هروب من نار .!
تاريخ النشر: 17/10/19 | 9:38يوسف جمّال – عرعرة
الى هذه اللحظة , وبعد عشر سنوات من غيابها , لم أصل الى الأسباب التي جعلتني أن أتعلق بها وتتعلق بي ..
بدايتنا .. عندما كانت تقف أمامي في الدّور , لنشتري قهوتنا من كافتيريا الجامعة ..
تناولت كأسها من البائع , وصاحت به : خُذ ثمنه من هذا الشاب الجميل الذي يقف خلفي .! أنا لا أحمل نقوداً .!”
قالت وكأنها تقول شيئا عادياً .. وكأني موجود هنا كيّ أخدمها..!
في البداية اشتعل الغضب في رأسي .. بالنسبة لي كانت ” نجوم السما ” ,أقرب من أن أدفع ثمن قهوتها ..
نظرت باتجاهها ,فوجدتها منشغلة ببليفونها المحمول.. و بين الفينة والأخرى ” تسرق ” رشفات من كأس قهوتها ..
وكأن ما بَدَر منها قبل لحظة .. أصبح نسْيّاً منسيّا .
فوجدت نفسي أدفع ثمن قهوتها .. لعلي اقتنعت ان تصرفها كان عفوياً , ولم تقصد استغلالي .
لم يسبق لي أن عرفت ” نعومي ” قبل هذه الحادثة ..
شعور حبِّ الاستطلاع , دفعني الى الجلوس لشرب قهوتي بجانبها .. وعلى طاولتها .
رفعت عينيها عن البليفون فوجدتني بجانبها ..
فقالت وهي تضحك ضحكة كلُّها شقاوة وعبث :
جئت تسترد ثمن القهوة .. أيُّها العربي البخيل .!؟
نعم .. ! أجبت ضاحكاً ..
أنا لست بنكاً لا لك .. ولا لأبيكِ .! أكملت في عبثي معها ..
أنت لست عربياً بخيلاً فقط .. بل عربي له لسان وسخ أيضاً.!
قالت وهي تأخذ ما بقيَّ ما في كأسي من القهوة , وتصبَّها في فمها مرة واحدة ..
قم سريعاً , واشترٍ لنا كأسين آخرين ..وبعدها نتحدَث مثل البشر .!
أتعرفين أنك وقحة و.. !؟
قلت وأنا أضع فنجان القهوة أمامها .
أعرف .. و كلبة أيضاً ! ردت كأنه أمر عادي معتادة على سماعه..
ولكن لماذا دفعت ثمن القهوة ..!؟
أعرف .! أعرف .! أنت عربي شهم وكريم .. خصوصاً مع الحريم ..!
قالت كي تخلَّصني من ثقل مهمة الجواب .
واستمرَّت في إطلاق كلمات وجمل متقطِّعة , بطريقة مستهترة ..كأنها تخرج من فم بلا فرامل ..
أتعرف من أنا .. !؟ قد تظنّ أني شحادة ..!
أنا ابنة جولدشتين .. صاحب شركات غولدشتين ..أكبر وأغنى الشركات في البلاد .
أستطيع أن أشتريك .. وشراء كلّ هذه الدولة .. ان المبلغ الذي يدفعه أبي لهذه الجامعة , يكفي لشرائك وشراء كلّ عربك ..!
ولكنك لا تحملين ثمن فنجان قهوة .! قلت مستفزّاً ..
أتعرف أنك تملك عينين ساحرتين ..!؟ قالت وهي تهرب من حديث ملّته الى حديث آخر ..
أعرف ..!
من قال لك هذا ..!؟
الكثيرات ..!
قامت من مكانها , وانسحبت من أمامي , كأنها تهرب من نار تقترب منها ..
بعد أيام .. كنت في طريقي الى مقعد , اعتدت الجلوس عليه , هارباً من ضجة المحاضرات والطلاب , وإذا بيد تمسك بمعصمي وتشدُّني ..
كانت هي رونيت ..
ولشدة دهشتي , جرَّتني وقادتني الى نفس الشجرة ,التي أجلس تحتها دائماّ ..
وعندما جلست على المقعد , رمت بنفسها على العشب الأخضر , منبطحة واضعة يدها تحت رأسها ..
أنت مندهش لأني جررتك الى هنا تحت هذه الشجرة ..إني رأيتك عدة مرات تجلس هنا لوحدك ..
منذ متى ..!؟
منذ أن ” شحدت” منك القهوة .!؟
معنى ذلك أنني تحت المراقبة .!
ماذا تريدين مني .!؟
عينيكَ .. ! ألم أقل لك أن عينيك جميلتان .!؟
وأنتِ لماذا وافقتِ أن تأتي معي الى هنا .!؟
لا أدري .!
سيراك الكثيرون من الطلاب تجلسين مع عربي ..!
من لم يعجبه فلينتحر .! صرخت من بين موجات غضب , حاولت التسلل الى وجهها ..
لماذا لا تذهب الى الكافتيريا , وتحضر لنا فنجانين من القهوة ..!؟
على حسابي مرة أخرى .!؟ يا ابنة الملياردير !؟
قلت مستفزّاً مرة أخرى ..
أخرجت من جيبها محفظة , وتناولت منها بطاقة اعتماد , ورمتها باتجاهي وهي تصرخ :
خذها واعمل فيها ما تشاء .. ! أنا لا أريدها ..! لا أريد أن أستعملها .. لا أريدها..!!
وأجهشت بنحيب حزين , ترافقه شهقات متقطعة محمومة ..
بعد تردد .. مددت يدي ووضعتها على يدها..
لمذا لا تحتضنني ..!؟ لماذا لا تضعني في حضنك !؟
أيها المسلم الجبان ..!
أتخاف من ربك .!؟ آتخاف من مشايخك .!؟
تطايرت منها زعقات محمومة .. وهي تقوم من مكانها وتسرع هاربة , وتركتني متجمّداً في مكاني , تدور بي الدُّنيا .. ضائعاً في سراب الصدمة التي تركتها خلفها ..
وبعد أن خرجت من غيبوبتي , وبدأت تتكشَّف لي الدنيّا من حولي , انتبهت أنها تركت وراءها , بطاقة الاعتماد ملقاة على الأرض !
قمت من مكاني عن المقعد , وتناولتها عن الأرض , وقرَّبتها من عيني :
” غولدشتين نعومي .. ” كان مكتوب عليها ..
وضعتها في محفظتي , ومشيت أبحث عنها ..
بحثت عنها في قاعات المحاضرات , في الكافتيريا , في حدائق الجامعة ..
كنت أعرف ,أني أبحث عن قشة في كومة تبن ..وانه من المستحيل إيجادها , في هذه الجامعة المترامية الأطراف .
هى ستبحث عني .. ! هكذا خرج صوت من داخلي ..
ليس من أجل بطاقة الاعتماد .. ولكن من أجل شيئ آخر, لا أستطيع تحديده .. تفسيره .. الى أين سيصل بنا !
ومرّت عدة أيام دون أن أراها ..
لا أريد أن أراك .. ! قالت وهي تجلس على كرسي بجانبي على طاولة في الكافتيريا ..
وقبل أن أنطق صاحت بي بصوت مخنوق :
إذهب واحضر لي قهوة ..! لا تدفع من جيبك .. استعمل بطاقة الاعتماد ..
ناولتها الكأس .. أخرجت محفظتي من جيبي , وتناولت منها البطاقة , ومددت يدي باتجاهها ..
لا .. لا أريدها ..” إحشيها ” في …!
آنت عربيٌّ سافل ..
لا أريد أن أراك مرة أخرى ..!
انفجرت صارخة ,وتركتني مع بطاقة الاعتماد وفنجان قهوتها .. ودوامة عاتية , حولتني الى ريشة تدور في حوّام متلاطم .
غابت عنّي عدة أيام .. كنت متأكداً أنها تتهرَّب من ملاقاتي ..
بينما كنت في طريقي الى محطة الباص , وإذا بيد تمسك بيدي .. كانت يدها ..
جرَّتني بقوة , متغلِّبة على مقاومتي الضعيفة , ومشت باتجاه مواقف السيارات ..
وقفت بجانب سيارة ضخمة مكشوفة من نوع فاخر , فتحت بابها وصرخت بي :
إركب ..!
الى أين .!؟
الى جهنم ..!
صعدت وجلست على الكرسي .. جلست بجانبي وأشعلت المحرّك ” وطارت ” مخلِّفة وراءنا زعقات العجلات ..وراحت ” تأكل ” شوارع المدينه بنهم ووحشية ..
هل هذه السيارة الفخمة لك .؟ سألت ..
جولدشتين اِشتراها لي .. وأنا لم أقبلها منه .. لا أريدها .! ردَّت بطريقة أفهمتني فيها , أنها تمقت هذا السؤال .
ولكن لماذا تركبيها الآن .!؟
أكملت مكملاً استفزازاتي ..
اسكت ..! وأغلق فمك ..! هذا لا يعنيك .! صرخت بيَّ محذِّرة , أن أعصابها , لن تطيق سؤالاً آخر من هذا النوع ..
ماذا تفعلين .. !؟ لماذا تسوقين بهذه السرعة الجنونية !؟ أتريدين أن نموت .!؟ صرخت بها والخوف يقطِّعني..
أنت مسلم متديّن .. ربك سيحميك .. وسيحميني من أجلك .!
ولم تجدِّ رجاءاتي واستعطافاتي ..
الى أن وصلنا الى جانب فيلا , في طور البناء , بجانب ميناء يافا..
نزلتْ ونزلتُ خلفها ..نظرت الى العمارة ..كانت ورشة عمل .. يشتغل فيها الكثير من البنّائين والعمال ..
أتعرف لمن هذا القصر .!؟ قطعت حبل تمعني وإعجابي بما يصنعه البناءون من فخامة وسحر وجمال ..
حافظت على صمتي ..
ان أبي يرممها ويزيد عليها أضعافاً لإبنته الوحيدة .!
ولكنّي لا أريدها ..لن أسكن فيها .!
لماذا .!؟
كان هذا بيت لعربي أحمق مثلك .. باعه لأبي بملاليم ..!
وأضاع ثمنه بالخدرات .!
ألهذا لا تريدين السكن فيه !؟
أنت عربي جبان وأحمق مثله.!
صرخت بي .. وتوجهت مسرعة الى السيارة , ولولا إسراعي في اللحاق بها , وفتحي للباب في آخر لحظة , لتركتني هناك بجانب البيت .
رمتني بجانب المحطّة المركزية , وطارت بسيارتها كالمجنونة ..
واختفت ..
شعرت أن قوى تنطلق من داخلي , تقودني بقوة للبحث عنها .. كلّ شيئ فيَّ يطلب لقاءها ..سخَّرت كلَّ الأوقات التي لا أكون فيها في المحاضرات للبحث عنها..
مرَّت أيام شعرتها دهرا..
صعدت الى الباص الذي يوصلني الى المحطة المركزية .. بعد يوم شاق من المحاضرات , والدوران في طرقات ومرافق الجامعة للبحث عنها .
مددت بطاقة الدفع باتجاه السائق , وإذا بصوت يقتحمني :
مدفوع ..!
كانت هي ..كانت تجلس على الكرسي الأوَّل ..
أنت ِ كلبة ..! صرخت بها .. وأنا أتخذ مكاني بجانبها ..
أعرف ..! قالت وهي تلتحَّف الصمت ..
ومشى الباص في شوارع المدينة ..
وبعد دقائق طويلة من صمت محموم همست :
لماذا لا تتكلّم .!؟
وبقيت قابضاً على بركان صمتي .. محاولاً منعه من الانفجار ..
نزلنا من الباص في المحطة .. وتوجهت باتجاه محطة الباصات المركزية ..
كانت تسير بجانبي ..
الى أين أنت ذاهبة ..!؟ قلت دون أن أنظر الى وجهها ..
معك ..! لا أخاف منك أيها العربي الوسخ ..لا أخاف أن تغتصبني أو تغتالني ..
تعال معي ..! قالت وهي تجذبني الى اتجاه آخر .
اتركيني ..! لا أريد مرافقتك ..أنا راجع الى بيتي ..
لا .. لا تحاول أن تلعب معي لعبة الكرامة الزائفة .. فقد راقبتك وأنت تدور كالمصروع , تبحث عني في الجامعة .!
تعال .! لا تستطيع معارضتي .!
أمسكت بيدي وجرَّتني .. وسرت الى جانبها في الشارع حتى وصلنا الى حديقة تشرف على البحر , جلسنا على مقعد تخفيه عما حوله , شبكة من أغصان شجرة وارفة الظلال , حيث يعطي الجالسين عليه قدراً كبيراً من الخصوصية .
لماذا كنت تبحث عنّي .!؟ ماذا تريد من كلبة مثلي .!؟ قالت بلهجة فيها عتاب وحنين ..
لا أدري .! أجبت جواب الضائع في بحرٍ من الأسئلة , التي ليس لها جواب .
هل تريد أن تمارس الجنس معي مثلاً .!؟ أكملت كأنها ترمي قنبلة لا تخشى انفجارها ..
أنت لست كلبة فقط ..كما قلتِ ..بل مصاصة دماء .! صرخت بها بانفعال متفجِّر ..
وضعت راحاتيها على وجنتي.. وصبت من عينيها شلالاً من الحنان الحنون ..في عيني فسرت في جسمي تيارات من السكينة , سمت بيَّ الى أعالٍ مسحورة ..
وأنت ماذا تريدين مني .!؟ قلت بعد رجعت الى وعيّي .
ألم أقل لك أنني مفتونة بهاتين العينين .!؟ قالت وهي تمسح بيدها دموعاً سالت منها دون أن أشعر بها ..
بعينيّ فقط ..!؟
رددتُ بعتاب مكسور ..
قامت من مكانها .. خطت بضع خطوات مبتعدة عنّي .. وأذا بها ترجع وتحتضن وجنتيَّ براحتيها , وتغرف من شفتيَّ قبلة موجعة .. وتبتعد عني هاربة ..وتر كتني جالساً في مكاني ..في ذهول
مصلوب .
ولم أراها بعد ذلك ..
وصلتني منها بعد شهر رسالة نصيَّة : ” أنا في أميركا .. إنساني.!
أنا لا أقدر على ذلك .! ” .
نعومي ..