الانعتاق

تاريخ النشر: 31/03/14 | 10:57

بقلم:يوسف جمال

اريد شيئا واحدا منك.. أن تعتقني..ان تفك آخر واضعف رباط يربطني بك.. بعد ان تقطعت كل حبال الوصل التي توصل بيني وبينك..بعد ان اصبحت، واهية مثل خيوط العنكبوت.. ساعدني لندفنها في طقس جنائزي صامت..بدون مشيعين..وبدون كلمات وداع،او كلمات رثاء.. وبدون دموع،فالدموع لو أردنا ذرفها، فلن نجدها، فقد جفت منذ زمن من مآقينا..!!
لا تحاول ان تربط حبال قد ضربها الزمن، بكل قوته وجبروته..بكل قسوته وبطشه، فمزقها وحولها الى الياف مهترئة تالفة، لا تصلح للربط او التقاطع في نقطة واحدة. اريد شيئا واحدا منك.. ان تبتعدعني..
رايتك اول مرة.. رايت امامي شابا وسيما، سماره ينطق بكل ما تشتهي به فتاة بشاب حلمت به.. كانت عيناك تبحثان عن شيئ في فضاءالقاعة التي تمتد الى مسافات لاتنتهي،تسير.. وتسير.. بخطوات ثابته.. ذات قياسات متساوية.. يتوهم النظر اليك انك، تسير باتجاه هدف محدد.. كنت واقفة على حافة شرفة الطابق الثاني،بحيث استطيع رؤية كل ما يحث امامي في القاعات،التي تمتد امامي في الطابق الاول، متكئة على الدربزين، “فلقطتك” عيناي فقررت ان انزل، لاقتربت منك،.. حتى هذه اللحظة ما زلت عاجزة عن فهم وتفسير الدوافع، التي دفعتني الى النزول الى الطابق الاول والاقتراب منك..، وعندماغرفت عيناي من فضاء عينيك للحظة خاطفة.. ولاحقتك نظراتي،فاذا بك تدور..وتدور، تروح وتجيئ في فضاء القاعة،بغير هدف او عنوان، عرفت انك تائه في المسافات..تجري نحو اللاشيئ.. واللقاءات ألتالية التي جمعتنا أكدت لي ما كنت قد احسست به، عند ما رأيتك اول مرة.. أنك تبحث في الكون عن نقطة تستطيع ان تقف عليها، لتنطلق منها.. كنت تبحث عن مجداف اضاعه احد البحارة في عرض البحر اللامتناهي تتشبث به،كي يساعدك على الوصول الى الى جزيرة محددة،تستطيع وانت واقف عليها، ان تحدد الاتجاهات.. والجهات..ومسارات الرياح.. لعلك تجد طريقا يوصلك الى مكان ميناء تلتجئ اليه.. ورايتك -من بعيد- الجبل الذي يفتح ذراعيه لهذه السفن عندما تتوه في البحر وتبحث عن حضن يوفر لها الامان..
وعندما وصلتك وجدت جبلا من ورق..من خيوط العنكبوت.. جبل من اوهام منتوفة.. تتطاير في مهب الريح..عاجزةعن حماية الملتجئين اليها..ولاتقوى -حتى -على حماية نفسها..!!
كانت المسافات طويلة، بين الاقتراب منك،والوصول اليك..الى أعماقك.. حل هذا اللغز المبهم الذي يفصل بين ظاهرك.. وما يختفي في اعماقك.. بين ما يظهر منك،وبين ما تخفي.. فشعرت كمن كانت غارقة في
قاع البئر،فنشلوها بحبل، وعندما وصلت الى فوهته، اصطدم رأسها بصخرة كانت تغلق بابه، فكادت تسقط ثانية في البئر، ولكنها افاقت سريعا من الصدمة،، واستعادت قواها من جديد، ووجدت نفسي بين امرين:
اما ان اهرب واعود الى البحر.. او ان اجمع كل ما بي من قوى، وامد لك يدي، صانعة من نفسي حضنا يحتضنك،وياخذك معه في طريقه للبحث عن بر الامان..
واخترت الطريق الثاني.. الطريق الذي يبحث عن الشاطئ، حتى ولو كان لا يعرف له اتجاه، ولا توجد له سفينة توصله اليه، ولكني قررت -ولا ادري الى حد ألأن لماذا- ان أصنع من نفسي خشبة تمسك بها،وتسلم نفسها الى امواج البحر، لتتاقذفها لعلها توصلنا -أنا وأنت- الى جزيرة تحتضنا.. متحدية كل المفاهيم المنطقية التي التي تقول : انه لا يمكن ان ينقذ غريقا.. غريقا!!
فتشبثت بهذا المجداف، تشبث الغريق الذي وجد قشة،لم يجد غيرها ليتشبث به.. ولم تحاول ولو مرة ان تساعدني بالتجديف،بل شددتني معك نحو ألأسفل،
لأغرق معك..!!
في لقائنا ألأول.. حكيت لك بالدموع قصة حياتي.. حيات بنت عاشت مع اب وأم، وقع الطلاق بينهما وهي في السنة الاولى من عمرها.. فعاشت حياتها تتقاذفها امواج الحياة من بيت “اشقع”.. الى بيت “ارقع”.!!” من بيت زوج ام، تفنن في كيل فنون التعذيب لها، ولأمها بسببها.. ألى بيت زوجة اب،جعلت من ايامها معها مسلسل، من المعاناة والقهر والحرمان.. وكدحت من الصخر لقمتها.. ونامت ليال طوال بدون وسادة تضع رأسها عليها.. وتحتضن دموعها..
كنت أحكي دون ان أنظر الى وجهك.. كنت ألأول الذي احكي له قصتي، لأني كنت أخجل من من دمع أيامي.. ولا أستطيع الصمود أمام جحافل الشفقة، التي ستهاجمني من وجوه الذين سأحكي لهم..
وعندما انتهيت من”تقطيع” حروف حكايتى،من
أحساساتي المجرحة النازفة، وتسللت الى وجهك.. الى
عينيك.. لأجد ظلآ ارتاح فيه،من عناء سفري في سرداب حياتي المظلم،وجدتك كما تركتك قبل سفري.. صخرة ملساء لا تقبل الخدوش،وخالية من كل ألأوعية التي تستقر بها المشاعر.. لقد كان هنالك انفصال تام،بين ما تسمعه وتراه، وبين صخرة وجهك..
واستمرت حياتنا على هذا المنوال.. ان أقول وانت “تنصت”..او انا اقول وانت لا تنصت.. حاولت بكل الطرق ان ادخل عالمك، او اجعلك تدخل عالمي، كنت تصل الى بابه، ولكنك هناك “تحرن” وتأبى الدخول، وتبقى متحجرا على عتبته، مستترا خلف ستار حديدي
عز علي اختراقه.
بحثت عن كل سجلات حياتك، عند اصدقائك وجيرانك،واقربائك.. فلم “تطل” ما يفسر انغلاقك وتحجرك..
كان هذا الوقت الذي كان علي فيه ان “أخرج” من حياتك،و”أرميك” بعيدا عن حياتي،وأخرج من تحت الماء لأتنفس هواءا لم “يتشرب” من كيانك، ولكني عجزت، لقد كانت حبالا تشدني اليك،وتمنعني من الهروب، من داخل جدران سجنك..!!
لقد سألتك مئات ألأسئلة، كي أحفر بها فتحة، ولو بمقدار “خرم ابرة” فلم احصل على اجابة واحدة توصلني الى “نبع” مشاعرك..!!
كنت تغيب عني فلا اراك اسابيعا وشهورا.. وكنت تلقاني غائبا عني، احاول ان أتحسسك، فلا تجد حواسي سوى زبدا يتطاير في الهواء، لا تستطيع ارتشافه.. فأظل غارقة في عطشي.. دون ان تمد يدك لتقدم لي فطرة ماء ابل بها ريقي..
وقلت لك مرة – مستفزة -: “ان ابي ربما يقدم على بيعي كجزء من صفقة زواج..!!”.
فرددت علي بعد ان انتظرتك دهرا: “وهل تستطيعين مخالفته..!!”
فسكت.. ولمت نفسي لأني.. اقتحمت عالمك المغلق، دون ان أعد لي ملجأ التجئ اليه، قبل ان احاول اقتحامه..فوجدت نفسي في ضياع قاتل.. عاجزة عن الاستمرار معك.. عاجزة عن الهروب منك..!!
لا.. لا.. لاتحاول..ان تحتمي خلف اب جعل من حياتك جحيما.. وتلقيت منه قناطيرا منه اللكمات والضربات.. فهذا لايعطيك “رخصة”،في كيلها لغيرك
.. فانا -يا حبيبي- تلقيت مثللها اضعافا، ولم يعد في جسمي او حواسي قطعة، وألا تلقيت بها، ضربة من خنجر، او طعنة من حرمان.. ولم يعد لدي من العذاب ما “أتصدق ” به على أحد.
قلت لي مرة شاكيا، والدموع تكاد تفر من عينيك: .. ان ابي قرر ان لا يسدد عني “قسط” الجامعة..!!
فصرخت بك من “قحف” رأسي:
“دبر” نفسك يا أخي.. اشتغل..!! أبحث لك عن عمل..!! الى متى ستبقى اتكاليا على ألآخرين..!!؟
فصعقت.. وتجمدت في مكانك.. وتجمدت الدموع في عينيك، والكلمات خلف شفتيك.. وانسحبت من امامك،هاربة من صقيع أحاسيسك.. لألتجئ الى دوامتي، التي لا أجد حضنا يحتضني غيرها. ولكنك أصبحت جزء منها.. تسلط طيفك عليها.. حتى دموعي، لم تجد لها مكانا لتجترح مجرى لتصب فيه..فأهرب منها لأجدك أمامي.. هل أدمنت الجراح، واصبحت جرحي الذي لا يلتئم..!!؟. هل أدمنت الضياع،واصبحت انت متاهتي..!!؟ وألا كيف تفسر رجوعي اليك،بعد ان اقسمت آلاف المرات انني لن اعود اليك..!!؟
قلت لك مرة: “أننا لن ناتقي في الاسبوع القادم..!”
فانتفضت كمن هدد بحرمانه من شيئ، أدمنه وصرخت :”لماذا..!!؟” فأجبتك كمن وجدت معركة، طالما تقت اليها : “سأكون في العراقيب..!”
العراقيب..!!؟ لماذا..!!؟ تفجرت بين يدي..
لنرمي باجسامنا، تحت عجلات الجرارات،فتدوسنا قبل ان تهدم بيوتها..!! قلت وانا اتلذذ بتقطيع لحمك،بين أسناني،التي تحولت الى سكاكين حادة،تقطع رأس الجمل.
وعندما وقفت جحافل الظلم والقهر، بيننا وبين جرارات الهدم،لتهيئ لها “لذة وحلاوة” تقطيع قلوبنا.. قلوب الاطفال والنساء والشيوخ والشباب، كنت -يا حبيبي- معي.. كان الحاضرون يصرخون ويبكون.. ويلعنون الظالمين والمغتصبين.. اما انا فكنت ابكيك وأبكي انهزامك واستسلامك، في كل معركة قبل ان تخوضها..
انك لا تحاول ان تخوض معاركا شخصية، الربح فيها مؤكد، اذا ما بذلت جهدا تقدر عليه.. فكيف اطلب منك ان تقاتل في معارك، الربح فيها تتقاسمه مع شعبك.. مع انسانيتك..!!؟ كنت معي في العراقيب، ولكنك لم تكن الى جانبي..!!
وسألتني فتاة من أهل العراقيب، وهي تناولني شربة ماء،بعد ان أحست بجفافي: “لوحدك..!!؟”
فهززت راسي المثقل.. فنظرت الي نظرة لم استطع ان اتبين، ان كانت شفقة علي،ام اكبارا لي على”بطولتي” بالقدوم الى النقب.. من وادي عارة، لوحدي بلا مرافق!!.
وهدموا بيوت العراقيب للمرة ألألف.. كانوا يهدون البيوت على ألأرض، ولكني كنت أشعر ان شيئا جديدا يبنى في داخلي.. ينبعث من الهدم،ويدخل الى قلبي واحساساتي، فيتحول الى لبنات من قوة وأمل، ويطرد منها حجارة اليأس، ويبني مكانها جدران من الثورة والتصميم على المقاومة.. مقاومة التيه والضياع.
وكان لقاؤنا ألأخير..
قلت لك: ليتك كنت معنا في العراقيب..!!
فرددت –كعادتك- بلا مبالاة:
لقد كان جهدكم عبثا.. لقد هدموها مرة أخرى..!!
فثارت في داخلي حجارة العراقيب، وشعرت انها
لأول مرة تعطيني القوة لكي “أسلخك” عن جلدي،
وأتحرر من قيد هزائمك، فاطلقت العنان لجناحي ليطيران بي، بعيدا عنك، الى السماء البعيدة حيث يجلس ملاك العراقيب..!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة