جميلة تطل من قبرها..!!
تاريخ النشر: 19/07/15 | 11:52كان سكان يغوصون في سبات عميق..حين اغتالت أحلامهم طرقات كأنها اصوات انفجارات نزلت من السماء، وبدأت الابواب والشبابيك تفتح، لتتعرف على مصدر هذا الفيضان الذي غزا نومهم، وتعالت صرخا ت الاطفال، الذين اغتصبت احلامهم، ولما تبين لهم ان افراد الشرطة، وراء هذا الطرق، على باب جارهم أبي محمود، لم يتحركوا من أماكنهم،، تجمدوا واقفين امام فتحات النوافذ، منتظرين ما سيسفر هذا الاجتياح المفاجئ.
دخلوا البيت، بعد ان فتح لهم ابو محمود الباب.. انزوت زوجته وأولادها، في زاوية من زوايا المطبخ،يخيم على وجوههم الخوف والهلع، بدأوا بتقليب البيت، ولم يتركوا شيئا من محتوياته، الا وقلبوها دون رحمه، ولما انتهوا، ولم يجدوا شيئا مما اتوا من أجله، غادروا البيت، بعد ان تركوه كأنه كان ميدانا لمعركة كانت به قبل قليل،لم يبقوا فيه شيئا في مكانه، بعد ان طاله نصيبه من الخراب. !!
وأخذوا ابا محمود معهم، بعد ان قيدوا يديه.. وانتزعوه من بين صرخا ت واستغاثات أطفاله وامهم.!
وعندما وصلوا مركز الشرطة،وضعوه في غرفة ضيقة الابعاد، لا يوجد فيها شيئا يستطيع الجلوس عليه، وأغلقوا الباب عليه،فجلس على مصطبتها، يقلب في في مخيلته، باحثا فيها عن سبب هذه الزيارة المفاجئة، التي قامت بها الشرطة الى بيته، وسبب “استضافتهم ” له هنا في مركزالشرطة.
ولما طال به المقام، ” سرح ” في أحلامه التي تلازمه، منذ أن طرد من يافا التي ” عشقها “، ورجع الى القرية التي كان يعيش فيها، قبل ان يلتجئ الى يافا بحثا عن لقمة العيش.
عاد بخياله.. الى الايام التي كان يبيع الفلافل في سوق يافا..، كان يطوف السوق بعربته وهو يصيح:” فلافل على النار.. الحقوا يا شطار..”، حتى ان الفلافل طغت على شخصيته،فأصبح لا يعرف الا ” بسليم أبو الفلافل “،وتذكر كيف رجع اليها بعد نكبته ونكبتها، وافتتح فيها من جديد دكانا صغيرا لبيع الفلافل،فلم يجد فيها رواجا لبضاعته،لقد أصبحت يافا “غير ” التي كان يعرفها.. كانت تبكي على الذين رحلوا.. وعلى القلائل الذين بقوا فيها، وأصبحوا غرباء في بلدهم..!، فأقفل المحل، ورجع الى القرية،وهو يقول في نفسه: “عين ما تشوف..قلب لا يحزن..!!”.
وتذكر جميلة.. بائعة البرتقال التي كانت تقف أمام ” بسطتها ” وتنادي:” أحمر ومدلى عنوقه..واجب علينا نذوقه..!”،كان في كل يوم يناولها اول رغيف فلافل يستفتح به..فتناوله حبتين من البرتقال..وكم من مرة تباريا، من منهما سيجعل صوته يتغلب على صوت الآخر، وهو ينادي لبضاعته..!
وفي أحد الأيام غابت جميلة عن السوق..فظن انها تغيبت لمرض ألم بها، أو بأحد أفراد عائلتها.. ولكن الأيام توالت،ولم تعد جميلة الى بستطها..!!
ولما سأل عنها أحد جيرانها، أخبره أنها أختطفت من قبل اليهود.. ولما سأل عن السبب، قيل له ان زوجها يقاتل مع الثوار، الذين هبوا لأنقاذ الوطن، ولما لم يستطيعوا “الحصول ” على زوجها، انتقموا منه بها..!!، ووجدت مقتولة، وملقاة على رمال شاطئ يافا..! ” فقتله ” الحزن عليها.. ولأول مرة شعر ان يافا تقف على بركان، يشتعل تحت أقدام سكانها العرب، لايعرف الا الله،ماذا ستكون نتائجه..!!
سمع صوت المفتاح،الذي عالج أقفال الباب حتى فتحها، دخل عليه أثنان من الشرطة، واقتادوه الى غرفة أخرى، كانت أوسع من السابقة، وأجلسوه على كرسي بجانب طاولة قديمة،وطلبوا منه الانتظار، حتى يتفرغ له الضابط المسئول.فعادت الأسئلة تهاجمه..لماذا اعتقلوه..!؟ماذا يريدون منه !؟.
بعد ساعات قضاها يتعذب في جحيم الانتظار المحموم.. دخل الى الغرفة التي كان يجلس فيها، رجل كان يلبس الزي الشرطي، والثاني بلباس مدني، يقتصر على ” الشورط “، وفانلينا باللون الابيض، جلسوا على الجهه المقابلة له من الطاولة، وفتحوا أوراقهم، أفهموه عن طريقها أن سيقف أمام وقع ضربات أسئلتهم:
– متى كانت آخر زيارة لك الى يافا ؟.. رماه العسكري بسؤال فاجأه به.
– قبل اسبوع..ولكن..ّ!!
– ماذا عملت هناك..؟ ما هي الأماكن التي ذهبت اليها..!؟ قاطعه المدني.
– طفت في السوق، والشوارع القديمة..
– لماذا زرت هذه الأماكن بالذات….!؟
– لأستعيد ذكريات قديمة قضيتها هناك.
– الم تزر اماكن أخرى في المدينة..!!؟ سأله المدني بخبث لئيم، وهويفرد أمامه صوره،وهو يجلس بجانب قبر جميله..
– زرت قبر جميله.. !أجاب وقبضات الدهشة تعصر كيانه..
– ماذا وضعت على قبرها..!؟ سأله المدني وابتسامة خبيثة ” تزين ” وجهه اللئيم..
– حطة كانت تضعها عندي في المحل، كانت تستعملها في صلاتها..
– واحتفظت بهذه الحطة كل هذه السنين..!؟ رماه العسكري بكلمات ساخرة مسمومة..
– والآن اردت ان ارجع الأمانة، بعد ان لم يبق لي من العمر الكثير..
– ألا تعرف أنها كانت تغطي رأسها ووجهها،عندما كانت تذهب لمساعدة الثوار خارج المدينة..!؟سأله ألمدني، والأبتسامة الشيطانية تزيد في قبضتهاعلى وجهه..
– وألا تعرف،انها كانت وراء، الكثير من العمليات، التي قام بها الثوار ضد الدولة..!!؟
وغادروا..وأغلقوا عليه الغرفة خلفهم.
أما هو فقد لجأ الى أحلامه، ليكون فيها هروبا من ضائقته.. رجع الى ” أحضان ” جميله..لقد أحبها حبا من نوع غريب،لا يمكن تشخيصه أووصفه أو تفسيره.. حب احتفظ به لنفسه، ولم يبح به لأحد..ولا حتى لجميلة نفسها.. أحب عفويتها.. حبها للناس وليافا..الأبتسامة التي لاتفارقها.. أحب برتقالاتها.. وأحبها أكثر وهي تأكل من فلافله.. لقد كان يشعر،انه كان له مكان خاص في بحر مشاعرها.. ولكن هذه المشاعر عميقة، الى درجة انه لم يستطع الوصول اليها.. كي يعرف ماهيتها.!
بكى على القبر.. بكى جميلة، وبكى يافا وأيامها.. بكى حاله.. ولكن عندما طلت عليه جميلة من قبرها، مسح بيده دموعه بسرعة،وأبدلها بالابتسامة التي كانت تحبها..
لقد كانت تقول له، عندما تلاحظ، ان الغيوم بدأت تغزو وجهه:” بدلها يا ابو محمود..!” فتعود الأبتسامة، لتتراقص على صفحات وجهه..! ويعود للمناداه بصوت أعلى: “فلافل على النار.. ! “..وينسى همومه التي عكرت مشاعره..!
ستعود الينا يافا – يا ابو محمود -، وسنعود اليها.. سنعود اليها على أكتاف براعم أزهار غرستنا الخضراء.. ونبيع في سوقها الفلافل والبرتقال..!
كانت هذه كلماتها الأخيرة، قبل ان تعود لتنام في رحاب قبرها..
وفي صباح اليوم التالي اقتادوه الى مكتب، عرف من اللافتة المكتوبة على بابه، انه مكتب مدير مركز الشرطة، وأجلسوه بجانب طاولة، فردت عليها اوراقا بألوان متعدده، وناولوه قلما، وأمروه ان يوقع عليها. ولما سأل عن فحوى هذه الاوراق، قيل له انها، تحتوي على التزام منه، بأن لا يزور قبر جميلة، وان فعل ذلك فسيتعرض لعقوبات شديدة قد تصل الى السجن، فرفض التوقيع عليها..! وقال لهم اذا كان لا بد من السجن.. فليكن في يافا.. قريبا من قبر جميله..!!
يوسف جمال – عرعرة