وَضَمَّنِي بِقَسْوَةٍ , ثُمَّ بَكَى !

تاريخ النشر: 19/08/12 | 4:27

رَكَضْتُ مُسْرِعَةً أبْحَثُ مَصدرَ ذاكَ الصَّوْت ..

صَوْتُ نحيبٍ وأنينٌ شديد ؛ نَظرتُ أمامي .. فإذ بهِ يَبكي وَيُصارِعُ البقاءْ ,

سِرتُ نحْوَهُ بِخُطىً مُتعَرِّجة ؛ جَلسْتُ .. فنادَيْتهُ : ما بِكْ؟

نظَرَ إليَّ بعينَيْنِ حمراوَيْن , جُفونٌ أتْعبها البُكاءْ ؛ وَجهٌ شاحِبٌ كــَ حالِ المُوَدِّع!

تمتم بكلماتٍ مُبهَمه , إنَّهُ يعاني بِشِدَّه !

ثُمَّ هدأ؛ واستَرسَلت دُموعُهُ على خَدَّيْهِ الجّافَّيْن , وَتَحَرَّكَ شيءٌ مِنْهُ ؛ إنَّها يَدُهْ .. حَسِبْتُها مِنْ أغصانِ أشجارِ المِقبَرَة!

قالَ بِصَوْتٍ لَمَحْتُ في عُمُقِهِ عُذوبَةً ؛ ” ســـاعِديـــني لِأنــــهَض “!

أمسَكتُ يَدهُ وبدأتُ أشُدُّ ؛ وَواللهِ وَيــْكَـأنــِّي أشُدُّ جَبَلَ أُحُدٍ لِثِقَلِهِ !

في النِّهايَةِ نَهَضْ..

وَقفَ يَترَنَّحُ , فأجْلَسْتُهُ على صَخْرَةٍ مُسَطَّحَةٍ , جلَسَ بِصُعوبَةٍ..

ثُمَّ تأَوَّه !

أشارَ إليَّ أن أجلِسَ فأستمِع ؛ ففَعلتْ..

أطلَقَ تنهِيدَةً ثُمَّ قالَ:

أُكْتُبِي من دموعِ عينيَّ جِراحاً مُرَّةً

سَطِّري الحُزْنَ وآهاتَهُ

صِفي شقائِي وآلامي

صِفي عَبَراتٍ مُزدَحِمَه !

قولي لهُم عَن … وَسقطَ أرْضاً فظننتُهُ فارقَ الحياة ” أو على وَشَك” .. فَوَجدتُنِي أصرَخُ بكلِّ ما أوتِيتُ من قُوَّه ؛ ففَتحَ عينيْهِ .. فَـ سَكنتُ قليلاً ,

ثُمَّ نَظرَ إلى السَّماءِ قائِلاً:

فِي أيامٍ خَلتْ , سَكنتُ بيوتَ ألأفراحِ وحدائِقَ الرَّبيعِ وبَهْجَةَ الشِّتاءِ ؛ والممرّاتُ والطُّرُقات المُزْدَحِمِ جَوُّها بالحُبِّ الصَّاخِبِ والأزهارُ يفوحُ شذاها فَيُداعِبُ المارَّةَ , ويَفتُنهُم جمالُ ألوانِها , وسِحرُ إبتسامَتهِم يعلو على شِفاهِهم ؛ وتَمُرُّ العصافيرُ فَوْقَ القَرْيَةِ فتطِيرُ مُسرِعةً حينَ تَعلَمُ قُدومي , وتنحني لي , وتُغَرِّدُ بِصَوْتِها العَذبِ أجمَلَ الألحان ؛ تُحَيِّيني القُبُلاتُ والحَلوى والهدايا ؛ وزِينَةٌ يَصنُعها اهلُ القَريةٍ بطيبٍ وإحسانٍ ..واسْتَرسلتْ دمْعَةٌ من عَينِهِ ؛ وأُخرى .. ثَمَّ أجْهَشَ بالبُكاء!

فأطرَقْتُ رأسِي للأرضِ وبَكيتُ ..وعلا نحِيبهُ , ثمَّ هدأ َ .. وأكمَلْ:

أذكُر الامانَ الذي كان يسكُن قريَتنا ؛ والإحسانَ للفُقراءِ والمساكينْ .. وإزدحام الاطفالِ على ابوابِ البُيوتِ طلباً لمالٍ أو لِحَلوى تُسْعِدهُم .. أذكُر الشَّباب والشاباتِ والنساء والرّجال ؛ الفقراءْ والأغنياءْ .. كُلُّهُم سواءٌ لا فَرقَ بيْنهُم؛ في المساجِد بجَنْبِ بَعضٍ يَقفونَ ويتلونَ كتابَ اللهِ بطَمأنينَةٍ ؛ تَلمَحينَ الخيْرَ يلوِّحُ لكِ بأعْيُنِهم ! ثمَّ أطْلَقَ تَأَوُّهاً .. فَنَهضْتُ , فأشارَ لي بالجُلوسِ ..

فَجلستُ والقَمرُ يرْقُبنا ..

-أتَريْنَ القَمر؟ أتريْنَ شُحوبَه! كانَ أشَدَّ بياضاً يَوْمَ أن سكنا الفَرح..!

قُلتُ : وَلكِّني أحْسَبُكَ تتحدَّثُ عن آخرْ ! ما أرى فيكَ من ما ذَكَرْتَ شَيْئاً!

قالَ : إنَّها تِلكَ الحادِثة ؛ قُلت وأيُّ حادِثة ؟ ؛ قالَ كانَ ذاكَ يَوْمَ أن صُلِّيت عليَّ آخِر صلاةٍ ؛ فاقتَحمَ المسجِدَ أوْغادٌ شَرِسونَ معهُم أفْعى سامَّةٌ خَبيثه ؛هاجَموا المُصَلِّينَ وأخرجوهم بالقُوّةِ وأغلقوا المسَاجِدَ ؛ مَرُّوا بالشَّوارِعِ فَنَفَثَتْ أفعاهُم سُمَّها بِكُلِّ حارَةٍ ؛ وحمَّلوني بِسيَّارَةٍ سوْداءَ ورَمَوْني بالمِقبرةِ إيّاها التي نَحنُ بِها الآن ؛ وَهُجرتِ المَساجِدُ والمَكاتِبْ ودورُ الفِكْرِ والثَّقافه , وَأقيمت مكانها السِّينما والنَّوادي والمطاعمْ .. ودورُ الفُحْشِ .. وَهَجِرَ القُرآن وحَلّت الموسيقى مكانَهُ..قَطعتُهُ باسْتِغرابٍ : أنتَ هُنا في المِقْبَره ما أدراكَ بِحالِ البَلْدَةِ بَعدَكْ؟

قالَ : لـِي صَديقٌ مُقَرَّبٌ يَزورُني وَحالُهُ كَــ حالي ؛ يُخبِرنِي بما حَلَّ بِقريتنَا وما فَعلَ بِها المُفسِدونْ !جاءَني يَوْماً وقالَ لِـــي :

أتَعلَم؛ نَفسُ البيْتِ الذي كان تَجتَمِعُ النِّساءُ فيهِ لذِكر الله والطيِّبِ منَ الكلامِ عِنْدَ قُدومِكَ لَهُنَّ , أصْبَحَ مَرتَعاً للفُحْشِ والمُنْكَراتِ منَ اللِّباسِ الفاحِشِ ! أتَعْلَمُ أنَّ الأفعى وَصَل سُمُّها إلى قُلوبِ النَّاسِ وَعُقولِهِم فاتَّبَعوا الفُجَّارَ والمُشرِكينَ , وقَلَّدوهُم , وكرِهَ بَعضُهم بعضاً , وفرحَ إبليسُ بِسَهراتِهم وشاركهم بها ! أتعلمُ أن الكتبَ تندُبُ حَظَّها وحَلَّت مكانها المجلاتُ الفاحِشة ! أتعلمُ أنَّ المالَ أضحَى جُلَّ إهتمامِهِم لِخَزْنِهِ في بُيوتِهِمْ ولا يَخرُجُ لمسكينٍ أو فقير!ها قد رحَّلونا يا صَديقي عن مكانٍ كان يسكُننا قبلَ ان نَسْكُنَ فيهِ! فحلَّ الحُزن وأضحى موطِنَ الأحزان! اطاعوا الافعى ومن معها من الاوغادِ وعبدوا كُل منكرٍ في سُمِّها ففرح اعداؤنا بنصرهم وضحكوا على سذاجتنا!

رُحِّلْنا يا صديقي عنْ مكانٍ أنا وأنتَ وأصدِقائُنا الحُبُّ والسَّلام والطُّمأنينه والبَهْجَة والسُّرور والإحسانِ والأمان وغيْرُهُم الكثِير ممَّن يُصارِعونَ البقاءَ مِثلنا!

فأطلقَ تَأَوُّهاً آخر ؛ تَبِعَتهُ دموعٌ جَمَّةٌ وخَيَّمَ على المَكانِ حُزنٌ وأحاطَت بِنا سَحابَةٌ سوداءَ كَثيفَة ؛فانتَبهَ لِأمرِها فهَمَّ بالرَّحيلَ نحوها حاوَلتُ منعهُ ولكنَّهُ مضى بِقُوّةِ ورمى بِنفسِهِ تحتها ؛ وبدأَ يَحْتَضِرْ .. فركَضْتُ نَحوَهُ وَرجوْتُهُ أن لا يغادِرْ ؛ فلم يسمَعْ رجائِي وبَدأتْ روحُهُ بالخُروجِ فَصرختُ عالياً , فرمقني بنظرَةٍ وهوَ يُقاسي والعرقُ يتصَبَّبُ من جبينِهِ ؛ قُلْتُ والكَلماتُ تتسابقُ من فمي :

عَفواً .. ما اسْمُك؟ قالَ لي : العيد!!!

قلتُ نَبِّإني مَن اولئك الذين تَحدّثتَ عنهُم :

قالَ أما الافعى ومن معها فهم الافرنج ( الغرب) وسُمُّها هُوَ الإنحطاط الغربي ( افكارهم ) وصديقي هو ” الفرح” وتلك الصلاه هي صلاه العيد.. وضمَّني بِقَسْوَةٍ ثُمَّ بكى ! قُلتُ له : لا تَمُتْ أرجوكَ ! قالَ: سَيَبْقى سنا طَيْفِي يُضيءُ بَيْنَكُم .. إلاَ أنَّ تَرْحَلَ الأَفعى بِسُمِّها وَألأوْغادُ عَنْكُم .. فأَعودُ أنا وَرِفاقِي إلى مَوْطِنِكُم ….. وَ رَحـــــَل !

من دانية خالد صعابنة, كفرقرع

30 رمضان 2012

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة