشف الصراع النفسي بحسب نظريات العلاج النفسي
يستند المؤلف إلى خبرته العميقة في علم النفس العلاجي ليؤكد أن كثيرًا من أنماط التفكير المعيقة للنهضة هي في جوهرها آليات دفاعية تشكلت استجابة لصدمات جماعية وفردية متراكمة. الصراع النفسي الداخلي، بين رغبة الفرد في التغيير وخوفه من فقدان الأمان أو مواجهة المجهول، غالبًا ما يُسقط على الخارج في شكل اتهام للظروف أو المؤامرات أو الآخر المختلف. من هنا، تصبح الخطوة الأولى نحو النهضة هي الاعتراف بوجود هذا الصراع، وكشف جذوره، وتفكيك آليات الدفاع التي تمنع الفرد والمجتمع من مواجهة الذات بصدق وشجاعة. يرى دويري أن العلاج النفسي لا ينبغي أن يقتصر على الأفراد، بل يجب أن يتحول إلى مشروع جماعي لتحليل الذات الجمعية، وتحريرها من عقد الماضي وجراحاته، وفتح الباب أمام مصالحة حقيقية مع الذات، تتيح تجاوز دور الضحية والانطلاق نحو الفعل الإيجابي.

ثانيًا: أهمية التفاعل بين النقائض بحسب نظريات الديالكتيك والتوجه المنظومي
يستفيد دويري من النظريات الديالكتيكية والمنظومية ليؤكد أن أي مشروع نهضوي لا يمكن أن ينجح إلا إذا اعترف بتعددية القوى والعوامل المتفاعلة في المجتمع، وتعلم إدارة الحوار بين النقائض بدل قمعها أو إنكارها.
فالثقافة العربية، كما يبين، تميل إلى البحث عن “الصواب الواحد” ورفض التعددية، ما يؤدي إلى جمود فكري وانقسامات حادة.
أما النهضة، فهي مشروع جدلي يتطلب الاعتراف بوجود تناقضات وصراعات داخلية وخارجية، وتحويلها إلى طاقة خلاقة عبر الحوار والتكامل لا عبر الإقصاء والاستئصال. في هذا السياق، يدعو دويري إلى تطوير أدوات جديدة في التربية والإعلام والسياسة، تتيح إدارة الاختلاف بشكل بنّاء، وتعلم الأجيال القادمة كيف يكون الخلاف مصدرًا للإبداع لا سببًا للانقسام.

ثالثًا: كيف يمكن أن نستفيد من نظريات العلاج النفسي والديالكتيك في تغيير أنماط التفكير؟
يرى دويري أن الاستفادة العملية من هذه النظريات تبدأ بتغيير مناهج التربية والتعليم، بحيث تنتقل من التلقين والحفظ إلى النقد والتحليل والحوار. على مستوى المؤسسات، يدعو إلى مراجعة الخطاب الديني والسياسي والإعلامي، بحيث يصبح أكثر انفتاحًا وتعددية، ويشجع على التفكير المستقل والمسؤولية الفردية. أما على مستوى الأفراد، فيقترح تبني برامج للتنمية الذاتية والجماعية، تركز على كشف أنماط التفكير المعيقة وتفكيكها، وتدريب الأفراد على تقنيات الحوار مع الذات والآخر، وإدارة الصراع الداخلي بشكل صحي. كما يشدد على أهمية بناء شبكات دعم اجتماعي ونفسي، تتيح للأفراد التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بحرية، وتوفر لهم نماذج إيجابية للتغيير والمبادرة.

رابعًا: التعددية كجواب نهضوي
يصل دويري إلى أن التعددية ليست مجرد خيار سياسي أو ثقافي، بل هي شرط وجودي لأي نهضة حقيقية.
فالمجتمع الذي يقبل التعددية ويحتفي بالاختلاف، يصبح أكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات، وأكثر استعدادًا لتبني الحلول المبتكرة، وأكثر مناعة أمام الأزمات والانقسامات. يدعو المؤلف إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس جديدة، تعترف بحق الجميع في المشاركة والتعبير، وتضمن العدالة والمساواة وحرية الفكر والضمير. ويرى أن التعددية تبدأ من الاعتراف بتعدد الأصوات داخل الذات الواحدة، ثم تنتقل إلى الأسرة والمدرسة والمؤسسة والمجتمع ككل.

خامسًا: رفات الفراشات الأولى في مشروع التغيير
يستخدم دويري صورة “رفات الفراشات الأولى” ليصف أولئك الرواد الذين حاولوا كسر القوالب وفتح آفاق جديدة للفكر والعمل، ودفعوا ثمن جرأتهم من حياتهم أو حريتهم أو مكانتهم الاجتماعية. لكنه يرى أن هؤلاء، رغم ما تعرضوا له من قمع أو تهميش، هم الذين مهدوا الطريق لكل تغيير لاحق، وأن النهضة الحقيقية لا تتحقق إلا إذا تعلم المجتمع كيف يحتفي بهؤلاء الرواد، ويحول تضحياتهم إلى دروس وعبر للأجيال القادمة. يدعو دويري إلى بناء ذاكرة جماعية جديدة، تكرم المبدعين والمجددين، وتعيد الاعتبار لقيمة الجرأة والإبداع، بدل تمجيد الطاعة والانصياع.

خاتمة الفصل: النهضة مشروع تحرر مستمر
يختم دويري هذا الفصل بالتأكيد على أن النهضة ليست هدفًا يُنجز مرة واحدة، بل هي مشروع تحرر مستمر، يبدأ من تحرير العقل ويستمر بتحرير الإنسان والمجتمع من كل أشكال القهر والاستلاب.
إنها رحلة طويلة تتطلب شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وجرأة النقد الذاتي، وصبر البناء التدريجي، وإيمانًا عميقًا بقدرة الإنسان العربي على التجدد والانبعاث. يدعو المؤلف إلى أن يتحول كل فرد إلى مشروع نهضة صغير، يبدأ من ذاته، وينفتح على محيطه، ويساهم في بناء مجتمع أكثر حرية وعدالة وكرامة. فالتحرر الحقيقي، كما يصر دويري، لا يُفرض من الخارج، بل يُبنى من الداخل، خطوة خطوة، وفكرة فكرة، حتى يصبح الحلم واقعًا.

الفصل السادس…
آفاق المستقبل ودور المثقف العربي

مدخل: من الأزمة إلى الأفق – سؤال النهضة في زمن التحولات
يختم مروان دويري كتابه “العقل المحاصر” بنظرة استشرافية جريئة تتجاوز حدود التشخيص النقدي لأنماط التفكير والمواجهة المعيقة، لتطرح سؤال المستقبل: كيف يمكن لمجتمعنا الفلسطيني والعربي أن يتحرر من أسر الجمود الذهني ويشق طريقه نحو نهضة حقيقية؟ وأي دور ينتظر المثقف العربي في هذا المسار الشائك الذي تتقاطع فيه تحديات الداخل مع ضغوط الخارج، وتتعانق فيه الحاجة إلى النقد مع ضرورة البناء؟
في زمن تتكاثف فيه الأزمات وتتعمق فيه الفجوات بين الحلم والواقع، يصبح التفكير في المستقبل ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. فالمجتمع الذي لا يمتلك رؤية استراتيجية ولا يملك القدرة على استشراف الاحتمالات، يبقى أسير ردود الفعل، وعرضة للتكرار والانتكاس. من هنا تأتي أهمية هذا الفصل، الذي يضع بين يدي القارئ خلاصة مشروع فكري يسعى إلى تحويل النقد إلى طاقة تغيير، ويعيد الاعتبار لدور المثقف بوصفه ضمير الأمة وعقلها النقدي والمستقبلي.

أولاً: السيناريوهات المستقبلية – من التنبؤ إلى صناعة المستقبل
يركز دويري على أهمية الانتقال من عقلية التلقي السلبي للمتغيرات إلى عقلية الفاعلية وصناعة المستقبل. ويشير إلى أن المجتمعات القادرة على النهوض هي تلك التي تتقن بناء السيناريوهات المستقبلية، وتستخدم أدوات تحليلية متقدمة مثل مصفوفة التأثير المتبادل ودولاب المستقبل وتوزين السيناريوهات، بحيث لا تكتفي برد الفعل بل تبادر إلى استشراف المخاطر والفرص وتخطيط المسارات البديلة.
في السياق الفلسطيني والعربي، تصبح هذه الأدوات أكثر إلحاحًا نظرًا لتعقيد المشهد وتداخل العوامل المحلية والإقليمية والدولية. فالتحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية – من استمرار الاحتلال والاستيطان إلى الانقسام الداخلي والتغيرات الإقليمية – تتطلب قدرة عالية على قراءة المتغيرات، وتقدير السيناريوهات، وبناء استراتيجيات مرنة وقابلة للتكيف.
ويحذر دويري من خطورة الانغلاق على سيناريو واحد أو الرهان على حل سحري، مؤكدًا أن المستقبل مفتوح على احتمالات متعددة، وأن النجاح يكمن في القدرة على إدارة التعقيد، وتطوير أدوات نقدية وعملية تتيح للمجتمع التحرك بوعي وفاعلية.

ثانيًا: المثقف العربي – من الناقد إلى الفاعل
يمنح دويري للمثقف العربي مكانة محورية في مشروع النهضة، لكنه يرفض اختزال دوره في التنظير أو النقد السلبي أو التماهي مع السلطة. فالمثقف الحقيقي، في تصوره، هو ذلك الذي يجمع بين الجرأة النقدية والقدرة على البناء، بين الانخراط في قضايا المجتمع والاحتفاظ بمسافة نقدية عن الاصطفافات الضيقة. يدعو الكتاب إلى تجاوز نموذج “المثقف النخبوي” المعزول عن هموم الناس، ونموذج “المثقف المأجور” الذي يتحول إلى بوق للسلطة أو السوق. ويشدد على أن المثقف النهضوي هو من يملك الشجاعة لمساءلة المسلمات، والقدرة على اقتراح البدائل، والاستعداد لدفع ثمن مواقفه إذا اقتضى الأمر.
وفي السياق الفلسطيني، تزداد مسؤولية المثقف نظرًا لتداخل القضية الوطنية مع القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فالمثقف هنا ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك في صناعة الوعي، ومساهم في بناء السياسات، ومحرك للحوار بين مكونات المجتمع. ويرى دويري أن المثقف مطالب اليوم بأن يكون “مهندسًا للخيال الاجتماعي”، يربط بين النقد والتحليل والاستشراف، ويعمل على بناء جسور بين الأجيال، وبين المحلي والعالمي، وبين التراث والحداثة.

ثالثًا: إصلاح منظومة التفكير – التربية والتعليم والإعلام
يؤكد دويري أن أي أفق مستقبلي للنهضة يمر حتمًا عبر إصلاح منظومة التربية والتعليم والإعلام. فهذه المؤسسات هي التي تعيد إنتاج أنماط التفكير، وتحدد حدود الممكن والمستحيل في وعي الأجيال الجديدة. يدعو الكتاب إلى ثورة هادئة في المناهج التعليمية، تنتقل من التلقين إلى النقد، ومن الحفظ إلى التحليل، ومن الانغلاق إلى الانفتاح على الثقافات الإنسانية. كما يشدد على ضرورة تحرير الإعلام من الشعبوية والتبعية، وتحويله إلى منصة للحوار والتعددية والتفكير المستقبلي.
ويرى دويري أن الاستثمار في التعليم النوعي، وتدريب المعلمين على مهارات التفكير النقدي والاستشرافي، هو المدخل الحقيقي لبناء مجتمع قادر على مواجهة التحديات وصناعة المستقبل. كما يحث على تطوير برامج إعلامية وثقافية تكرّس قيم الحوار، وتحتفي بالاختلاف، وتمنح الشباب الأدوات اللازمة لفهم العالم والتفاعل معه بفاعلية واستقلالية.

رابعًا: المثقف بين التحديات والفرص – مسؤولية أخلاقية وتاريخية
لا يغفل دويري عن الإشارة إلى التحديات الهائلة التي تواجه المثقف العربي: من قمع الحريات إلى الاستقطاب السياسي، ومن هيمنة الخطاب الديني أو القومي المغلق إلى ضغوط السوق والعولمة. لكنه، في المقابل، يرى أن هذه التحديات تفتح أيضًا آفاقًا جديدة للمبادرة والإبداع، خاصة في عصر الثورة الرقمية وتعدد منصات التعبير. فالمثقف اليوم يمتلك من الأدوات ما لم يكن متاحًا للأجيال السابقة: من وسائل التواصل الاجتماعي إلى المنصات البحثية والإعلامية المستقلة، ومن شبكات التعاون الإقليمي والدولي إلى إمكانيات التأثير في السياسات من خلال المبادرات المدنية والمجتمعية.
يدعو دويري المثقف إلى استثمار هذه الفرص، والتحلي بالمرونة والشجاعة، وعدم الاستسلام لليأس أو الانعزال. ويرى أن المثقف الذي ينجح في الجمع بين النقد والبناء، وبين الجذرية والواقعية، وبين المحلية والعالمية، هو القادر على أن يكون رافعة حقيقية لمشروع النهضة.

خاتمة الفصل: من النقد إلى الفعل – دعوة لتجديد المشروع النهضوي
يختم دويري هذا الفصل، وكتابه كله، بدعوة صادقة إلى تحويل النقد الذاتي إلى مشروع عمل جماعي، وإلى تحويل المثقف من شاهد على الأزمة إلى فاعل في صناعة الأمل. فالنهضة ليست قدرًا محتومًا ولا حلمًا مستحيلاً، بل هي ثمرة جهد تراكمي يبدأ بتحرير العقل من أنماطه المعيقة، ويمر بإصلاح المؤسسات، ويكتمل ببناء جيل جديد من المثقفين القادرين على الجمع بين النقد والإبداع والعمل الجماعي. إن مستقبل المجتمع الفلسطيني والعربي، كما يؤكد دويري، مرهون بقدرتنا على تجديد المشروع النهضوي، وعلى تحويل التحديات إلى فرص، والنقد إلى طاقة بناء، والمثقف إلى ضمير حي وفاعل في قلب المجتمع.

الخاتمة

في خاتمة هذا العمل النقدي والتحليلي الموسع حول كتاب “العقل المحاصر”، تتجلى أمامنا صورة بانورامية دقيقة لأزمة النهضة في المجتمع الفلسطيني والعربي، كما رسمها مروان دويري بجرأة الباحث وعمق الأديب. لقد كشف الكتاب، عبر فصوله المتتابعة، كيف أن جذور التراجع الحضاري العربي لا تكمن فقط في عوامل خارجية كالمؤامرات أو الاحتلال أو السياسات الدولية، بل تتغلغل أساسًا في أنماط تفكير جمعية متجذرة، تشكلت عبر قرون من التراكم التاريخي والثقافي، وأصبحت قوالب ذهنية تحكم زاوية الرؤية وتحدد ردود الأفعال تجاه الذات والعالم.
يؤكد دويري أن هذه الأنماط ليست مجرد عادات أو ردود أفعال نفسية فردية، بل هي منظومة متكاملة من القيم والتصورات، أنتجتها سلطات متداخلة: سلطة الصحراء التي زرعت قيم التماسك والانغلاق، وسلطة القبيلة التي أرست الهرمية والطاعة، وسلطة اللغة والنصوص التي قدست الكلمة وأعلت من شأن الحفظ والتلقين، وسلطة الموروث الثقافي والديني التي كرست العادة والتقليد، وصولًا إلى سلطة الفكر القدري التي أضعفت حس المسؤولية الفردية والجمعية. في تفاعل هذه السلطات، تبلورت شخصية عربية تميل إلى الخضوع والانغلاق، وتخشى التغيير، وتفضل تكرار الحلول القديمة حتى لو ثبت فشلها.
لقد حلل الكتاب بعمق أنماط التفكير المعيقة، مثل العزو الخارجي وغياب المسؤولية الذاتية، والخضوع للسلطة، والاعتماد على المرجعيات التقليدية، وتغليب معيار الحق المجرد على معيار الجدوى العملية، والنزعة الإقصائية والشعبوية، ووهم الصواب الواحد. وأوضح كيف أن هذه الأنماط تعمل كـ”نظارات” غير مرئية تلوّن الإدراك وتضيق أفق الرؤية، وتجعل المجتمع أسيرًا لدائرة مغلقة من إعادة إنتاج الفشل والعجز عن المبادرة والتجديد.
ورغم الاعتراف بالعوامل الخارجية الضاغطة، يصر دويري على أن مشروع التحرر الحقيقي يبدأ من الداخل: من نقد الذات، وتعرية أنماط التفكير المعيقة، وتحرير العقل من قوالبه الجامدة. فالتحرر من الاحتلال أو الاستبداد السياسي يظل هشًا إن لم يواكبه تحرر ذهني وفكري يعيد تعريف العلاقة مع الذات والآخر والعالم. من هنا تصبح النهضة ليست مجرد مشروع سياسي أو اقتصادي أو مؤسساتي، بل هي أولًا مشروع تحرر للعقل، يفتح الباب أمام النقد الذاتي، ويشجع على الحوار والتعددية، ويعيد الاعتبار لقيمة الفرد والمبادرة والمسؤولية.
في الأفق المستقبلي، يدعو الكتاب إلى ثورة هادئة في منظومة التربية والتعليم والإعلام، تنتقل من التلقين إلى النقد، ومن الحفظ إلى التحليل، ومن الانغلاق إلى الانفتاح على الثقافات الإنسانية. كما يشدد على دور المثقف العربي بوصفه ضمير الأمة وعقلها النقدي، القادر على الجمع بين الجرأة في النقد والقدرة على البناء، بين الانخراط في قضايا المجتمع والاحتفاظ بمسافة نقدية عن الاصطفافات الضيقة. إن المثقف، في تصوّر دويري، ليس شاهدًا على الأزمة فحسب، بل هو شريك في صناعة الوعي، ومهندس للخيال الاجتماعي، وصانع لجسور العبور نحو المستقبل.
إن مشروع النهضة، كما يطرحه دويري، ليس قدرًا محتومًا ولا حلمًا مستحيلًا، بل هو ثمرة جهد تراكمي يبدأ بتحرير العقل من أنماطه المعيقة، ويمر بإصلاح المؤسسات، ويكتمل ببناء جيل جديد من المثقفين القادرين على الجمع بين النقد والإبداع والعمل الجماعي. إن التحديات التي تواجه المجتمع الفلسطيني والعربي، مهما بلغت قسوتها، ليست مبررًا لليأس أو الانكفاء، بل هي دعوة متجددة لتحويل النقد إلى طاقة بناء، والمثقف إلى ضمير حي وفاعل في قلب المجتمع.
في النهاية، يظل “العقل المحاصر” كتابًا استثنائيًا في جرأته وعمقه، يطالبنا جميعًا بأن نخلع نظاراتنا المعتادة، وأن نجرؤ على مساءلة المسلمات، وأن نخوض مغامرة تحرير العقل من حصاره الطويل. إنه دعوة صادقة إلى ثورة فكرية هادئة تبدأ من الذات وتمتد إلى المجتمع، وتعيد للعقل العربي قدرته على الحلم والفعل معًا، في زمن بات فيه الحلم نفسه فعل مقاومة وبناء.

تم بحمد الله…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة