بعض ما حدثني به فَلاّحُ الْمَحوز (5)

تاريخ النشر: 11/06/13 | 5:05

كنت أصْغي، مَحْزونا ًوبانتباه ملحوظ ٍ، لما حدثني به زميلُ دراسة وفَلاّحٌ مِنْ وعرة المحوز الجليلية ورحت أرقب متأمِّلا ًما حدث ويحدث في هذه الوعـْرَة ِالصَّغيرة ِمن عالمنا.

عِندَها تذكرتُ ما أصاب أكثر وطني، وخصوصًا الطريق الوعرية الممتدة بين الناصرة وشفاعمرو ومجد الكروم، طريق حيفا الناصرة مقابل عسفيا والدالية وغيرها وما يراد كذلك بوادي عارة ، شماله وجنوبه.

لحظتها تأكدت مما بدأ من سنين طويلة يراود عقلي ، إذ أشغلني سؤال ، ربما سأله كثيرون من قبلي :

ما الذي يفعله المرء ، أو الأصح نفر من الناس ، بالطبيعة التي هي أمهم ، أمنا وأم كل حياة وهي مهد ولادة ، ملاعب طفولة وبساط وسادتنا الأخيرة ، حين ننام نومتنا الأبدية.

أتأمل ما يفعله هذا النفر من الناس الجارين وراء ثروة ٍمتوهمة ، خصوصا حين يحلـّون غزاة ًفي مكان ما من هذه الأرض ، في أرض لم يكن نورها أوَّلَ ما رأوا ولم تكن هذه الأرض لهم .

فأكثر ما يعنيهم ، يعني ذلك النفر ، هو جمع تلك الثروة ، مراكمتها في جيوبهم وكروشهم المتخمة .

أتأملهم .. لم يسرقوا وطني فحسب ، وفرَّقوا ناسه أيدي شتات ، بل سمحوا لأنفسهم تبديل معالمه وأسماء مراحاته وقتل شروط الحياة الأصيلة في تلك المراحات !

أية نكبة هي هذه ؟ حين تتجاوز الإنسان ، فلا يكون وحده ضحيتها ، إنما كل ما في الوطن ِمن مَراحات ِمُروج ، مُنحَدَرات ِجبال ٍووديان ، اعشاش ِطيور ِبرٍّ وكثبان رَمْل شاطىء !

أتأمَّلُ ذاك النفر من الناس ، فأخلص إلى حقيقة موجعة ، هنا وفي أكثر من مكان في عالمنا الواسع ، رحب المدى :

انقلب ذاك النفر من الناس على ما كانه الإنسان منذ البدء .

فالإنسان كان ولدَ الطبيعة وقد تعلم منها الكثير ، صاغ حياته في انسجام مع ما كان يرى . فما كان ليشق َّ بطن َالأرض ليقيم طريقا ً ، بل كان يتخذ مساره انسجاما مع مُرتفعات الصُّخور، منحنيات الوديان والحقول . أما في تلك الطريق الوعرة التي تربط بين الناصرة وشفاعمرو ، فكرت طويلا ، التلال فيها هي وليدة حياة من زمن بعيد وبعيد . هذه التلال ، كما أحسب كانت هنا ، منذ بداية تشكل الحياة ، وكانت بيئتها هي التي اوجدت شروط نشأة الحياة وانطلاقتها .

دققت النظر في ذاك النفر:

حسبوا أنفسهم سادة الطبيعة ، فأباحوا لأنفسهم صنع ما شاؤوا بها ومعها . جاؤوا بكل ما تفتق عن ركض ٍ وراء تلك الثروة من وسائل ، بها أزاحوا التلال من أماكنها وقضوا على كل ما كان فيها من معالم حياة وشروط تجددها ، فعلوا ذلك ليسهل تنقل عسكرهم وتنقل من اعتادوا إعادة انتاج شروط عبوديتهم الموروثة ، ليظلوا عبيدا كما ولدتهم أمهاتهم .

حضر ذاكرتي لحظتها ما رواه لي صديق عمر ، حكى ذات يوم ، حكى :

قبل سنين كنت أهوى جمع حِجارَة ٍصَغيرة ٍ، أصْغـَرَ من كمشة يد ، مُنتشرة ٍبكثرة عند حوافي الوديان وفوق مرتفعات الجبل ، أحفظها في حاكورتي ، والأصح فيما تبقى لي من حاكورة أبي ، لأحيط َ بها أحواض ورد صغيرة ، أجمِّل َبها فضاء الحاكورة ، فيطيب معها عيش ، فـَقـَدَ من زمن كل بواعث الطيبة والمتعة الحقيقية الساذجة . وحَدَثَ صدفة ًأنَّ حجارة ًصغيرة ً، كثيرَة َالشقوق ِكالحياة ، بقيتْ سِنينَ مُلقاة ًفي الحاكورة ، حتى كان يوم قمت ُ فيه بتنظيف جرْن ٍمَحْفور ٍفي صخرة ، نظفته من بعض ِالتراب ِوالحجارة الصغيرة وملأتـُه ُ ماء ً.

حكى الصديق :

بعد بضعة أيام تأملت ماء الجرن لأبدِّله ، أكسبـُه حَياة ً، قبل أن أزرَع َفيه ِأعشابا ً، تنبت في الماء ، داهمتني مفاجأة ُما رَأيـْت ُ! رأيت ُحيوانات بر – مائية ، غايَة ً في الصِّغر ، تلعبط ُفي الماء . سألْت ُ نفسي من أين َجاءت ْ؟ . وبعد طول تأمُّل ٍمُفكـِّر ٍ، تذكـَّرْتُ ما عَلـَّمتْ بعضنا حِكـْمـَة ُالحياة :

وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حَي !

اكتشفت السر َّالمعروف ، قال الصَّديق :

كانت الحجارة ُمَلأى بالشقوق ، ولا شكَّ أنَّها احتوت بيوضا صغيرة لحيوانات بر مائِيـَّة، انتظرت ْ طويلا ، طيَّ الشقوق ِ، وحين لامَسَها الماءُ ، مَصْدَرُ كلِّ حَياة ، نشأتْ ْشُروط ُتفقيسها فخرجت للحياة !

صَمَتَ صَديقي ، فـَجـْأة ً، وَكأنـَّه قالَ لي كلَّ ما ابتغى أنْ يَقول .

بعدها ، حدَّثـْت ُنفسي :

لسنين طويلة حفظت صخور المحوز ما كان فيها من نقوش صخر ، أثر من كانوا هنا ذات زمن مضى ، وأحفورات متحجرة ، اجران ماء ونبيذ ، قناطر وسناسل حجر ، هي تاريخ إنسان بكل ما فيه من حكايا شظف حياة ، مراراتها وأفراحها ، وما كان من عشب بر ، شجره ووروده ، وكانت الصخور والمنحنيات فيه ملاذ ناس ، بسطاء ، أكسبتهم صخور الوعرة خشونة حياة وخُشونة َبيئة إجتماعية ، ومنحتهم الشمس لون التراب ولون البرقوق الوعري ، كثير التلون ، كان المحوز وطن كل من عاش فيه ، وقـَبـِل َأن يعيش مع أهله ، صخوره وشجره .

وها هو هذا النفر الأتي من بعيد ، بقوّة عصا ، سحر أسطورة وعقلية مسكونة بالعنف ، جاء ليبدل ما كانه المحوز من معالم ومراحات وناس ويتنكـَّرَ لكل ما ومن كان هنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة