“أغنية المجنون” لعادل خزام، رحلة الوعي بين قسوة الواقع ونداء التّحرّر
صباح بشير
تاريخ النشر: 22/06/25 | 8:02
مقدّمة.. روح الشّعر في نصّ نثريّ:
في عوالم الكلمة السّاحرة، حيث تتراقص الحروف على إيقاع الرّوح، وتُنسَجُ المعاني من خيوط الفكر، يبرز نصّ “أغنية المجنون” للشّاعر الإماراتي عادل خزام؛ كتحفة أدبيّة تتجاوز المألوف.
هو نصّ نثري شاعريّ بامتياز، تتجلّى فيه روح الشّعر في أبهى صورها، وإن تحرّرت من قيود الوزن والقافية التّقليديّة، إذ ينساب النّص بسلاسة، حاملا في طيّاته إيقاعا داخليّا متفرّدا، ينبع من تدفّق الأفكار المتتابعة، والصّور الفنّيّة المتلاحقة والعاطفة الجيّاشة.
إنّه نصّ شعريّ في روحه وجوهره، لا يندرج تحت القصّة القصيرة أو المقالة النّثريّة، بل يمثّل نوعا أدبيّا مختلفا، يجمع بين حرّيّة النّثر وروح الشّعر، مانحا إيّاه مرونة كبيرة في التّعبير عن أغوار النّفس الإنسانيّة ومكنوناتها الفلسفيّة، مرتكزا على اللّغة المكثّفة والرّمزيّة العميقة والتّكثيف الدّلاليّ.
يأخذنا خزام في رحلة استكشافيّة جريئة، تبدأ بنفيٍّ قاطع لكلّ أشكال الخضوع، تتوالى فصولها في بحث دائم عن الهويّة والمعنى، وتصطدم بصرامة الواقع وتناقضاته، وتنتهي بدعوة جريئة إلى التّحرّر من قيود الفكر والوعيّ الجمعيّ، حتّى لو كان ثمن ذلك هو لقب “الجنون”.
أنشودة الذّات، وتحليل لصرخة الوجود:
يبدأ عادل خزام نصّه بنفيّ قاطع لأيّ تاريخ من الخضوع، ليؤكّد على فرديّته واستقلاليّته منذ البداية. يقول: “لم تطأ قدمي حافيا في لعبة النّار، ولا استرسلتُ يوما في الرّكض نحو الهاوية، ولا طالت رقبتي أمام أبٍ أو جدّ”.
هذا الافتتاح القويّ، يمهّد لخوض الشّاعر في رحلة عميقة لاستكشاف الذّات، مؤكّدا رفضه للقيود المجتمعيّة والوراثيّة، ومعلنا عن طريق خاصّ به في الحياة.
هي رحلة ميلاد مستمرّ، يصف نفسه فيها قائلا: “وُلِدتُ لأنتمي للدّهشةِ زاحفا على أسفلتٍ ورملٍ حتّى اسودّتْ ركبتاي”.
هذا التّعبير يجسّد الصّراع الباكر مع الواقع، والجهد المبذول في التّكيّف، ثمّ التّحوّل من الزّحف إلى المشيّ المتعرّج، وصولا إلى الانتصار على الضّعف والوهن.
هذا التّحوّل الرّمزيّ يعكس رحلة نمو الوعي وتطوّر الشّخصيّة، فكلّ سقوط هو خطوة نحو النّهوض، وكلّ تحدٍّ يضيف طبقة جديدة من الإدراك. إنّها استعارة بليغة لتكيّف الإنسان مع مصاعب الحياة، وتحويل التّجارب القاسية إلى وقود للارتقاء.
يظهر دور الأمّ هنا ليس بصفتها المانعة، بل كصوّت داخليّ حكيم، فيكتب: “سَمِعتُها في انكسارات اللّيل تُبجِّل الشّمعة”.
هذه الشّمعة ليست سوى رمز للأمل، والدّليل الحيّ وسط ظلمات اللّيل، والوعيّ الّذي يحرس الشّاعر في مواجهة “ذئاب اللّيل” المحتملة، تحت حماية “ظلاله” الخاصّة، أيّ وعيه وكيانه الدّاخليّ.
ينتقل النّصّ بعد ذلك إلى طرح سؤال الهويّة الأساسيّ: “من أنا؟”؛ ليقدّم إجابات إبداعيّة غير تقليديّة، تفارق المألوف وتعزّز نظرته الفلسفيّة للحياة، فالشّجرة تصبح “أمّي الثّانية” في إشارة إلى الارتباط العميق بالطّبيعة والأصالة، بينما “عمود الإنارة” يغدو “قمري في ليل المدينة”، مجسّدا التماس الضّوء والهداية في بيئة حضريّة قد تكون قاسية ومظلمة، وتتحوّل الذّكريات الّتي يفترض أنّها ماضٍ ثابت، إلى “سلالم صعودٍ لمن أغوته ثمرة الحياة” و “سلالمُ هبوطٍ للجبان”، في رؤية مبتكرة تؤكّد أنّ الماضي ليس حدثا عابرا، بل أداة يمكن استغلالها للنّهوض أو التّراجع حسب إرادة الإنسان. هذه الصّورة تكشف عن نظرة الشّاعر العميقة للتّفاعل بين الذّات والزّمن، وكيف يمكن للوعيّ أن يحدّد مسار الفرد.
تتجلّى قوّة الذّات المتخيّلة لدى الشّاعر في تصويره لقدرته على التّحكّم في عناصر الطّبيعة: “لو أضع كفّي في كفّ مجدافٍ، يصير البحرُ عبدي، لو أضع ساقي في حذاء المسافة، تتلوّى تحت خطوتي الأرض”.
هذه الجمل الاستعاريّة، تعكس ثقة مطلقة في القدرة الكامنة، وكأنّ العوالم الخارجيّة تنصاع لإرادته الدّاخليّة، بل ويذهب أبعد من ذلك، إذ يقول: “وقد أُسابِقُ دورانَها فتختلطُ البداية بالنّهاية حين أقف”، في إشارة إلى تجاوز الزّمن والمكان، والوصول إلى نقطة اللّاتناهي أو الوعيّ المطلق.
يمارس الشّاعر هنا نقدا لاذعا للمنطق السّطحيّ، فيصف “رجلا واهما يركض للأمام، لكنّه في الحقيقة عائد للخلف”، مما يعكس رؤيته للتّناقضات الظّاهريّة في السّعيّ البشريّ، وكيف أنّ المظاهر قد تكون خادعة، وأنّ التّقدّم المزعوم قد يكون في جوهره تراجعا.
تتجلّى أوج هذه التّناقضات في تخيّله لموقف الاصطدام بـ “حشد عقلاء” في اللّيل، حيث صرخته “أنا نقيضكم”، لا تستدعي سوى الطّرد من “جنّة الشّطط”، ممّا يؤكّد على عمق الفجوة بين رؤية “المجنون” الحقيقيّة وواقع “العقلاء” الزّائف.
يواصل خزام بحثه المستمرّ عن “الأنا” الحقيقيّة، معترفا أنّه لم يجد بعد أغنيته، على الرّغم من اطّلاعه على العديد من الكتب تحت المطر، في دلالة على استمراريّة البحث والتّشبّع بالمعرفة والقراءة، دون الوصول إلى اكتمال الذّات.
إنّ الشّاعر، على الرّغم من تبحّره في المعارف وعميق قراءاته وسعة اطّلاعه، لا يزال يقرّ بأنّه طالب علم دائم، وأنّ رحلة المعرفة لا تبلغ منتهاها، فمن يعتقد أنّه قد أكمل العلم واكتمل، فهو في الحقيقة أوقف نبض فكره، وأغلق أبواب بصيرته، وأعلن عن جمود روحه في بحر لا ساحل له من التّساؤلات والاكتشافات، وهذا ما يؤكّد على أنّ الهويّة رحلة وليست وجهة ثابتة.
يتعمّق خزام في صورة فنّيّة أخرى تقول: “الّذي ولدوه بفمٍ مغلق، يصيرُ حين يكبرُ عمودَ إنارةٍ على رصيفٍ مهجور”، وهي صورة مؤثّرة، تعكس شعورا بالعزلة وعدم القدرة على التّعبير الكامل عن الذّات في عالم متخبّط.
تتشكّل مرارة هذا الصّراع في محاولاته اليائسة لإحداث فرق في العالم الخارجيّ؛ فـ”عملةَ الحظّ” الّتي يرميها للفقير تسقط “في يد الغنيّ”، و”قُبلة الحبّ الّتي يرسلها مع طائرِ الحرّيّة، يرتطم بزجاج النّوافذ ويموت، ممّا يبرز شعورا بالعجز أمام الظّلم الاجتماعيّ وقيود الواقع.
في الفقرة الأخيرة، يضعنا النّص أمام حوارين رمزيّين يبلوران رؤية “المجنون” للعالم. الأوّل مع “شاعرٍ هشٍّ” يرى قصائده “أوراق يانصيب” والحياة “حفلة مقامرة”. يرفض الشّاعر هذه الرّؤية الانهزاميّة السّلبيّة، ويصفه بأنّه “أسطوانة الخسران” الّتي ستظلّ تدور حتّى تنكسر وتؤذيه.
أمّا الحوار الثّاني، فهو مع “الفيلسوف” الّذي يتساءل: “هل هناك عطلة للزّمن؟” هذا السّؤال العميق يدفع الشّاعر إلى إدراك ثقله رغم خفّته، وارتباطه بالأرض رغم “أجنحته الكثيرة”، يشعر بمسؤوليّته تجاه كلّ “فتنة ضامرة”، ويدعو هنا إلى تحرير الوعيّ، والتّحرّر من القيود الفكريّة بفتح الأقفاص الفارغة؛ كيّ يحرّر الرّيح من كلّ أفكارها. هذا الفعل الرّمزيّ هو دعوة إلى التّفكير الحرّ، والتّحرّر من الأوهام والقيود المعرفيّة، حتّى لو كان الثّمن هو أن يلقّبوه بـ “المجنون الّذي لا يعي هذيانه أحد”.
إنّ “جنون” الشّاعر هنا ليس عجزا، بل هو شكل من أشكال التمرّد على السّائد، ورؤية مختلفة للعالم، تمنحه القدرة على كشف زيف “العقلاء” والبحث عن الحقيقة المطلقة.
“الجنون في الأدب”.. تجاوز العقل إلى فضاء الوعيّ:
يتّضح مفهوم “الجنون” في هذا النّصّ كبعد فلسفيّ عميق، يتجاوز دلالته الشّائعة الّتي تعني الخلل العقليّ؛ ليحضر بوصفه حالة من الوعيّ المتفرّد والتّمرّد الفكريّ. هذه النّظرة ليست جديدة في الفضاء الأدبيّ والفلسفيّ، فلطالما كان “المجنون” في تراثنا الإنسانيّ، شرقا وغربا، رمزا للحكيم المتنوّر أو النّبيّ الّذي يرى ما لا يراه غيره، أو الفيلسوف الّذي يتحدّى المنطق السّائد والقوالب الجامدة.
في الأدب العربيّ، نجد شخصيّات مثل “مجنون ليلى” الّذي تجاوز عشقه حدود العقل المتعارف عليه؛ ليصبح رمزا للحبّ المطلق، فيرى في ليلى كلّ الوجود. وفي الفلسفة الصّوفيّة، غالبا ما يشار إلى السّكرِ أو الجنون بمعنى الخروج عن المألوف، والذّوبان في الحقيقة الإلهيّة، وهو ما لا يستوعبه العقل البشريّ المحدود.
أمّا في الفلسفة الغربية، فقد جسّد العديد من الفلاسفة والمفكّرين، على مرّ العصور هذا الجنون التمرّديّ، حيث قادهم اختلافهم عن التّيّار العامّ إلى نظرات ثاقبة، كشفت زيف الواقع وقصوره.
يعيد عادل خزام تعريف هذا المفهوم ببراعة، فيجعل “الجنون” ليس نقصا أو عجزا، بل هو سبيل لإدراك الحقائق الّتي تعجز العقول عن استيعابها. هذه العقول المنشغلة بالمادّيّات، أو الخاضعة لقوالب المجتمع وأعرافه، تفقد القدرة على الرّؤية الشّاملة والعميقة، فـ”المجنون” في هذا السّياق هو من يرى الصّورة كاملة، ويكشف التّناقضات والزّيف، ويتحرّر من القيود الفكريّة الّتي تغلّ الآخرين.
إنّها الثّورة على المألوف، والبحث عن الحرّيّة في فضاءات الفكر المطلقة، حتّى وإن كان ثمن ذلك هو وصمة “الجنون” في أعين من لا يستطيعون فهم هذيانه النّيّر. هذا الجنون هو فعل مقاومة ضدّ الرّتابة والنّمطيّة، وهو البوّابة نحو إدراك الذّات في أعمق صورها وأكثرها تحرّرا.
صراع الرّوح، بين قسوة المدينة وأصالة الطّبيعة:
يخلق عادل خزام في نصّه تضادّا حادّا بين عالمين متناقضين: قسوة المدينة وصخبها، وأصالة الطّبيعة ورمزيّتها. هذا التّوظيف المكثّف، “المدينة” و”الطّبيعة” يمثّل صراعا وجوديّا عميقا يواجهه الإنسان الحديث، فعلى الرّغم من “الإسفلت والرّمل” اللّذين يسودان بداية حياة الشّاعر، ويتركان أثرا قاسيا “حتّى اسودّت ركبتايّ”، إلّا أنّ الرّوح لا تستسلم لجمود هذه البيئة.
تظهر “المدينة” في النّصّ بوصفها فضاءً للوحدة والبحث، حيث يصبح عمود الإنارة قمريّ في ليل المدينة. هذا العمود الّذي هو نتاج بشريّ صلب، يتحوّل إلى مصدر نور وهداية في ظلمة الوجود الحضريّ.
إنّها محاولة لاستخلاص الجمال والمعنى من قلب القبح أو التّجاهل، وعلى النّقيض، تحضر “الشّجرة” كـ”أمّي الثّانية”، لتصوّر رمزا للأصالة والجذور والانتماء للطّبيعة البكر، الّتي تمثّل مصدرا للنّمو والحماية الرّوحيّة.
إنّ “المجنون” لا يرفض المدينة بالكليّة، بل يحاول ترويضها؛ ليجد فيها بصيص ضوء خاصّ به، وهو لا يغوص في غياهبها، بل يرى فيها إضاءته الخاصّة. هذا الصّراع بين “الأصالة والحداثة”، يصبح دعوة للتّأمّل في كيفيّة تفاعل الفرد مع عالمه المعاصر، فهل يذوب فيه، أم يحافظ على جذوره الرّوحيّة والطّبيعيّة؟ وهل يمكن للإنسان أن يخلق مأواه الرّوحيّ حتّى في أكثر الأماكن قسوة واغترابا؟
هذا التّوظيف لعنصريّ المدينة والطّبيعة، يمنح النّصّ بعدا فلسفيّا حول مكانة الإنسان في الوجود، وكيف يسعى للحفاظ على روحه وفرادته رغم كلّ التّحدّيات.
اللّغة كأداة للتّحرّر والتّمرّد والمقاومة:
إنّ المتعمّق في هذا النّصّ يدرك أنّ اللّغة فيه لا تحمل المعنى فقط، بل هي فعل تمرّد بحدّ ذاته، فالشّاعر يكسر القيود الشّعريّة التّقليديّة من وزن وقافية، ليؤكّد أنّ التّمرّد ليس مقتصرا على الأفكار، بل يمتدّ ليشمل شكل التّعبير ذاته. هذا الانطلاق في البناء اللّغويّ، يعطيه مرونة استثنائيّة، ويتيح تدفّق الأفكار بوعي دون عوائق، واتّخاذ الكلمة الحرّة كأداة لتحرير الفكر.
كما يكسر النّصّ القواعد الأسلوبيّة المألوفة، يستخدم مفردات عاديّة بتركيبات غير عاديّة، يحوّلها إلى صور استعاريّة، تخلق دهشة جماليّة وفكريّة.
على سبيل المثال، عبارة: “تتلوّى تحت خطوتي الأرض”، وهي استخدام غير مألوف للفعل “تتلوّى” مع “الأرض”، ما يمنح الجملة قوّة وحيويّة ويجسّد قوّة الذّات المتخيّلة. كذلك، استخدام الأفعال المضارعة مثل: تطأ، يكبر، يرتطم، ينكسر، تُبجِّلُ، يمتطي، أضعُ، تختلطُ، وغيرها، ممّا يضفي على النّص إحساسا بالحركة المستمرّة والدّيناميكيّة الجامعة.
هذه الأفعال لا تصف حالة ثابتة، بل تصوّر عمليّة بحث دائمة، وصراعا متواصلا وتجدّدا في الوعي، ممّا يعكس طبيعة رحلة “المجنون” الّتي لا تتوقّف.
هكذا، تغدو لغة النّصّ شهادة بليغة على الابتكار الخلّاق، ففي رحابها يبرز التّمرّد فعلا جماليّا وجوديّا، وما حداثة الشّكل الشّعريّ والنّثريّ وما يحمله من تجريب، ليست سوى مرآة صافية لوعيّ متجدّد يتوق إلى الانعتاق من كلّ قيد. لذا، يصبح التّجريب هنا ضرورة ملحّة، لا لإيجاد صياغة فكريّة وجماليّة مختلفة فحسب، بل لخلق دهشة مغايرة، وكسر قوالب الكتابة النّثريّة التّقليديّة السّائدة. وفي الحقيقة، دائما ما تحمل نصوص عادل خزام هذا التّميّز والابداع، فكلّ كلمة تنساب بسلاسة على إيقاع خاصّ، وكلّ جملة تنسج عالما فريدا ينبض بالجديد، يغوص في عوالم لم تُطرَق بعد، ويتجاوز بنصوصه حدود المألوف، ليقدّم رؤية فنّيّة مختلفة، تعيد تعريف مفهوم الجمال في الكلمة والمعنى.
الأبعاد النّفسية العميقة.. صدى الاغتراب وقلق الوجود:
يتجاوز هذا النّصّ حدود التّحليل الأدبيّ السّطحيّ؛ ليلامس أبعادا نفسيّة عميقة لشخصية “المجنون”، مصوّرا بذلك صدى لقلق وجوديّ يعتري الإنسان المعاصر.
تتعمّق هذه الأجواء النّفسيّة مع صورة مؤثّرة: ” وكأنّما الّذي ولدوه بفمٍ مغلقٍ، يصيرُ حين يكبرُ عمودَ إنارةٍ على رصيفٍ مهجور”. هذه العبارة تكثّف رمزيّة القمع، وقمع الذّات منذ البداية.
إنّ “الفم المغلق” يوحي بحالة من عدم القدرة على التّعبير الحرّ أو الكبت، ربّما بسبب ظروف النّشأة أو الضّغوط المجتمعيّة الّتي تحاول قوّلبة الفرد. هذا الكبت الأوّليّ، يقود إلى الشّعور بالعزلة والجمود، كـ”عمود إنارة على رصيف مهجور”، حيث يصبح الفرد موجودا، لكنّه منعزل، يضيء دون أن يجد من يستضيء بنوره الحقيقيّ أو يفهم ماهيّته.
إنّها تساؤلات حول تطوّر الفرد تحت وطأة القيود، وكيف يمكن لعدم القدرة على التّعبير أن يشكّل شخصيّة تعاني من شعور عميق بالوحدة وعدم الانتماء، حتّى لو كانت قادرة على الإضاءة للآخرين.
رسالة الأمل.. خيط النّور في غياهب اليأس الظّاهريّ:
رغم ما قد يبدو عليه النّصّ من نبرة مريرة في بعض جوانبه، لا سيما في تصوير محاولات الشّاعر لإحداث فرق في العالم، إلّا أنّه لا يخلو من خيط خفيّ من الأمل.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ “عملة الحظّ” تهبط دائما في جيب الغنيّ، وأنّ “قبلة الحبّ” لا تبلغ مرادها، ممّا قد يزرع بذور اليأس في النّفوس ويوحي باستحالة التّغيير. لكن، في جوهر هذا الواقع، يكمن تعميق لرؤية الإنسان المعذّب، ودَفعٌ قويٌّ له نحو استكشاف سبل جديدة للانعتاق، فاليأس هنا ليس يأسا مطلقا أو استسلاما للقدر، بل هو نقطة انطلاق لوعي جديد ومحاولة أخرى لا تتوقّف، يتّضح هذا الأمل في دعوة الشّاعر الحاسمة: “من واجبي أن أفتح الأقفاصَ الفارغة كي أحرّرَ الرّيح من كلّ أفكارها”.
هذه دعوة مجازيّة ورؤية فلسفيّة عميقة للحرّيّة، فالأقفاص “الفارغة” تشير إلى القيود غير المرئيّة، الأفكار البالية والمعتقدات الجامدة الّتي تحبس الأرواح، وتحرير “الرّيح” يعني إطلاق العنان للفكر، للتّغيير وللقوة الدّافعة الكامنة في الوجود، وهذه الدّعوة تمثّل قمّة الأمل في النّصّ، وتؤكّد على أنّ الحلّ لا يكمن في التّكيّف مع الواقع السّلبيّ، بل في تحطيم قيوده الفكريّة والنّفسيّة.
إنّ “المجنون” لا ييأس، بل يرى في الرّفض بداية لحياة جديدة، حتّى لو كلّفه ذلك أن يُنظر إليه على أنّه خارج عن المألوف. وهذا هو جوهر رسالة النّصّ، الّتي تدعونا إلى البحث عن النّور حتّى في أشدّ اللّحظات ظلمة.
كم مرّة تراءى لنا شخص في ساحة الحياة، أو غاص في أعماق فكرنا، فوسمناه بختم “الجنون” لغرابة أطواره أو شطط آرائه؟ وما درينا أنّ وراء ذلك السّتار الرقيق، تختبئ عبقريةٌ فذّة ورؤيةٌ ثاقبة تتجاوز حدود إدراكنا القاصر. إنّ ما نظنه اختلافا، ليس في حقيقته سوى وميض لذهن سبّاق، يرى أبعادا وزوايا خفيّة، ويكشف عن حقائق عميقة تعجز الأعين العاديّة عن استيعابها. وكم من فكرة عظيمة بدأت شرارتها في عقل “مجنون” رفض الانسياق خلف القطيع، وكم من إنجاز كان ثمرة بصيرة نافذة لم تخشَ التمرّد على المألوف، ليثبت الزّمن أنّ ما ظننّاه جنونا، لم يكن سوى نبوغ سابق لعصره، وبعد نظر فتح آفاقا جديدة للعالم.
الخاتمة.. صدى الحكمة في صرخة التّحرّر:
هكذا، تسدل “أغنية المجنون” ستارها، لا على نهاية، بل على بداية تأمّل عميق في ذواتنا والعالم من حولنا.
لقد خاض الشّاعر غمار البحث عن “الأنا” الحقيقيّة، مدركا أنّ هويّته لم تكتمل بعد، وأنّ “أغنيته” لا تزال تنتظر أن تكتمل نغماتها، وكما أشار في نصّه، هي ليست إلّا دعوة إلى “تحرير الرّيح من كلّ أفكارها”، دعوة للانطلاق من الأقفاص الفارغة الّتي قد نبنيها لأنفسنا، أو تلك الّتي يفرضها علينا المجتمع. فـ”جنون” الشّاعر الّذي قد يبدو هذيانا في أعين “العقلاء”، ليس سوى بصيرة نافذة ترفض الانسياق الأعمى، وتدعونا إلى احتضان رؤية مختلفة، تمنحنا القدرة على كشف زيف السّائد والبحث عن الحقيقة المطلقة، ففي كلّ “مجنون” يصدح بحرّيّته، تكمن حكمة قد تغيّر وجه العالم.
ختاما.. يجدر بنا التّنويه إلى قامة أدبيّة كعادل خزام؛ فهو شاعر وإعلاميّ وكاتب إماراتي، ولد في دبيّ عام 1964م، صدر له العديد من المؤلّفات الأدبيّة المتنوّعة، وقد تُوّجَت مسيرته بجوائز أدبيّة مرموقة. ولمن لم يتسنّ له بعد أن يغوص في أعماق عالمه الشّعريّ والفلسفيّ والنّثريّ، أضع بين أيديكم نصّ “أغنية المجنون” لتستشعروا جماله:
أغنية المجنون.. عادل خزام:
لم تطأْ قدمي حافيًا في لعبة النّار، ولا استرسلتُ يومًا في الرّكض نحو الهاوية، ولا طالتْ رقبتي أمام أبٍ أو جدّ.
وُلِدتُ لأنتمي للدّهشةِ زاحفًا على أسفلتٍ ورملٍ حتّى اسودّتْ ركبتايّ. ثمّ حين مشيتُ، سقطتُ، ثم مشيتُ مترنحًّا، ثمّ اتكأتُ على وهني وانتصبتُ منتصرًا على آفة الضّعف. لم تقُلْ أمّي: تمهّلْ وإلا سيصطادك النّدم، لكنّي سمعتُها في انكسارات اللّيل تُبجِّل الشّمعة، لعلّها تصير دليلي حين أخرج للمنحدرات وحدي، محاطًا بذئاب اللّيل ولكن تحرسني ظلالي.
من أنا؟ حين أقول إنّ الشّجرة أمّي الثّانية، وعمود الإنارة قمريّ في ليل المدينة، والذّكريات، وقد راكمتُها على رفوف العمر، هي سلالمُ صعودٍ لمن أغوته ثمرة الحياة، ورأى أنّه الأحقُّ بقطفها في نضجها، وهي أيضًا سلالمُ هبوطٍ للجبان، عندما تدلّى أمامه الحبل فظنّه الأفعى، وعندما صفّرتْ له الرّيح من شقوق النّوافذ والأبواب كي يمتطي خيلها، لكنّه أسدل لحافه عليه، وقرّر أن يغرق في النّسيان.
لو أضعْ كفّي في كفّ مجدافٍ، يصير البحرُ عبدي. لو أضعْ ساقي في حذاء المسافة، تتلوّى تحت خطوتي الأرض، وقد أُسابِقُ دورانَها فتختلطُ البداية بالنّهاية حين أقف، وقد أُصادف رجلاً واهمًا يركض للأمام، لكنّه في الحقيقة عائدٌ للخلف. وربما لو أدخل على حشد عقلاء ليلًا وأصرخ فيهم: أنا نقيضكم! لا أُثيرُ سوى ضحكاتهم، وربما ركلوني خارجَ جنّةِ الشّطط الّتي ينعمون بها.
أنا فردٌ يبحثُ عن فردٍ هو الأنا. فتحتُ كتبًا كثيرة تحت المطر ولم أجد بعدُ أغنيتي. وكأنّما الّذي ولدوه بفمٍ مغلقٍ، يصيرُ حين يكبرُ عمودَ إنارةٍ على رصيفٍ مهجور. ها أنا مُغمِضُ العينين أرمي للفقيرِ عملةَ الحظّ لكنّها تسقط في يد الغنيّ، وها أنا أرسلُ قُبلةَ الحبّ مع طائرِ الحرّيّة، لكنّه يرتطم بزجاج النّوافذ، ويسقط ويموت.
قال لي شاعرٌ هشٌّ: قصائدي أوراقُ يانصيب، والحياةُ حفلةُ مقامرة. قلتُ له: أنت أُسطوانةُ الخسران، وستظلُّ تدور وتدور إلى أن تنكسر الإبرة وتطعنك في الوجدان والخاصرة.
قال لي الفيلسوف: هل هناك عطلةٌ للزّمن؟ وحينها شعرتُ بثقلي وأنا الأخفُّ، وبقيدِ ارتباطي بالأرض رغم أجنحتي الكثيرة، وبأنّني السّببُ الوحيد لكلّ فتنةٍ ضامرة، ومن واجبي أن أفتح الأقفاصَ الفارغة كيّ أحرّرَ الرّيحَ من كلّ أفكارها. ولا يهمّ بعد ذلك لو لقبّوني بالمجنون الّذي لا يعي هذيانه أحد.
صباح بشير.. روائيّة وناقدة
21.06.2025