بستان الاطفال المستقبلي فكرة بسيطة
تاريخ النشر: 04/09/19 | 12:30موضوع البستان المستقبلي يشغل بال مربيات الاطفال والاهالي والباحثين والمهتمين بالطفولة في الآونة الاخيرة ويتم تداوله في استكمالات وابحاث مختلفة على اكثر من مستوى. اود هنا ان استعرض وجهة نظري كباحث في موضوع البستان المستقبلي ببساطة لكي اتيح امام القارئ التعرف على الفكرة بسلاسة.
يمر العالم بما فيه الاطفال والاهل في السنوت العشر الاخيرة بتغييرات متسارعة مصحوبة بتحديات عديدة غير مسبوقة ابرزها على الصعيد التكنلوجي. فاذا كان يعتبر الامي هو من لم يعرف القراءة والكتابة اصبح اليوم الامي هو من لا يعرف التعامل مع افرازات الثورة التكنلوجية من هواتف ذكية وشبكات تواصل وشبكات معلومات. ناهيك عن التحديات الاجتماعية والاسرية التي املت علينا انماطا جديدة من التعامل مع جيل اليوم في مؤسسات التربية وداخل المنازل.
من ابرز التغيرات الحاصلة انشغال الاهل اكثر واكثر في العمل وابتعادهم عن المنازل الامر الذي اثر على الكم والكيف في التربية. في غضون 50 عاما تناقصت نسبة الولادة تدريجيا الى ان اصبح معدل الولادة للأسرة العربية اليوم نحو 3 اطفال بعد ان كان 9 اولاد للعائلة الواحدة في سنوات الستين. العدد اليوم لا يدل بالضرورة على جودة اعلى في التربية ولا مجال للمقارنة هنا بين الماضي والحاضر لسرعة التغيرات الطارئة. ولكن من ابرز ما يميز انماط التربية اليوم ميلها للدلال وتقديم كل ما هو سريع وجاهز للأطفال. فأكلهم ومشربهم وملبسهم اصبحت جميعا سريعة. حتى لعبهم اصبح بواسطة اصابعهم عبر العاب الكترونية تنافسية على شاشة ذكية. رحلاتهم اصبحت مركزة واقتصرت على ايام معدودة في السنة على الاغلب في رحلة لخارج البلاد يتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي لنيل الاعجاب. هذه التغيرات على انماط الوالدية دفعت الطفولة الى هاوية التهميش بعد ان عاشت الطفولة نهضتها في سنوات الستين والسبعين من العقد المنصرم مع تطور البحث حول الاطفال مع غياب افرازات التكنلوجية. هناك انتشر ادب الاطفال وتم تطوير اللعب الدرامي والخيالي وصندوق الرمل وساحة اللعب وساحة الخردوات واعادة التدوير والاشغال اليدوية وغيرها.
في خضم هذا الزخم وهذه التحديات تأتي فكرة البستان المستقبلي للدفاع وحماية ما تبقى من مملكة الطفولة بعد اندثار العديد من اركانها الى غير رجعة. معظم المؤشرات المستقبلية تؤكد انه اذا لم يتم التدخل فورًا فان جيل الاطفال القادم (جيل الفا) سيكون جيلا خاملا مستهلكا بعيد كل البعد عن الطبيعة وعن الاجتماعيات وسيميل الى العزلة والوحدة رغم ذكائه غير المسبوق.
البستان المستقبلي يزرع في هؤلاء الاطفال المتواجدين حاليا في الروضات حب النشاط والحركة والمبادرة والابتكار. من خلال التقرب اكثر من الارض والطبيعة و العمل واللعب فيها بشكل مباشر ويومي وليس من خلال مشاهدة افلام توضيحية واوراق عمل وانحصار في زاوية تركيز او لقاء صباحي اشبه بدرس تلقيني. يخرج الاطفال يوميا الى الارض ويتمرسون في ترابها فيزرعون النباتات في مواسمها يقلمون الاعشاب الضارة ويتعرفون على ظواهر الفصول في ارضهم هذه وفي الطبيعة اثناء الجولات المتكررة. البستان المستقبلي يخرج فيها الطفال من حيز صف البستان باستمرار. مطلوب مربيات كثيرات المشي محبات للتجوال والاكتشاف لا مربيات جليسات اطفال. مربيات يسمحن بالاكتشاف والمبادرة والتعليم من خلال الممارسات واحيانا من خلال الخطأ متسامحات الى ابعد الحدود محبات عطوفات. الاطفال يقطفون بأنفسهم الثمار في مواسمها حتى لو اضطروا الى تسلق الاشجار. ينكشون التراب بالمعاول يرتدون الجزمات ويسقون الارض بسخاء وحب فتتسخ احذيتهم بالوحل وملابسهم تتبلل بالماء وينزل العرق من جبينهم صيفا ويترطب شعرهم بالمطر شتاء. يلعبون في صندوق الرمل المبلول او الناشف فتمتلئ جيوب سراويلهم بالرمل ويتخلل اصابع قدميهم فيغسلونها في دلو الماء. يصنعون كرات الرمل وكأنها دحابير شوكولاطة ويغرسون العود في قالب من الرمل ويغنون محتفلين بعيد ميلاد طفل. وابدا لا تسمح المربية بان يصبح صندوق الرمل علبة سردين تحصر به الاطفال لساعة بينما تجلس هي جانيا تحتسي القهوة وتتبادل الحديث مع زميلتها او تقلب صفحات التواصل الاجتماعي في تلفونها متجاهلة ما يحدث امامها. المربية حاضرة في البستان المستقبلي حضور الشمس في تموز وحضور الغيم في كانون. منها يستمد الاطفال قوة العمل والارادة للاستمرار في اللعب والعمل لأنها بنفسها نموذجا للعمل وشخصية اصلاح وكثيرا ما تعوض عن دور الاهل الذين يقضون جل وقتهم في البيت على شاشتهم الذكية او مقابل التلفاز، فتنقل هذه المربية نموذجا اخر عن البشر البالغين يمكن للطفل ان يتمثل منه.
البستان المستقبلي يقدم للأطفال وجبة افطار كاملة الغذاء ويستغني عن ساندويش المرتديلا او الشوكلاطة التي قد ترسلها الام او الب او حتى منقوشة الزعتر او البيتسا التي اشتروها على عجل فلا وقت لتحضير الزوادة في الصباح فعمل الاهل لا يحتمل التأخير بينما صحة طفلهم تحتمل التأجيل لعله يجد في الغذاء وجبة مفيدة ولكن للأسف حتى وجبات الغاء باتت اقل جودة مما ينبغي ان يحص عليه الطفل في اهم فترة لبناء جسده. وجبة الافطار في البستان المستقبلي تحتوي على الخضروات وعلى خبز من قمح كامل ومن زيت الزيتون والطحينة ومنتجات الالبان وكل المواد الاساسية التي من شأنها ان تسهم في بناء جسد الطفل. بعيدا عن المسليات والحلويات والاكل السريع المشبع بالدهون والزيوت. مرة اخرى البستان المستقبلي يقدم البديل الافضل وفي نفس الوقت يزرع في الطفل حب البدائل لتصبح جزء من كينونته وتكوينه فترافقه في المستقبل كعادات وسلوكيات. فالطعام له طقوسه التي افتقدناها في هذا العصر. الجلوس الى مائدة الطعام له عادات وقيم البستان المستقبلي يتبعها ويجعل منها قريبة الى الطفل ليمارسها بنفسه. اطفال البستان المستقبلي يعودون الى بيوتهم مزودين بتل العادات ويدخلونها الى بويتهم ويعرفون ذويهم عليها من خلال سلوكياتهم اللا تلقائية عند الطعام وفي نشاطات اخرى.
يحزنني ان اقرا عن اطفال لا يقوون على قضم حبة التفاح بأسنانهم لضعف او كسل في الفكيين! هذه الفاكهة الهامة بفوائدها اصبحت مجرد زينة ترسل مع الطفل لترمى في سلة مهملات الروضة مع انتهاء الوقت المخصص للطعام دون تدخل المربيات ويعتقد الاهل ان طفلهم اكل تفاحيه ويرسلون في الغد حبة جديدة. اين المربية؟ حاضرة لكنها غائبة. وجبة الفاكهة في البستان المستقبلي ركن اساسي وعادات اكل وقضم التفاح وغيرها من الفاكهة اساس.
كيف ننسى اللعب الحر بأنواعه واشكاله من لعب درامي خيالي ولعب بنائي ولعب حركي ولعب وظيفي. البستان المستقبلي يعرض ويقدم للأطفال هذا التنوع بشكل مشوق ويتيح المكان والزمان لها جميعا. بينما تكتفي البساتين العادية بتقديم اللعب العشوائي للأطفال فيكثر العنف خلاله مع غياب وعي المربية لما يحدث وتساؤلها لماذا ضرب هذا الطفل ذاك؟
البستان المستقبلي في وقت اللعب يتحول الى ورشة متنوعة الانشطة وهي اهم واطول فقرات اليوم. يمكن للطفل اثناءه ان يختار وان يمارس أي نوع من انواع اللعب بإشراف مربيته الحاضرة المدركة المتابعة لما يجري من حولها رغم انغماسها بأشغال البستان كام تتدبر منزلها. مع معرفتها التامة الى ان كل نوع من انواع اللعب يعمل على تنمية جانب اخر من جوانب النمو والتطور لدى الاطفال.
دور المربية في البستان المستقبلي رأس الحربة واساس البستان. هي الام المهنية البديلة المدركة الملمة الفاهمة التي تضع في سلم اولوياتها تطور الاطفال من خلال تحضيرها لبيئة تتيح امام الأطفال الحركة والمبادرة.
في الخلاصة: كل مربية تستطيع ان تعمل على نفسها لكي تكون مربية للمستقبل بوعيها وادراكها للتحديات المحيطة بها وبالأطفال وفهمها للواقع المتغير وبرؤيتها للمستقبل واكساب اطفالها عادات العمل والسلوكيات الايجابية وابتعادها عن اسلوب الطلب السلبي من لمنع وصد وما يتبعها من احباط وتخاذل. واتاحة المجال للأبداع والابتكار والتعاون مهما كانت التحديات صعبة في جيل الطفولة.
البستان المستقبلي سهل ممتنع ومفتاحه بين يدي المربيات فان اردوا فتح المستقبل ابوابه على وسعها.
د. سلام قدسي
الكلية الاكاديمية للتربية القاسمي وكلية بيت بيرل