نار جهنّم
تاريخ النشر: 09/09/19 | 10:04في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها سميح بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (سلّوح بن بنياميم بن شلح صدقة الصفري، ١٩٣٢-٢٠٠٢، تاجر أقمشة ماهر وكاتب) بالعربية على مسامع ابن شقيقه، الأمين (بنياميم) صدقة، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، نقّحها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٣٢-١٢٣٣، ١ آذار ٢٠١٧، ص.٢٥-٢٩. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة ترزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّرين، الشقيقَين، بنياميم ويفت، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
يحيا بإيمانه
”نعم، أنا السامري الوحيد الذي يملك دكّانًا في سوق نابلس الكبير، اسمي سميح بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي. نعم، أنا هو هذا لا غيره. إنــّي سامري من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، أُقدّس التوراة وجبل جريزيم. أومن بإله إسرائيل وبنبيّه الوحيد، الرسول موسى بن عمران، سيّد الأنبياء. بعون الأنبياء وبالإيمان أَشُقّ طريقي في هذا العالم، ولست بحاجة لمساعدة أي إنسان. يكفيني أنّي أتّكل عليهم وأومن بهم، وهذا يجعل حياتي أسهل. لولا عون الله وبركة موسى التي تحميني، لكنت الآن في القبر.
مُصاب بعمل عدائيّ
أنظر، أنظر إلى هنا، أترى كيف وصلوا لي أصابع قدمي. بالتأكيد، أتعرف ما هذه، إنّها قنبلة يدوية انفجرت. لا، ليس كوز رمّان سقط من العريشة (في العبرية ”ريمون“ تعني رمان وقنبلة يدوية). إنّها قنبلة حيّة سبّبت لي هذا. في عام ١٩٦٩، بعد سنتين تقريبًا من حرب النكسة (في العبرية: حرب الأيام الستّة) كنت أمشي ببراءة بجانب عِمارة البلدية بالقرب من دار الحاكم العسكري. آونتها كانت بناية الحاكم العسكري بجانب البلدية، وليس بجانب السجن. رأيت فجأة شيئًا ما يحدث، كما تراه في الحلم. كنت قريبًا من مدخل بيت الحاكم، بالقرب من البوابة. على حين غرة، ركض مجهول ورمى شيئًا ما على البوابة، على مسافة بضعة أمتار من المكان الذي وقفت فيه. رأيت ذلك الشيء يتدحرج، يتدحرج، يتدحرج ويقف. نظرت نحوه وكأنّي منوَّم، وبدفعة واحدة تفجّر كلّ العالم على رأسي. وهذه النتيجة، ما تراه عيناك. الله ورسوله موسى ساعداني. جُرحت برجلي فقط، الشكر لله سبحانه وتعالى.
ها هو ما ترى. هذا كلّ عملي ونصيبي في هذه الدنيا، دكّان الأقمشة الصغير هذا. أبي، الأمين وشقيقه ممدوح (أشر) عملا فيه. بعد وفاة أبي، اشتغل فيه عمّي ممدوح وشقيقي البكر راضي (رتسون).
وحيد في دكّان الأقمشة في السوق النابلسي
عندما انتقل راضي شقيقي للعيش في إسرائيل، بقي عمّي ممدوح في الدكّان وطلب منّي مساعدته. كانت هنالك دكاكين أخرى في السوق للسامريين إلّا أنّها أُغلقت، عندما شاخ أصحابها، ولم يحلّ محلهم أحد. منذ وفاة عمّي ممدوح بقيت في الدكّان لوحدي. كان شقيقي ماجد (هيلل) يأتي من إسرائيل أحيانًا ليساعدني بضعة أيّام. كما وكان ابن عمّي نصوح (يوعتس) يساعدني أحيانا، إلّا أنّني بصورة عامّة أتدبر الأمر لوحدي. في السوق يطلقون عليّ الاسم ”سميح السامري“، يحترمونني وأبادلهم الاحترام.
لا ضحك في التجارة. الكل يعرف أنّ تجارة سميح هي الأفضل في السوق. لا يخفى عليّ شيء. إنّي على اطّلاع على كلّ ما يجري في السوق، أسأل ويجيبونني. كما أنّي أعرف كلّ ما يحدث في طائفتي، حتّى لو لم أُرد أن أعرف فإنّهم يحكون لي. لماذا لي بشكل خاصّ؟ لأنّي صاحب الدكّان السامري في السوق. كلّ سامري ينزل من الحيّ السامري للتسوّق يتوقّف قليلًا على المقعد هنا في الخارج. هل رأيت سامريًا في هذه الدنيا يجلس لحظة ولا يحكي شيئًا ما؟
إنجذاب للموضة القديمة في الملابس
كما وأسمع قصص قرويين وقرويات. اللباس التقليدي الذي أرتديه كلّ الوقت يشهد على أنّني سامري، وهذا يجذبهم. وهم يؤمنون بقوّة السامريين، يأتون ويحكون لي عن مشاكلهم. إذا كانت المسألة بسيطة أُنهيها في الدكّان وإلا فأدعو الشخص إلى بيتي. إنّهم يدفعون بسخاء، ماذا ظننتَ؟ يؤمّ هذا الدكان زبائن من كلّ البلاد. أفضلهم هم قرويو محيط نابلس. عندما يقتني القروي بضاعة ما فإنّه لا يشتري لنفسه فقط، بل يشتري قماشا من كل الأنواع والألوان بالياردات. لا، لا، أنا لا أقيس بالمتر بل بالمقياس الإنجليزي فقط، بالياردة وأسمّي ذلك ذراعا. يشتري القروي أحيانًا أكثر من مائة وحتى مائتي ياردة دفعة واحدة، له ولزوجته وللبنات والعمّات والحموات من كلا الطرفين، أمّه وأمّ زوجته. وماذا بخصوص بنات العم وماذا عند وجود أكثر من واحدة في البيت، يا ويله إن لم يكسوهن. أعرف الجميع والجميع يعرفني. يأتونني من قرى وبلدات كثيرة، من قوصين، إماتين، ترمسعيا، بيتا، بيت فوريك، عسكر، دير شرف، البادان، طلوزة، بيت وزن. وهم يعرفون أنّ لدى سميح يجدون آذانًا صاغية لمشاكلهم وبضاعة جيّدة لعائلاتهم.
أضف إلى ذلك، هم يفضّلون دائمًا التاجر الذي يلبس بحسب الموضة القديمة، كما هي الحال في القرى وكما أرتدي أنا أيضا، على العرب في المنطقة الذين يلبسون اللباس الإفرنجي ويخسرون بذلك زبائن مِلاح. في بعض الأحيان يُنهون يومهم وخَزنتهم خاوية (وفي خزنتهم ما لديّ ما بين شعرات الرأس وبين شرّابة طربوشي الأحمر، أي، لا شيء، لا عسل ولا بصل). حسنًا، هذا ما يفعله التفرنج للناس، ولا داعي لي للشكوى. الله يساعد دائمًا الذين يخشونه ويسبحونه ليل نهار.
سلام للشيخين محمّد وأحمد
أهلًا وسهلًا، أهلًا وسهلًا، أهلًا وسهلًا بصديقي الكبير، من أين أنت قادم؟ آه، من روجيب؟ أهلًا وسهلًا بجارنا الطيّب، يا ميت ألف مرحبا، بلّغ سلامي لشيخي قريتك محمّد وأحمد. نحن أصدقاء منذ سنوات كثيرة. ماذا تنوي أن تشتري يا صديقي الصدوق؟ وصلتني اليوم صباحًا بضاعة بجودة عالية، جلبها لي صديق من سوق دمشق. لا تسألني كيف أحضرها، لكن أنظر يا له من حرير أصلي، وتشكيلة من الألوان، كم تريد لأقصّ لك؟ ثلاثون ياردة فقط، زمن صعب، زمن صعب، قيمة النقود تهبط ولا عمل كما يجب. لا يهمّ، كلّ يوم أجمل من سابقه، والشكر موصول لله هلى هذا. حسنًا، نفقت ثلاثون ياردة. من أين أعرف الشيخين محمّد وأحمد من روجيب؟ أيّ سؤال هذا؟ أتوجد أصلًا في كلّ هذه المنطقة قرية حيث لا يوجد فيها على الأقلّ ثلاثة شيوخ باسم محمّد وخمسة باسم أحمد؟ ماذا جرى لك؟ إفتح عينيك تنجح!
مكان اشتعال نار جهنّم
عرفت أنّني لن أُنهي هذا اليوم معك بدون سرد قصّة. هذه الكرّة ليس ما قصّوا عليّ بل قصة حصلت معي. أحد جيراننا في الحيّ السامري في نابلس، من عائلة ستتية، بدون الإفصاح عن اسمه الكامل، إذ علينا واجب الحذر إزاء شرفه وشرف الآخرين. المهمّ، جاءني ذات يوم ليسلّم عليّ ويبشّرني بأنّه كان من ضمن السعداء في تأدية فريضة الحجّ لمكة لأوّل مرّة. وتمشيًا مع العادة، فإنّي أُعامله باحترام الآن، وكم بالحري بعد عودته من مكة. عندها يُضيف لاسمه كلمة الحاج ويخيط قطعة قماش بيضاء بطربوشه كما يحلو ويروق للحاجّ. الشيخ ستتية عرفه سامريون كثيرون، خاصة لكونه مكتنزًا ومن الوزن الثقيل وكِرشه البارزة، ولا أبالغ إذا قلت أنه كان يزن ١٥٠ كغم على الأقلّ. صافحته بحذر وتمنيت له على الطائر الميمون.
بعد بضعة شهور، بُلّغت بعودته ويطلب حضوري للتسليم عليه لأنّه أحضر لي معه بعض القارورات المملوءة بماء زمزم في مكّة. يعتبر المسلمون أنّ هذا الماء مقدّس والكثير من القرويين يدفعون بسخاء ليشربوا منه. نزلت إلى محطة باصات شخشير وانتظرت الباص. وصل الباص وأخذ المسافرون ينزلون منه، بحثت جيّدًا عن صديقي ستتية ولم أعثر عليه. بينما كنت مستغربًا سمعت صوتا بالقرب مني يقول ”هذا أنت يا صديقي سميح“؟ نظرت باتجاه الصوت وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت من كان في الماضي ضخمًا ومن الوزن الثقيل وها هو الآن نحيل ذابل، كأنّه فقد مائة كيلوغرام دفعة واحدة. استصعبت التعرّف إليه من قسمات وجهه. ”ماذا حصل لك يا صديقي، هل الحرّ في مدينتك المقدّسة قد أضرّ بك إلى هذا الحدّ؟“ سألت. ”ماذا أقول لك يا صديقي“ همس ستتية بصوت واهن منكسر”شو أقولّك يا جار، لولا الكعبة والحجر الأسود كنت أجرؤ على القول، هناك نار جهنّم“.
ها هي قصّة عمّا يستطيع الحرّ الشديد أن يفعل بالناس. لا تفهم من ذلك بأنّي أوصي بهذه الطريقة لتخفيض الوزن. كي ينقص الوزن في الحجّ إلى مكّة، لا يكفي للمرء أن يكون سمينًا بل مسلمًا أيضا.
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي