يوم الظلة(١)

تاريخ النشر: 10/09/15 | 0:01

اليومَ(٢)، تحملُ الصّحراءُ صُرّتَها وعَصا التّرحالِ، تتسربَلُ بالأرديةِ الصّفراءِ وقشرةِ الأرضِ المُذرّاةِ، تركبُ مكنسَةَ القشِّ الكونيَّة، وتأتي على عجَلٍ. إلى أينَ؟
تأتي مُحمّلةً بالرَّملِ المبعثرِ في زوايا الرّوحِ، تبيعُ كتابَ الطّاعونِ على رفوفِ الجَهلِ المكدَّسِ(٣)، وتنهمرُ فوقَ رؤوسنا؛
ناقاتٍ نافقةً تسدُّ الأفقَ المُكسَّرَ تحتَ الشَّبابيكِ/
جوجًا أعوَرَ يوزِّعُ الدّجَلَ بالمجّانِ وماجوجًا بيدٍ منجَلٍ وَيَدٍ من زُؤام/
دبيبَ النَّملِ في الجِلدِ المُقدَّدِ/
زباناتٍ مُبرعِمةً من جسدِ اللّحاء المتفسّخِ/
هياكلَ عظميّةً هاربةً من فراسةِ البدويِّ/
ساحراتٍ بأنيابٍ من الملحِ الخام/
نرجيلةً بِهَواءٍ مقليٍّ بلا ماءٍ/
سيفًا غيرَ مرئيٍّ يجزُّ أطفالَ القمحِ في الحقولِ الأخيرة/
وهنا، في الخُضرةِ الباهتةِ، يتلثَّمُ الهواءُ بالدَّبقِ القديمِ، وتهاجرُ الجبالُ إلى خلفِ الجبالِ… تتعطّلُ الأبواقُ والمُحرّكاتُ سداسيّةُ الدَّفعِ، تتعثّرُ الأمشاطُ في الشّعرِ المُخشوشِنِ، تستريحُ المرايا في العتمةِ المتكاثرة، وحافلةٌ عمياءُ تدوسُ عجوزًا عمياءَ في الشّوارعِ العمياء.

تقولُ الظُلّةُ: ذوقوا طعمََ جهنّمَ والرّعدَ المُؤجَّل. احملوا ألواحَ أقداركم بأيديكم، واكسروها عندَ أقدامِ الجبلِ المُقدّسِ وفوقَ عواصمِ التّيهِ والنّسيان، ولا تُغيِّروا ما بأنفسِكم(٤).

اليومَ تنسحبُ الزّرقةُ من سقفِ حارتِنا، وترفعُ العلمَ الأصفرَ على سطوحِ الكهوفِ البعيدة والشفاهِ المُشقَّقة. قابيلُ ينحَرُ هابيلَ والخرفانَ والرّبيعَ والشّتاءَ، ويوظِّفُ الصّيفَ خبّازًا لحجارةِ البازلت ورَوْثَ البَشر.

اليومَ، ينسكبُ الوقتُ دُفعةً واحدةً. ترقصُ الأيوناتُ والبوزيتروناتُ في رمادِ جماجمِنا، رقصةً همجيَّةً، والمجرَّاتُ تُشيحُ بوجهِها.

اليومَ، تُعلنُ جهنّمُ حضورَها الأبديَّ فينا. فلا سقوطَ ولا صعودَ. والصّحراءُ تحملُ قحطَها في براميلَ فارغةٍ، وتنهمرُ. والآخرةُ ساكِنةٌ هنا، منذ البداية؛ يومًا تنشُرُ الثّيابَ الكبريتيّةَ على حبالِ النّارِ في الشُّرفاتِ، ويومًا تنشرُ أجنحةً الفينيقِ(٥) على الأسرّة.
وتقولُ الظُلّةُ، من خلفِ خِمارِها: غيّروا أو لا تُغيِّروا ما بأنفسِكم وبأرضِكم وسمائكم، واستروا عوراتِكم وامسكوا بيدِ العجوزِ حتّى نهايتِها.
فأنتم، منذُ البدءِ، جمرُ الظُّلَّةِ وفيْءُ المظلَّة.
****
إضاءات:
****
(١) الظُّلّة (قرآن كريم). هو يومُ الظُّلَّة لجأ فيه القومُ للاستظلال بغيمةٍ ملتهبة فأهلكتهم.
(٢) اليوم، الثامن من أيلول للعام 2015 م.، استيقظنا هنا في الجبال الشّماليّة، فإذا الصّحراء مخيّمةٌ فوقَنا، وإذا الأشجارُ والجبالُ والسّماء انسحبت، وتركتنا في رملٍ لا نهائيٍّ.
(٣) كتاب الطّاعون لألبير كامو.
(٤) إشارة إلى الآية الكربمة: إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم.
(٥) طائرُ الفينيق أو طائرُ الرُّخّ، طائرٌ أسطوريٌّ عملاقٌ، ينبعثُ من الرّماد.

فريد قاسم غانم

fred

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة