ضوء وظل: روايات عن باريس

تاريخ النشر: 20/11/15 | 17:00

2222

(١)
في باريسَ يتفتَّحُ الضَّوْءُ الخفيفُ في أحواضِ الفَيْءٍ الطَّفيفِ؛ صبيَّةٌ تطيرُ على قِرْطَيْنِ طائِرَيْنِ، إلى طاولةٍ مُدوَّرَةٍ كغمّازتَيْها، وتحطُّ في كأسِ النَّبيذِ.
وهُناكَ، في النَّواحي، عناقيدُ كَرْمٍ بعيدٍ تقطُرُ خمْرًا شفيفًا في جُرْنِ صوَّانٍ عمرُهُ ألفُ عامٍ.
يشربونَ هُنا ولا يثمُلون.
ورغيفُ خُبزٍ فاخِرٌ يُطِلُّ، ويلقي التّحيّةَ: “بونجور”.
عِطْرٌ يتسكَّعُ في الدُّروبِ إلى عينَيِّ “إلْسا”(١).
قمَرٌ جميلٌ يسترِقُ النَّظرَ من خلفِ سحَابَةٍ مُبلَّلةٍ. بيوتٌ مُعلَّقةٌ على نوافذِها تجمَعُ الشّمْسَ زادًا للشِّتاء.
واوٌ وياءٌ تختلطانِ على الشِّفاه.
راءٌ تُزغرِدُ على حنجرةِ “إيديث بْيافْ”(٢).
صليبٌ معقوفٌ يشعُرُ بالإهانةِ.
جروٌ خرَوفيٌّ يعوي بوشوشةٍ على حجَرِ الطَّريق.
يدٌ سماويَّةٌ تحمِلُ إبريقًا يرشُّ رذاذًا على أزهارٍ لا نذكرُ كنيَتَها، فوقَ رْبواتٍ تذكرُ ما تشاءُ وتنسى ما تشاء.
فردوسٌ صغيرٌ يهطلُ في الشَّوارِعِ.
وهُنا، عندَ الرّصيفِ، رُفاتُ ناسِكٍ(٣) يحمِلُ ربَّهُ في لحيتِهِ ويُهرِّبُ الجَوْعى من فقرِهم إلى حتفِهم على الدّربِ إلى أورشليم، فيهتفون: لتكُنْ مشيئةُ الله.
ثمَّ صوتٌ ينادي: اللهُ أكبر.

(٢)
باريسُ هُنا، صبيَّةً تتهادى على قِرطَيْنِ من ماءِ النُّجومِ.
لكنَّ زهرةَ “forget me not”(٤) تتناسلُ في أرضِ أفريقيا والجبالِ المربوطةِ بالسّماءِ، وتقطعُ البحرَ الأبيضَ المتوسّط شمالًا، بزورقٍ قرطاجيٍّ.
هناكَ بقايا عارٍ فرنسيٍّ(٥)، مُعلَّقٍ في أرنباتِ الأنوفِ، وطاعونٌ مستَورَدٌ ومعبدٌ ذهبيٌّ يوزِّعُ الوَهْمَ والقَهْرَ والموْتَ بالتَّساوي على بني الغبراء(٦).
وهناكَ عنزٌ من طرازٍ حديثٍ تتعمشقُ على شجَرٍ فقيرٍ.
والخُبزُ عارٍ .
لكنَّ جان بول سارتر يعرضُ غليونَهُ في بلادِ سومرَ على كِنديد(٧)، ويحتسي فنجانَ قهوةٍ عدنيّةٍ بملعقةٍ من سُكّرٍ كوبيٍّ، ثمَّ يُخربشُ في “كافي دي فلور”(٨) على دستورٍ يُميِّزُ بينَ دمٍ ودمٍ.
وجين آرثر رامبو(٩) يكسِرُ نيشانَ والدِهِ في الجزائر، ويروحُ إلى قبرِهِ بلا ساقٍ.
ونابليون ينحني أمامَ قِطٍّ مٍُشاكسٍ وهديرِ الموْجِ في عكّا، وتنقصُ قامتُهُ سنتيمترَيْنِ في الأرضِ المحروقة.
ثمَّ ماذا؟
باريسُ هُنا، تجمعُ فُستانَها المفروشَ على حوضِ البحرِ، وتنامُ في حاضِرِها.
والشَّرقُ شرقَ الغربِ.
والغربُ غربَ الشَّرقِ.
والشّمالُ شمالَ الجنوبِ.
والجنوبُ يركضُ نحوَ الشّمالِ.
والجهاتُ في انتظارِ غودو.
ومشيئةُ اللهِ تجري.
واللّهُ أكبر.

(٣)
ترَكَتٍْ باريسُ عينَيْها الزّرقاوَيْن على نافورةٍ في دمشقَ وفَرَّت.
عيونٌ من زِجاجٍ تنكسِرُ في صقيعِ القادمينَ إلى الوراء.
دمعُ بَرَدى يصبُّ الآنَ في اللّوار(١٠).
عربٌ يستعمرونَ أوروبا.
أوروبّيون يقيمونَ الدُّولَ على حفنةٍ رملٍ قربَ بغدادَ.
أوروبّا تنفضُ ثوبَها الرّثَّ على سجّادِها الشّرقيِّ.
وبينَ تورْ وبواتْييه(١١) ما زالَ شجَرُ الأذانِ يشقُّ البلاطَ، والتّراتيلُ الكَنَسيَّةُ تُمجِّدُ فرسانَ الرّبِّ.

(٤)
لا شيءَ بين الظِّلِّ والضَّوْءِ.
ظلٌّ يركبُ الضَّوْءَ.
نهاياتٌ تبدأُ من جديد.
بداياتٌ تعودُ إلى السّطرِ الأخير.
كارل ماركس يموتُ بثُقبٍ فائضٍ في جيبِ بنطالِهِ.
فرعونُ ينتقلُ للعيشِ قبالةَ قصرِ الإليزيه، وينقشُ كلامًا بالهيروغليفيّة على صخرةٍ نبتَتْ على ضفّةِ الشّانزيليزيه(١٢).
جماعاتٌ تُعلِّبُ اللّهَ سلعةً رائجةً.
كُتبٌ مقدَّسةٌ تنفجِرُ.

(٥)
وباريسُ صبيَّةٌ بقِرْطَيٍْنِ من ماءٍ.
ضوءٌ حليبيٌّ يفورُ في الظِّلِّ الكثيف.
ثُنائيّاتٌ مُهشّمةٌ.
ولوسيفر(١٣) ما زالَ يخرجُ من سُرَّةِ الأرضِ، من منجمِ المعادنِ الثّمينةِ والقُلوبِ المعبَّأةِ، ويحشو الآلهةَ بالطّين والدّيناميت، والمدافعَ بالبارودِ والسُّذَّجِ والظِّلِّ المُخَثّٓر.
ثمَّ قِرطانِ من ماءٍ يتدحرجانِ على الرّصيف.
والمُربّعاتُ مُستديرةٌ.
وهتافُ: “فلتكُنْ مشيئةُ الرَّبِّ”.
ونداءُ: “اللهُ أَكبر”.
وباريسُ هُنا، تُغلِقُ اليومَ عنَّا ضَوءَها وتُشعِلُ فينا ظلَّها.
_____________________________________
هوامش وإضاءات:
(١) إلْسا هي حبيبةُ الشّاعر الفرنسيّ الكبير لويس أراغون، الذي ناهض الاستعمار. له كتابٌ تحت عنوان “مجنون إلْسا”، وقد أطلِق اسمُه على أحد شوارع باريس.
(٢) إيديث بْيافْ هي المُغنِّية الفرنسيّة الشّهيرة. ويُحكى أنَّها، خلال الاحتلال النّازيّ لفرنسا، غنَّت قصيدةً معاديةً للنّازيّين، بحضورِ ضبّاطٍ ألمان في القاعة.
(٣) هو بطرس النّاسك، الذي قادَ جماهيرَ الفلّاحين والفقراء الفرنسيّين نحو القدس، تحتْ شعاراتٍ دينيّة، في بدايةِ الحروب الصّليبيّة. وقد أبادت القوّات السّلجوقيّة جماهير الفلّاحين والفقراء الفرنسيّين عن بكرة أبيها، قرب مضيق البوسفور (القرن الحادي عشر ميلادي).
(٤) هي زهرةٌ زرقاء صغيرة. تُسمّى في العربيّة زهرة “أذن الفأر”، وفي اللّغات الأوروبّية تُسمّى زهرة “لا تنْسَني” (forget me not). وقد حِيكت حول اسم الزّهرة عشراتُ الحكايات والأساطير الجميلة، ووظّفها الشّعراءُ والأدباء في نُصوصِهم. وهي زهرةٌ ترمز إلى الوفاء والإخلاص والتّواضع. كما اعتبرها الكثيرون رمزًا لهم، ومن ذلك: اعتمدها الشّعبُ الأرمني رمزًا لتذكُّرِ المجزرة التي ارتُكبت بحقِّهم، وجعلها الماسونيّون رمزًا للمذابح التي ارتكبَها النّازيّون بحقِّهم، ويقال إن مجموعة “فرسان الهيكل” الصّليبيّة التي اشتهرت بوحشيَّتِها اتّخذت الزّهرةَ رمزًا لها، خلالَ احتلال القدس (من القرن الحادي عشر حتى الثّالث عشر).
(٥) انظر كتابَ الأديب والفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر “عارُنا في الجزائر”.
(٦)انظر كتاب “الطّاعون” للكاتب الشّهير ألبير كامو، الجزائري من أصولٍ فرنسيّة.
(٧) كنديد هو بطل رواية “كنديد” الشّهيرة، للكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير.
(٨) كافي دي فلور، مقهى شهير في باريس، كان يتسامر ويتحاورُ فيه كبارُ المُثقّفين، ومن بينهم جان بول سارتر وشريكة حياته سيمون دو بوفوار.
(٩) الشّاعر جين آرثر رامبو، كتب في جيل ستة عشر عامًا، وحين بلغ الواحدة والعشرين اعتزل الكتابة. كان والده جنديًّا وشارك في احتلال الجزائر. وقد اشتهر جين آرثر رامبو بفضلِ بوهيميَّتِه وتكسير القوالب الأدبيّة التي كانت سائدة. قُطعتْ ساقُه بسبب مرضٍ أصابَه. ومات في جيلٍ مبكّر، فذهبَ إلى قبرِه بدون ساقٍ (كما عبّرَ أحدُهم).
(١٠) اللّوار نهرٌ في فرنسا، قريبًا من مدينتٓيّ تُورْ وبواتييهْ.
(١١) بين مدينتَيّ تورْ وبْواتْييه وقعتْ معركة بلاط الشّهداء (الفرنسيّون يدعونَها: معركة بواتييه)، التي انتصر فيها الفرنجة على الجيش العربيّ الأندلسي. ويرى الكثير من المؤرّخين أن نتائج هذه المعركة كانت علامةً فارقة، أوّلًا لكونها أوقفت المدَّ العربيّ الإسلاميّ في أوروبا، وثانيًا لكونها كانت بدايةً للامتداد الفرنجيّ في أوروبّا.
(١٢) الشّانزليزيهْ، هو أشهرُ شوارع باريس وأكثرها اجتذابًا للسّائحين، وعلى امتدادِه يقع قصر الرئاسة (الإليزيه) وقوس النّصر، وقريبًا منه برج “إيفل” ومسلّة الإسكندريّة، التي أحضرَها/سلبَها نابليون.
(١٣) لوسيفِر هو أحدُ أسماء الشَّيطان، الذي كانَ ملاكَ النُّور قبل سقوطِِِه إلى ظُلُمات الجحيم.

بقلم: فريد قاسم غانم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة