لافتات

تاريخ النشر: 05/04/16 | 20:25

هُنا أيضًا لا ينامُ اللّيلُ. نخرجُ من خلفِ الزّجاج، الذي يصدُّ الهواءَ الجارحَ ويسمحُ لشُعاعِ الشّمس الغائبِ بالمرور. قربَ الشّبابيكِ امبراطوريّاتٌ تنمو على ضفافِ الماءِ، ثمَّ تذوي. نسترقُ النّظرَ إلى أيّام الشّباب، فيصيبُنا مُسلسلٌ تُركيٌّ بعدوى العِشْقِ السَّاذج.
وهُنا، على الأرضِ، في المساحاتِ التي قفزَ عنها الإسفلتُ، بُصَيْلاتٌ تشقُّ ثيابَ التُّرابِ وردًا قصيرَ العُمرِ وعِطرًا مُبعثرًا، وتبشِّرُ بربيعٍ لم يتغيَّرْ كثيرًا منذ مليون عام. يقولُ لنا تركيٌّ ظريفٌ، من أصلٍ عربيٍّ وجذورٍ بيزنطيّةٍ ونَسَبٍ مغوليٍّ، بعربيَّةٍ هجينةٍ: الوردُ الأحمرُ يحترفُ اللّونَ ويجهلُ لُغةَ العَبير. والأصفرُ حَيْرةٌ بين الأمس والغدِ، مسافةٌ بين التَّطريزِ والاهتراء. والوردُ الأبيضُ زجاجاتُ عِطرٍ مِرجَأَةٌ. وفي منتصفِ الحديثِ عن اللّيلكيِّ، يصرُخُ الباعةُ على بضاعتِهم، ويحطُّ علينا شحّاذونَ يُتاجِرونَ بعذابِ سوريا. كلُّ الشحّاذين والشّحاذات يلبسون خِرَقًا دمشقيّةً وحلبيَّةً، ويستبدلونَ الحَسْرةَ والدُّموعَ بالقِطعِ النّقديّة.
واسطنبولُ لا تنامُ. رؤوسٌ تهدِرُ في الشّوارع، بعيونٍ مزركشةٍ بالتَّمائم، في الطَّريقِ لمشاهدةِ فيلمٍ سُباعيِّ الأبعادِ في مكانٍ مُزدَحمٍ باللّغات. شابٌّ بذقنٍ غير محلوقةٍ يُغنِّي “يا مالِ الشّام” على أنغامِ عودٍ مُصابٍ بالزُّكام وطبْلَةٍ مبحوحَةٍ. عربٌ يتحلّقونَ في الميدان ويرقُصونَ على ألحانٍ سريعةٍ تَخرُجُ من آلاتٍ مُصابةٍ بالرُّوماتيزم. لَيْراتٌ تُركيّةٌ تسقطُ في حقيبةِ كمنجَةٍ مُعبَّأَةٍ بالرّطوبةِ والعَوْراتِ.
في زاويةٍ قريبةٍ، يحتشِدُ طابورٌ ناطقٌ بلهجاتٍ خارجةٍ من أرضٍ يُحكى أنّها تقعُ بين محيطٍ وخليجٍ. ويبدأ الفيلمُ سُباعيُّ الأَبعاد، مرَّةً أخرى. لافتةٌ ديجيتاليَّةٌ ترتجفُ فيها الحروفُ وتحمَرُّ من شدَّةِ البَردِ، تُبشِّرُنا بالخلاص: “مكتبُ السِّياحةِ الأفضل. هُنا نقدّمُ لك الوطنَ في الغُربة”.
يتكثّفُ الطّابور ويموجُ الحشدُ. شعوبٌ تمدُّ أعناقَها، وتُقيم مكتبًا للسّياحةِ بلافتةٍ تصرخُ بلا صوتٍ وتمتدُّ على طولِ السّماء التي ضاقَتْ في الآونةِ الأخيرة:
“هنا تُوزّعُ الغربةُ في الوطن، بكفالةٍ لتسعةٍ وتسعينَ عامًا”.

بقلم: فريد غانم

fredqasem

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة