القدر والحجارة

تاريخ النشر: 26/08/13 | 7:22

أتبكين وكلهم زغردوا ..!!؟خرجوا وراءه ..ولم يتخلف عن جنازته أحد..ألا أنت ..تنشرين أمامك :الكحل المطحون,والكف الازرق ,ورسائله..ودموعك التي جمدتها حرارتها تأبى ان تفارق خديك ..

اتبكين على حبيب لم "تبلي" عينيك بطلة وجهه ..!!؟ عاش ملثما ..ومات ملثما..!!

أتبكين على صوت لم تسمعي نغماته ..!!؟..

حتى أنك لم تطلبي –ولو مرة- ان يتركوا لك الفرصة ان تغرفي شيئا منه بحواسك..!!

كلهم قالو لك انك تتعلقين بحبل شامخ يملأ الدنيا,لا تستطيع العيون او الايدي احتضانه .. !!

كانت دنياك تختبئ خلف الظلام المضروب حولك..كان القمر لايخرج الا مهزوما ,والشمس كانت صفراء تافهة.. والمدرسة خرابيش, والبحر بعيدا ,والنهر مهزوم .

حتى جاءت رسالته اليك مكتوبة بفحمة سوداء على ورقة عتيقة مجعدة ..:

"امي أعطتني هذا الكف ,عند خروجي..وهذا أغلى ما أملك ..!! "

ومن يومها أصبح القمر بدرا والشمس خيوطا ذهبية, والبحر قريبا والنهر نهر ..!!

لم تبكين عليه الآن..!!ولم تشاركي" زينب القنيرية " البكاء ,عندما كانت تخضب يدي ابنتها "سامية" بالحناء وهي تزفها في عرسها الأبدي ..بعد ان اخترقت الرصاصات قلبها الطفل ,وهي تضعه حاجزا بين رصاصهم وقلوب الشباب..!!؟

لقد قالو يومها انك مجنونة ,حتى كادت هذه الصفة ان تلتصق بك..!!.. والا كيف غنيت قبل ان تخرج الشهيدة من بيتها ..!!؟

وأنت تعرفين ان الزغاريد والشوباش ,يبدأ بعد ان يخرج الشهيد من بيته ..!!

لعله انتقاما من أبيك ..الذي عجزت عن فك حروف صمته المنحوت على بقايا وجهه ..عندما رفضت كل طلابك ..وسمع انك تتعلقين بشاب لا يملك الا مسارا في درب لاترى نهايته ..!!

طلبتني وانت تحارب الانجليز على الجبل..قالت أمك وهي تحاول اطفاء النار التي بدأت تشتعل في عينيه..ولكن هذا كان زمان..يوم كانت البنت ابنة لأبيها ..قالها وهويحاول ان يقيد غيظه بسلاسل الاستسلام المقهور ..

ومزقت رسالته الثانية التي وصلتك مع الشباب الذي جاء على رأسهم لاقتحام المدرسة , من أجل تخليصكن من الحصار الذي ضربه الجيش حولها ,قررتن الاعتصام من أجل" سلامي " بائع الهريسة الذي كان يسوق عربته أمامه صائحا :"هريسه طيبة ..هريسة طيبة ..!!" فهاجمه الجند..فعجنواالهريسة بالتراب , وكسروا أخشاب العربة على جسمه ,فاحتضنه تراب السوق فتشرب بدمه المسفوح,المخلوط بالهريسة فاصبح جزء منه , ترتفع منه يد الى أعلى ,مخضبة بالدم ,تعصر قبضة من التراب المخلوط بالدم والهريسة. وشفتاه ملتصقتان بعجين التراب والدم والهريسة,تتمتمان دون توقف .."هريسة طيبة ..هريسة طيبة ..!!" .

وبعدها..اقتحموا بيته..وخربوا كل محتوياته ولم يتركوا شيئا لأمه من الدنيا , ألا سوى مفرش صلاة أخبأته تحت شروالها ..!!

مزقت رسالته وانت تصرخين ..:"نحن لانبحث عن شكر عندما نقاوم المحتلين ..!!"

مزقتيها في خضم الصراع دون ان تقرئيها ..!!مزقت لهفة خرجت من بين حوامات لهيب المعركه ..!! "وأكلتك" طعنات ألألم ..الم الندم والحسرة ..!! ولكن كيف نلملم شظايا الزجاج المطحون ونعيد بنائه ..!!؟

وحزيرة "صالح البلعاوي " ..

"صالح البلعاوي "..الذي مازال يرقد في سرير المستشفى-غائبا عن الوعي – بعد ان تلقى "فنونا " من ضربات المستوطنين وهو يقاوم بيديه اللتان "براهما " تراب وحجارة ارض زيتوناته عندما هاجموها واقتلعوها ..!!

ما زال يردد الحزيرة التي طلب منك ومن زميلاتك عند رجوعكن من المدرسة :

هم سبعة قاموا للحياة بعد نوم طويل..:ألأول لكن عليه ..والثاني واحدة من فوق ..والثالث أثنتين من فوق ..والرابع واحدة من فوق ..والخامس لكن عليه ..والسادس واحدة من فوق ..والسابع اثنتين من فوق ..

وقررتن ان تخرجن للقتال من أجل: حناء سامية القنيرية, وفتاة رسالته, وهريسة "سلامي "الطيبة, ومفرش صلاة امه ,وحزيرة البلعاوي..!!

لا تحاولي ان تجمعي فتات رسالته ..او فتاة لحظات تمزيقها ..ولا تحاولي للمرة المليون ان تنتزعي من المجهول جواب عن السؤال الذي عذب افكارك : هل كان يعلم انك كنت مع الطالبات المعتصمات ..بالرغم من أنك لم تكوني واحدة, من اللواتي خلصوهن من الحصار..!!؟

فكل شيئ كان – منذ البداية- غير عاديا. ." فالجاهة " كانت مكونة من ثلاثة شباب ملثمين .. دخلوا وقبل ان تغلي القهوة على النار ..ابتلعتهم الظلمة ..!!

"عشنا وشقنا" ..!! كان رد فعل عمتك عندما عرفت سبب زيارتهم..

والمهر ..!!؟سألت جدتك وهي تلملم بقايا صوابها .. هكذا بلا ثوب زفاف ولا "طرحة " ولا حناء ..!!؟همست امك بكلمات "قسمتها" من قلبها الذي "صخرته" تقالب سنين النكبة والشتات ..!! اما أبيك فقد زادت عيناه غورا في عياهب الغربة والضياع ..

وأرسل لك مع احد اصحابه هديته الاولى.."الكحل المطحون .."

ولم تعرفي ماذا تصنعين به ..وما هو مصدره ..فحكت امك –لأول مرة –عن عز ايام "الكفرين " حيث كانت نساء البلد يحضرن الحجارة السوداء من قاع الودي ,ويطحنها ب "المصحان "حتى تصبح كحلا ناعما يكحلن به عيونهن ..فزينت عينيك اللوزيتين به فأصبحتا قطعتين من الليلك المسحور ..كلهم خرجوا ..حملوه عاى أكتافهم ..زفته امه مع "بنات الحارة "بالزغاريت ..عاش في ثنايا روحك شبحا ,ومات سريعا دون ان يتشكل جسما وروح ..ومات وأخذ جسمه معه وترك لك روحه تسكن في كل ذرة من كيانك ..!!

لم تبكي عليه ..فالذي اخذوه الى المقبرة ,لم تفقديه.. لم يكن معك يوما ..لم تتحسسي شفتيه بأطراف أناملك ..لم تمسحي العرق براحتك ,عن جبينه بعد عودة له من سفر..اما روحه ,فمازالت تسكن في كل خلية من كيانك ..ما زالت تمسك بخناق نبضات دقات قلبك ..!!

كلهم خرجوا ..وبقيت انت.. تحولين الهروب على جناحات موجات الماضي ,التي تحمالهاا شباح الليل السوداء الممزقة المتسللة نحو غرفتك,وانت تعرفين انه ينتظرك ليل لا يمكنك الافلات من قبضاته..لم يرجعوا بعد من المقبرة ..ما زال الصمت يخنق الحي , ويتلهى أحيانا بأصوات طلقات البارود, الذي أمسى لا يستطيع النوم, الا على صراخها..!!

وجاءوا بعد ان انتهى الليل من طقوسه ,وشارفت دوريته على الانتهاء , فتحوا الباب دون ان يطرقوه..ظهرت اشباحهم مطبوعة على خلفيته ,كأنها صورة ملتقطة من عالم السحر ..!! رموا بورقة صغيرة على الأرض , كأنها حية موسى ..وانسحبوا كانهم لقطة من فلم رعب ..!! وبدأ الحوار السادي بين عينيك وبين الورقة ..كالحوار بين المريض وبين الجمرة التي وصفت دواء له,ولكن خيوط الشمس تسللت من النقاط التي لم يستطع شباك الغرفة مقاومتها ومنعها من الدخول ..وحملت يدك نحو الورقة ,وفتحتها بسرعة قبل ان تتجمد ثانية ..وقرأت:

ناديه…

هل مازال في لي في قلبك من أثر..!!؟

أننا بأمس الحاجة للوقوف معا من أجل ان نبكي على فقد عماد ..!!

عدنان ..

عدنان أعز أصدقاء عماد ,هو..هو الذي انسحب من افق مشاعر قلبي ,عندما أحس أنها تتجه الى عماد ..!!ها هو يحاول ان يعود الى ذلك الافق ,من باب الحزن والضياع..!!

حملت اليك الدنيا ,كل ما سحبته من أثقال الماضي , ومعانات الحاضر ,ومخبئ المستقبل ,ووضعتها على كاهلك الغض..لا تحاولي الهرب ,فالنار مشتعلة , والقدر على النار ,والأطفال يقتلهم الجوع ..حتى الوقت لم يعد ملكك ,لقد اصبح يتخبط بجنون ..لن تجدي من يقتسم معك اتخاذ القرار ..فأبوك رماه الدهر, في زمان لايستطيع الا ان يسير معه ..وأمك اثقلتها المآتم والأضرحة, وجوع الأطفال, والغاز المسيل للدموع..واخوتك يتنقلن من حجر الى حجر ,ومن سجن الى سجن ..كل شيئ يحدث لك مناف لكل مسارات الكون ,محطما كل ما كان وكل ما يكون ,وكل ما سيكون ..فعليك اتخاذ القرار الان ,وليس غدا فاما عدنان والجبل ..واما عماد والدموع وفتات رسائله ..!!

فالحجارة في القدر ,والقدر على النار ,والماء يغلي ,والاطفال جوعى ,وعماد مات ..!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة