اشتعال فتيل الذّاكِرَة ( 4 )

تاريخ النشر: 08/06/13 | 23:46

حكى مُصَيْلُحُ الحسن ، حكى ، حدَّث صحبه:

اشتعل فتيل الذاكرة ، مُفاجأة ذاتَ يَوْمٍ، فحضرني على حين غفلة وجه صديق لا زِلْتُ أذكره جيِّدا ً، كانَ زَميلَ مَقغَد ِالدِراسة ، فلا أزالُ أحتفظ ُفي عَتَمات ِ الذاكِرَة بِمَلامِح ِطلَّتِه ِ السَّمْراء ِ البَشوشة ، السّاذجة ، الطيِّبَة وكثيرَة ِالتساؤل عمّا نحنُ فيه وعن غد ٍ كيف سيَكون ؟ ما لَمْ نبدّلْ ما بَيْنَ أيدينا وَطيَّ عُقولِنا.

كانَتْ تِلْكَ أيّامٌ أعقبتْ أيامَ الترحيل

أيامَ بَدْء ِانتِشار ِالعَتْمَة ِالقاهِرَة في سَماء ِما كانَ وَطنُنا وانتَزَعوه ُعِنْوَة ًمن أهلِهِ وبَعْثروا أكْثَرَهُم في الشتات المُخيف .

وَكانتْ سنواتُ بَدْء ِ التملمُل ِ

بَحْثا عن ذات تأبى الإنْصِهار ، النِسيان َ والذَّوَبان ِفيما يُرادُ لنا أن نَصير .

فلاّح المحوز!

أسْمَيْناهُ تَحَبُّبا ، لِكثرة ما أحَبَّ جَبَلا ً كانَ يَسْكُنُهُ، هُوَ جزءٌ مِنْ وطن ، كان يؤكد ،

وأحبَّ مِهْنة ًكَمْ تمنّى لَوْ يكونُها

هِيَ جُزءٌ مِنْ خيارٍ وبَعْضٌ مِنْ طَريق.

لا يَزالُ يَسْكُنُ الذاكِرَة ، هُوَ وناسٌ كثيرونَ مِنْ ناسِنا .

أذكرُ،

في يومِنا الدِّراسيِّ الأخير قبل َخمسين َ عاما أو أقلَّ قليلا ًوكنا نطلِعُ المُدَرِّس عَمّا نُحِبُّ أن ْ نكون َذاتَ يَوْم ٍ في غد ٍآت ٍ

قال ، خِلافَ ما قلناه ، قالّ:

سأصير ُفَلاّحًاً يَعْشَقُ كروم الزيتون والتين

يسكن كوخ تنك ويقضي العمر بحثا ًعَنْ عُشب ِبرّ وَجُرْن ماء

مَفتونا ًبصَلابَة ِصّخر ، مُنعَرَجات ِوِدْيان ، مَذاق ِ شاي ِوَعْر ، سَرَحانِ نظر ، متعة شرود فكر ، طلَة قمر ، شروق شمس وفتنة غروبها …

وراحَ فجْأة ً يلُفُّهُ وَيَلُفنا صمت لَه صَدى ، كان صَمْتا صارِخا ً.

وَمرَّت ِالسَّنون َسِراعا ً، ذات َيَوْم ٍ ، وكانَ الَّليْل ُ في سَمائِنا الكانتْ مُلَوَّنة ، ازداد َ حلكة ً ، ازداد َ حَسْرَة ً، ازدَدْتُ فيه ِغُرْبَة ًواستبْدَلَ فيه ِفَلاّحُ المَحوزشعرَ مِفرَقيْه ِ الأسْوَدَ بخيوط ِ شيْب ٍداهم .

دَقَّ بابي ، فَدَق َّباب َالذّاكِرَة ، عرَّفني بِشخصِه ِ مَخافة َ أن أكون َ، رُبَّما أنساني تدافعُ السَّنين وما فيها من هموم وما خبرْناهُ مِنْ خيْبات ِأمَل، رُبَّما نسيت حَقيقة َمَنْ يَكون .

قال مُغالِباً دمعه ودمعي الْكاد يَفِرساخِنا ً، فَلاّحُ المحوز أنا وَزَميلُ المدرسَة.

غالبت عجزي أو ما أسميته من زمن خيانة الجسد ، انتصبت واقفا ، رحبت بمقدمه ، كما يليق بالضيوف الصحب.

جلسَ ، صمتَ قليلا ، وكأنه غاب في عالم مرَّ سريعا ، استعاد على عجل ذكرياته ، رفع رأسه وكان حناه قليلا ، حَدَّثني، قال:

جئتك اليوم وبعد طول غياب ، طال سنين.

حدث اليوم ما لم أكن أتوقعه ، كنت ناعسا في هذه الظهيرة بشكل ملفت للإنتباه .

ولم أصْحُ إلاّ حين ظهر وجهك أمامي ، كما أذكره في زمن مضى وارتحل . أفقت من ناعوستي ، لبست حذائي ووجدتني في الطريق إليك لأسأل عن صحتك وأعيد ما انقطع من أواصر صداقة ، صداقة مقعد الدراسة . وهي أجمل ما يملكه واحدنا . أردت اختصار الطريق ، فمشيت حتى الرأس الأغبر إلى الشرق من يركا ، جارتنا ، وهو الطريق التي اعتدت مرارا السير به قاصدا المدرسة .

ولا أخفيك فاجأني ذاك المسار كثيرا ، فما أن اجتزت ُ مواقع طلعة الطيّارة ، الحُدَبْ ، القرْمِيِّة ودرب صفد وبدأتُ المشي في وادي الكواشين ، حتّى فوجئت مما رأيت . فإلى الشمال من مساري طلعت كالفطر السام مستوطنة وإلى الجنوب منه طلعت حبة فطر أخرى . وكان إلى الجَنوبِ من وادي الكواشين أن ظهرت مخازن سلاح ، شوَّهت حقيقة المنطقة ، قلعت أحراجها ومزقت مساراتها وقتلت ما كان فيها من أرض مرعى وأرض فلاحة و التي ، أي مخازن السلاح ، إن انفجرت خطأً، يصعب التكهن بما سيكون في المنطقة القريبة، وخصوصا يركا، جولس وكفرياسيف.

صمت قليلا ثم قال:

حقيقة، جئتُ لأراك ، فأستعيد ما كان ولو في الذاكرة ولأحدثك عما رأيت ذات أمس ، عشته ، وعما كان معي وعن بعض ما خبرْت وما انتهى إلى مسامعي ، قال :

حَدَّثني جَدّي ، ذات زمن ارتحل ، وكنا نعْتلي وَعْرَة َالمَحوز ، قالَ :

إلى الشرق ِالشماليِّ مِنا ينامُ جبلُ عِشق ، غاف ٍبَيْنَ صخر ٍوعُشب ، وفيه كما يحكون ، قصْرُ عاشِق ، هو في الحقيقة قِطْعَة ًمِنْ وَطن .

عِندَها خيَّمَ صَمْت ٌوحَلَّقتْ ذاكِرَة .

حدّث الزميل ،

حكى جَدّي وكنّا لا نزالُ نعْتَلي جَبَل َالمَحوز وقد راحَ يتفحَّصُه بعينيْه ِمِنَ الشِمال إلى الجَنوب ومِنَ الجنوب إلى الشِمال ، قالَ الجَد :

هذا الجبل ! لكم شدَّتني فيه نقوشُ صَخر ِ، أجرانُ نبيذ ، قبَواتُ حَجَر وأحفورات انفِجارِ عالمِنا العَظيم ، إذ رأيْتُ فيها قِدَمَ المَكان وآثارَ بعض ِمَنْ مرّوا هنا ، بَقَوْا أو ارتحلوا ، لَم يكونوا سِبطا واحدا ً، كما يحاول البعض إيهامنا ، بل كان الناس هنا أسباطا ، كما هِيَ الحياة ، تنوَّعَتْ مَخارِجُ الحروف ِ في لهجاتِهِم واختلف في عقولهم وعاداتِهم طُقوسُ فَهم ِالوُجود ومَعنى الحَياة ، لكن أورثونا عِشقَ هذا الصَّخر وعِشق َالعيش ِبيْنهُ .

نَظَرَ جَدّي إلَيَّ وقال :

مِن حينِها يا وَلَدي والمَحوز ُقصْرُ عِشق ٍ، فيه ِعاش ومات عاشق ، نُوِّرَتْ فيه ِ مراحات ُنُجوم وغطته ُرْباعات ُخَيْر ٍ .

وزاد !

عِنْدَها ، تناوَلَ جَدّي سيجارَة ً، أشْعَلَها وراحَ يُنشِدُ بَيـت َ عَتابا كانَ أنْشدهُ ويُنشِدُه في لَحَظات فَرَح ولَحظات حُزْن :

” شوفوا سيجارتي

ما أبيَضْ سَكَنْها

ودار العِز بْمَحوزي

يا مَحْلى سَكنْها

وتْدومْ خِرْبِة مَحوزي

تيْطيب عيشْ بْسَكَنْها ”

وَقبلَ أنْ يَعودَ جَدّي إلى صمتِه ، أسَرَّ لي ، مؤكِّدا ً:

هذا المَحوز وما فيه يشهَدُ أنَّه كانَ مَعْمورا ًمُنْذُ القِدَم وَ قد فتنني ما رأيْتُ في شِعابِهِ مِنْ عُشب ٍ، شجَر وصخر . بقِيَ فيه مَن أحْسَنَ العَيْشَ مَعا ً، تَحْتَ فيء زيتونة ، عِنْد َجُرْنِ ماء وَفي رَحْم ِمَغارَة.

تأمَّلَ جَدّي الموقع ، فرأى جَمالَهُ ونفذ بِعيْنيْهِ المُبْصِرَتَيْن ِ إلى عميق ِتُرابِه ِ ، شَعَرْتُ أنَّ غمامة َحُزْن راحَتْ تَلُفُهً وَراحَ يُحَدِّقُ في الفضا وسَرْعانَ ما خَفَضَ عينيه ِكَمَن يبغي تخلُّلَ الصخرَ والثرى وشمَّ ما حَوْلهُما وما فيهِما مِنْ عُشبٍ كاد يحترق ُمِنْ جفافِ هاجِرَة .

رَفَعَ رأسهُ قليلا ًوقال ما أجملَ هذا الموقع ، هذا الوَطن ، وما أشدَّ بؤسِه ِلِكثْرَةِ ما عَرِفَ مِنْ طَمَع ِغُزاة وشره ِغازين ونكران جميل بعض أهله وبعضهم مِنْ أقرب الناس إلينا.

قال َ، بِتُّ من زَمَنٍ أطوفُ فيه ِ ، ما اسْتَطعْتُ إلى ذاكَ سَبيلا ، وأنا أتذكرُ شيْخَ المُنْشِدين وَهْوْ يَبْكي ناسَ عالمِنا :

خفّفوا " الوطء َما أظنُّ أديمَ الأرضَ إلاّ مِنْ هذهِ الأجساد ِ” !

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة