لماذا يسمح الله بالأمراض والكوارث والحروب؟

بقلم: رانية مرجية

تاريخ النشر: 25/06/25 | 14:50

في زمنٍ تتزاحم فيه الكوارث على الأبواب، وتتفشى الأوبئة في الجسد والروح، وتتصاعد ألسنة الحروب كما لو أنها قدر محتوم لا يلين، يقف الإنسان حائرًا، متوجعًا، متسائلًا: لماذا يسمح الله بكل هذا الألم؟ لماذا لا يتدخل القدير ليوقف سيل الدموع ويجفّف أنهار الدماء؟ ما الغاية من الأمراض التي تنهك الجسد؟ ومن الزلازل التي تبتلع العمر؟ ومن الحروب التي تفتك بالقلوب قبل الأوطان؟

إن هذا السؤال، رغم بساطته الظاهرة، كان ولا يزال يُشكل لبّ المسألة الفلسفية والدينية الكبرى، التي حيّرت الحكماء والمتصوفين والأنبياء والفلاسفة على حدّ سواء. كيف نجمع بين صورة الإله المحب الرحيم، وبين هذا الواقع المتخم بالمآسي؟

لا بد أن نبدأ أولًا بتحرير ذواتنا من النظرة الطفولية إلى الإله، تلك النظرة التي ترى فيه مجرد حارس شخصي أو شرطي مرور مهمته تنظيم حركة الحياة حسب أهوائنا، دون أن نعي أن الإله، في جوهره، ليس خادمًا لرغباتنا بل خالقًا للحرية. نعم، الحرية التي وهبها للإنسان منذ بدء الخليقة، هي سر الجمال، لكنها أيضًا مصدر الألم.

فلولا الحرية، لما نشبت حرب، ولما استُعبد أخٌ لأخيه، ولما جاع طفلٌ في مخيمٍ، بينما تُهدر الأموال في قصور من زجاج. إن الله، في حكمته المطلقة، لم يخلق الإنسان ليرغمه على الطاعة، بل ليرتقي إلى وعي الخير بإرادته. ولو أراد، لما وُجد ظالم ولا مظلوم، ولكن حينها سنكون مجرد دُمى في عرض مسرحي مملّ، لا يعرف العمق ولا المعنى.

أما الأمراض والكوارث، فليست جميعها من صنع الإنسان، ولكنها ليست أيضًا مجرّد “عقوبات سماوية”، كما يروّج البعض بنظرة تافهة متعجرفة. إن كثيرًا من هذه الآلام هي مرآة لعجزنا البشري، وتذكير صارخ بأننا لسنا آلهة في الأرض، بل كائنات هشة تسير فوق خيط رفيع من الحياة، يمكن أن ينقطع في لحظة زلزال، أو عبر خلية مريضة لا تُرى.

ومع ذلك، فالعجب ليس في وقوع الشر، بل في ما يفعله البشر في مواجهته. كم من حبٍّ وُلِد في قلب مستشفى! كم من تضامنٍ أضاء ظلمة كارثة! كم من شاعرٍ كتب أعظم قصائده على سرير الموت! وكم من أمٍّ علّمتنا معنى الإيمان، وهي تدفن ابنها شهيدًا وهي تهتف: “الله معنا، مهما اشتد البلاء!”

إن الله، في العمق، لا يريد لنا الألم من أجل الألم، بل يفتح لنا في قلب المحنة نافذة نحو التأمل، ونحو مراجعة الذات، بل وأحيانًا نحو الثورة على الظلم. فهل كانت شعوبٌ كثيرة ستنهض لولا الجوع؟ هل كانت القدس ستبقى في الوجدان لو لم تُسحق تحت حراب الاحتلال؟ وهل كنّا سنفهم شيئًا عن أنفسنا، لو كانت الحياة مجرد نزهة وردية لا تشوبها شائبة؟

قد لا نفهم كل شيء، ولن نفهم، ولكن لعلّ الهدف من هذا كله أن نُكمل النقص بالمحبة، أن نواجه الحرب بالسّلام، أن نرد على المرض بالتعاطف، وعلى الكارثة بالتكافل، وعلى الشرّ بالخير. وأن نتحول من كائنات متذمرة إلى أرواح ناضجة، ترى في الشقاء معنى، وفي الجرح رسالة، وفي الحطام دعوة لإعادة البناء.

إن السؤال الحقيقي ليس: “لماذا يسمح الله بالشر؟” بل: “ماذا سنفعل نحن بكل هذا الشر؟” وهل نكتفي باللعنات، أم نحول الرماد إلى بساتين أمل؟ وهل نُغرق في دور الضحية، أم ننهض بدور الصانع، الذي يخلق من الألم أغنية خلاص؟

في نهاية المطاف، الله لا يسكن في قاعات النقاشات الفلسفية الباردة، بل في قلب الممرضة التي تواسي مريضًا، في دمعة أمٍّ تودّع شهيدها، في قُبلة تُرسم على جبين ميت، في طفلٍ لم يفقد ابتسامته رغم الركام.

فيا أيها الإنسان، لا تسأل الله: “لماذا؟” وكأنك أبرأ منه. بل اسأله أن يهبك قلبًا يرى في العاصفة بذرة حياة، وفي النكبة نبض قيامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة