طفولةٌ

تاريخ النشر: 21/09/15 | 9:00

أفيقُ في الصباحِ على صوتِ طفولتي الأولى؛ تُرابُ الزّقاقِ الشّهيُّ يزيِّنُ وَجنتَيَّ؛ على الرفِّ العلويِّ “ميكي ماوس” بلحمهِ وشحمِهِ، وعُلبَةُ سردينٍ فارغةٌ تتقمّصُ دوْرَ شاحنةٍ؛ ملكُ الغابةِ يختالُ على رَطْلِ “سَمْنةِ الأسدِ”؛ تحتَ الوسادةِ المحشوّةِ بنِخالةِ القمحِ والفئران الرّضيعةِ، ما زالَ يقفُ الرّجلُ الكهلُ ذو الحاجبيْنِ الأبيضَيْن في السّاحةِ التّرابيّة، ويُعلِنُ متمنطِقًا بحزامِ المنطقِ الهَشِّ:
“بما أنَّ عُلبةَ التّبغِ المصنوعةِ من النّيكل أكبرُ من عودِ الثّقاب، فإنَّ رُومل سيكسبُ المعركة.”
ورُومِل يركضُ خلفَ ذيلِهِ.

أجراسٌ مُنهكةٌ تسقطُ على صحونِ الآذان الصّغيرة. حروبٌ مُلوَّنةٌ ومؤتمراتُ سِلْمٍ تواصلُ الانتظارَ على مضَضٍ خلفَ النّافذة. بائعةُ اللّبنِ تنشرُ نكهةَ القطيعِ في الزّقاق القريب. أرغفةٌ ساخنةٌ تقفزُ على الصّفيحِ من شدّةِ القيظِ وتنفخُ وجوهَها كالعلكةِ المِطواعة. حبقٌ يفوحُ بلا استِئذانٍ. نساءُ الحيِّ ينشرنَ الوقتَ الفائضَ على حِبالِ الاغتيابِ، وجدَّتي…

جدّتي ما تزالُ تأخذُ ثُلثَ اللّحاف الجماعيِّ، في ليالي البرْدِ، وتُبعثِرُتا على أصابعِها. ترفعُ كفَّيْها المَوْشومَيْن بعشرِ حبَّاتٍ فيروزيّةٍ، خمسًا هنا وخمسًا هناك، لدفعِ الشرِّ وعيونِ الحاسِدين. تُقلِّبُ صفحاتِ الحكايةِ في الهواء، وتخبرُنا كلَّ ليلةٍ أنَّ الأميرَ الصّغيرَ يغفو على كتفِ حبيبتِهِ الصّغيرةِ، فيحضُرُ الغولُ المهولُ، وتسقطُ دمعةٌ على خدِّ الأميرِ فيستيقظُ السّيفُ.
نغفو، كلَّ ليلةٍ، كُلّما يغفو الأمير.
وجدّتي، رحمَها اللهُ، ما زالت تأخذُ ثُلثَ اللّحافِ في اللّيالي الباردة، تُقلِّبُ أوراقَ الهواءِ بكفَّيْها، وتدثِّرُنا تحتَ غُضونِها. لكنَّ الحروبَ ومؤتمراتِ السِّلْمِ تتسلّقُ على الدّاليةِ العاريةِ والسّتائرِ وينكشفُ المخبوءُ.
فما الذي يحصلُ، يا جدّتي، بعدما يستيقظُ السّيفُ؟
لا تقولُ جدّتي شيئًا.
لكنْ، على شاهدِ قبرِها المزروعِ في كُلِّ الجِهاتِ، تورِقُ دمعةٌ، كلَّ صباحٍ، وتحتارُ بيْنَ وُجهَتَيْن.

فريد قاسم غانم

fred

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة