البحث عن فاطمة…
تاريخ النشر: 27/06/18 | 20:02 التحق حسين بالجامعة العبريّة في القدس في أواخر سبعينيّات القرن المنصرم، وعمل ككثير من زملائه الطلّاب العرب في مستشفياتها الدينيّة “غوي شبات”، من مساء كلّ يوم جمعة حتّى مطلع السبت، حيث يمتنع اليهود المتديّنون عن مزاولة أيّة أعمال بهدف التفرّغ لطقوس العبادة والتعبّد، فيستعينون بخدمات شخص غير يهوديّ -“غوي” على رأيهم- ليقوم بالأعمال المحظورة على اليهود في يوم السبت.
كان حسين يستغلّ جلّ وقته للمطالعة، مولعًا بقراءة الصحافة العبريّة، الأدب العبريّ والأدب العالميّ المُتَرجم للعبريّة. لم تربطه أيّة علاقة مع العاملين في المستشفى سوى تلبية طلباتهم خلال الورديّة.
اشتغل كذلك في قسم الأحداث ببلديّة القدس لتمويل تعليمه الجامعيّ ومصاريفه، فوالده يُعيل بصعوبة عائلته الكبيرة. كان يجول حارات البلدة القديمة خلال عمله مع الأحداث، عرف أهلها في باب حُطّة وباب السلسلة، وآلمه وضعهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ، حفظ أزقّتها عن ظهر قلب وصرخ صرخته المجلجلة حين أوصل شعاره: “لا تعايُش إلّا بين الجانحين والمجرمين… وكلّ التعايش الآخر وهميّ، مزعوم ولا أساس له في الواقع”.
تكلّم العبريّة بطلاقة، كان مقبولًا بين أوساط اليسار اليهوديّ في حينه، سهر في مقاهيهم وعاشرهم، ودُعي للمشاركة ببرامج في راديو إذاعة الجيش وكانت الصدمة الأولى حين أقلّته سيّارة الإذاعة من القدس إلى يافا، حيث كانت استوديوهاتها في مبنى عربيّ قديم، كان قصرًا يومًا ما، قرب برج الساعة اليافاويّ.
تعرّف حسين إلى البوهيميا المقدسيّة وأهلها، وكم كانت فرحته كبيرة حين دعاه مدير عمله في البلديّة لأمسية إشهار كتاب لكاتبه المفضّل، عومِر، الذي شغِل في حينه محرّرًا للصفحة الأدبيّة “نمر على ورق”، مساء الخميس في منزله.
وصل إلى البيت في شارع “راحيل أمينو” أي “أمّنا راحيل”، في حيّ القطمون المقدسيّ ساعتين قبل الوقت المحدّد، تجوّل في الحيّ فشاهد بيوته المتميّزة بالبناء ذي الطراز العصريّ، حيث بُنيت بيوته بتصميم معماريّ حديث وجميل، وفي باحاتها بساتين، أشجار التين، الرمّان، التوت ودوالي العنب. “يا إلهي، إنّه شارع عابدين!!!، أيام فلسطين قبل النكبة”.
عند بدء حفل الإشهار تبيّن له أنّه العربيّ الوحيد ضمن الحضور، وفجأة أطلّت ماشة، مديرته في المستشفى، حيث يعمل أيّام السبت، بُغِتت حين رأته وتوجهّت لجارها المُضيف سائلة: “ما لهذا الغوي بيننا؟” فناداه لِيُعرّفها به وأخبرها أنّه يدرس في الجامعة العبريّة، يشتغل في البلديّة ويشارك في زاوية أسبوعيّة في إذاعة الجيش، قارئ نهم وصديق لغالبيّة الحضور. لم ينبس حسين بكلمة. بهره المنزل الفخم ذو السقف العالي والصالون الرحب الفسيح بقناطره وأقواسه، أرضيّته المبلّطة بالرخام الطليانيّ المستورد، البيانو القديم ذو المفاتيح من عاج الفيل المختوم بخِتم بوسندورفر النمساويّ في زاوية الليوان… والصور على الحائط؛ صور قديمة تنبض بالحياة، أحداها صورة لعائلة عربيّة بإطارها الأصليّ، تبيّن له لاحقًا أنها صورة لعائلة حسن الكرمي… وفاطمة!
غداة اليوم التالي، وصل حسين مع كتابه إلى المستشفى، وإذا بماشة مقبلة تعلو شفتيها ابتسامة عريضة على غير عادتها، بادرته التحيّة للمرّة الأولى منذ أن اشتغلا معًا قبل أربع سنوات. امتعض حسين وقال لها: “شو تغيّر؟ حسين بقي نفس “الزفت”! وانصرف لزاويته ليعتكف وكتابه… “البحث عن فاطمة”.
المحامي حسن عبادي
جميل الم يكن حسين جاسوسا في تلك الايام؟؟؟