البناء المهدوم

تاريخ النشر: 13/07/13 | 7:11

روحك لا تفارقني. تحوم حولي بلا انقطاع ولكنها لا تهبط على أوراقي المبللة بالدموع, وكأنها تسبح في فضائي الذي يفصلني عن الفضاء الكبير…

ولا تحاول ان تلمس أشلاء حلم لم يبق منه إلا بعثرات يابسة من أمواج سراب منتوف!!

ها انا اضع شظايا روحي المكسرة وابعثها اليك "منقوعة" بحبر اسود من دموع عيني..

ولم اكن اعلم ان هذه الشظايا هي الفتيل الذي سيفجر فيك كل براكين الفداء التي كانت تسكن في اعماق كيانك ..!! ولم اكن اعرف انك ستفتح جروحا عميقة في كيانك وتندفع منها انهار من الدم المسفوح..!!

حياتنا القصيرة معا لم تكف لنتعلم لغتينا … كانت لغتك خليط من الاصوات والتعابير التي لا تطلب من سامعها ان يحاول فهمها ولم تحاول – ولو لمرة- واحدة ان تجتهد لتفهم لغتي… عشنا تجربتنا القصيرة في حوام من التناغم الاخرس..!! وكتبت رسالتي اليك, وسميتها الرسالة الاخيرة. ولم اكن اعلم انها ستكون الفصل الاخير الذي سيحطم كل الفصول. كل الفصول التي سبقتها والتي ستليها…

والتي ستليها!!

هل يقرأ الأموات رسائل الأحياء او اشباه الاحياء !؟ هل يقرأ الشهداء حروف لغة بكاء الذين تركوهم معلقين بين السماء والارض؟؟ لاهم شهداء ولا هم احياء, بل اشباه احياء يذوقون طعم مر الشهادة دون ان يذوقوا طعم حلاوتها, انتم الشهداء تشربون خمور الجنة ونحن "نلحس" ملوحة دموعنا ومرارة آهاتنا..!!

لن تجد رسالتي هذه طريقها إليك, فهي لا تعرف الطريق, طريق من ذهبوا وتركونا بلا عنوان نبعث برسائلنا اليهم.. تركونا بلا مبكى نسقط عليه عصارة بكائنا !!

لم اكن ابحث فيك عن بطل. الأبطال خلقوا لحب الوطن والشعب. اما انا فاردتك حبيبا لي, لوحدي تنام في حضني وتحلم, أردتك انيسا تضحك لدعاباتي السخيفة,

اردت ان اكون " الأنانية" الوحيدة التي تبكي امامها, اردتك طفلا يلهو باشيائنا الصغيرة. ولكنك رحلت وانت تتحدى اكبر واعظم الاشياء. تركتني واتحدت مع الوطن ومعذبيه. سرقت كل ذكرياتي واحلامي ولم تبق لي إلا أهاتي ودمعاتي… (ورحلت" "اناني" كنت في رحيلك كما كنت اناني في حياتك).

في البداية جذبتني رقصاتك ودبكاتك في الأعراس… اعجبني العنفوان الذي كنت ترسمه على صباحك الضاحك وبسمتك التي رسمتها شفتاك الصغيرتان وكأنها تقول "يا ارض اهتزي…" كانت كل البنات يتحدثن عن جمالك ووسامتك وغرتك التي تتلاعب بخفة على جبينك, بعيناك الزرقاوتين الواسعتين كأنهما قطعتان من بحر ازرق…!! وسرعان ما وقعت في حبك, اصبحت شاغل نهاري وبطل احلامي في الليل, اصبح طيفك لا يفارقني, رايتك في كل شيء.

ولكنك لم تراني كنت مشغولا بقمصانك,يتجاذب مع جسمك الممشوق جمالها فيتحول الى تمثال صنعته يدي فنان ولم يخطئ في شيء. كنت مشغولا عني بابتسامتك التي كنت توزعها على كل من تلقاه دون ان يشعر بحلاوتها…

كنت مشغولا "بشلتك" الكبيرة التي يتلاءم مزاجها مع تلونات مزاجك….

وبعد طول انتظار خلته سنوات ضوئية قررت "انا" ان ابدأ معك !! وانت "تعلم" ما معنى ان تبدأ فتاه مع شاب في مجتمعنا. ولكني قررت ان اخوض التجربة, حتى ولو كلفتني الثمن, الثمن الغالي الذي سأدفعه.

وكتبت لك رسالتي الاولى. وعرضت عليك ان تكون لنا طريق واحدة في هذه الحياة. وشرحت لك كيفية وصولي اليك. وكشفت شيئا من مشاعري نحوك….

والان وانا اكتب رسالتي هذه تذكر مقدار الاحتقار الذي أشعرت فيه لنفسي عندما مررت بسيارتك من بين المتظاهرين حول الدار المهدومة دون ان ينالوا منك حتى بنظرة. انا ربما الوحيدة التي التقطت نظرة الاحتقار التي كانت تختبئ خلف جفونك!!

والتقينا… وكان لقاؤنا الاول وما زلت اذكر قلت مثل طفل فاز بلعبة جديدة:

– واخيرا فزتِ…

– بماذا…!!؟ اردت ان اقسو عليك.

فقلت وانت تنثر موجات من الغرور حولك:

– الكثيرات كن يتمنين ان يكن في مكانك !!

فأجبتك من هذا الحوار:

– انا لست مثل الكثيرات !!

وانتهى اللقاء بمشاعر مختلطة بين الخيبة والامل. بين ما حملته الايام الماضية وما ستلده الايام القادمة.

وسألتني "سوسن" ونحن نسير مع المتظاهرين الهتاف والبصل والغاز المسيل للدموع. ربما كان في نبرتها شيئا من الشماته !!

-اين وسيم !؟ لماذا لم يأت الى المظاهرة !!؟ اكملت بدون رحمة.

فاجبتها باقتضاب مقهور. عرفت منه اني اريد اسكاتها:

– لا اعرف … ولا يهمني ذلك !!

وكان لقاء …. خرجت منه محطمة الجناحين عاجزة عن الطيران . حتى انني لم استطع ان احطّ على فراشي, وتمردت عيناي وابت ان تتلحف بجفوني خوفا من الوقوع في حوامات القهر. قلت لك يومها "ان امك تعرف عن علاقتنا" . فقلت بسرعة ودون تفكير وكأن هذا الرد كان حاضرا في ذهنك للاستعمال.

– لقد طلبت منها مليون مرة ان لا تتدخل في حياتي!!

فقلت بأندهاش ولوم:

– ولكنها امك !!

فقلت بغضب تفجر من احمرار على وجهك:

– امي… اختي لا اطيق ان يتدخل احد في حياتي ابدا !!

وانتهى اللقاء كغيره بصدمة وخيبة امل. وشعرت ان السفينة بدأت تكلّ من وقع الامواج التي تلاطمها. وسيطرت على لساني وتفكيري كلمة واحدة. امه !! حتى "امه" !!

وشعرت انني اعوم في بحر, فارقت مينائي, ولا اجد ميناء التجأ اليه … فقدت بوصلتي فغرقت في الأعماق, فضعت بين الجهات, واني عاجزة على الرجوع الى مينائي.

وتنادى شباب البلد للدفاع عن البيت المهدد بالهدم. بيت جيرانك. واعتصموا به ايام وأسابيع وكأنك لم تكن هناك. حاولت ان اشاركهم اعتصامهم فمنعت من ذلك واكتفيت بمدهم بما يحتاجونه بما يكفل لهم الصمود وانت جارهم غبت كأنه ابتلعك بحر الظلمات!!. وسألوني عنك. فقلت لهم وانا ابتلع قهري "انني لا اعرف !!" وهربت من عيونهم. ولكني لم اجدك ملاذا احتمي به منك!!

وكان لنا لقاء اخر. جئت اليه بسيارتك الجديدة, واخذت تتغزل بها كأنها فتاة أبهرك جمالها وأخذك الى عالم كله خيال. لا يرتبط بالواقع وعندما سالتك عن موقفك من هدم بيت جارك !! هربت الى عالمك الخاص. العالم الذي بدأت اكرهه , وتسبح حول شرنقة صماء خالية من الاحساس !!

وقلت: انني بدات اتعلق بك لدرجة أنني لم اعد اقدر أن استغني عنك!!

شعرت انه بدأ انسلاخي عنك عندما بدأ التحامك بي. بدا مشوار الرجوع عنك عندما بدأ مشوار التحامك بي !!

وقفنا على خط توزيع المياه وبدأ سيل مشاعرنا يسيل الى جهتين متعاكستين. بدأ تجاذبنا يتنافر عكسيا !!

وعشت في دوامة. حاولت الهروب منها محتمية بمنعطفات العمل من اجل منع هدم البيت. التحمت بمجموعة الشباب التي كانت تعمل من اجل تجنيد اهل القرية وانقاذ العائلة من خطر التشرد والبقاء بلا سقف يحميهم.

حتى جاء ذلك اليوم…

كانت جرارتهم تحيط بالبيت من كل جانب , حاصرونا واعتصمنا في داخل البيت, مسلمين مصيرنا الى المجهول المرتقب وتقاسمنا زوادة التحدي التي لم يبق معنا في داخل البيت سواها. وتجمد الخوف في داخلنا محاصرا في اعماقنا. واجتاحنا شعور غريب يبشر بحلاوة المجهول الذي ياتي بعد المعركة مع القهر والظلم ….

وقررنا ان لا نخرج من البيت على أرجلنا مهما كلف ذلك من تحديات…..

وبدأت حلقة العسكر الذي يحيطون بالبيت تضيق وتضيق. اغلقنا كل منافذ البيت بكل ما حضرناه من الواح وقطع الحديد وتأهبنا للمواجهة . المواجهة التي لا يمكن التنبا بنتاجها !!

وفجاة سمعنا صوت اطلاق نار!! اسرعنا "ملتهمين" الدرجات المؤدية الى السطح لنتبيّن الخبر فوجدناك ملقى في الساحة المحيطة بالبيت تنزف دما ولم يقترب احدا منك. هل انت ايضا مخيف في ترجلك مثلما كنت مرعبا في ركوبك….!!

وعندما شخصتك عيناي, انغلقتا ولم تنفتحا الا في المشفى الذي نقلوني اليه, انفتحتا على غرفة مزدحمة بالذين اتوا يشاركوني احتفالي بعرسك. عرس استشهادك. استشهاد الذي بموته تحول الى اسطورة…

اصبحت بطلا اسطوريا في عيون وذاكرة الناس, ولم تبق لي شيئا اشبع به احساساتي. وتحولت الى جراح تنزف في كل خلايا كياني. لقد كنت انانيا في حياتك… وبقيت انانيا في مماتك !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة