ثرثرة في فنجان

تاريخ النشر: 19/11/14 | 17:28

بعضهم راح يحترف هذه المهمة التي أصبحت مهنة، ينتقل من مطار إلى آخر ومن طائرة إلى أخرى ومن فندق إلى آخر أكثر فخامة ومن مضيف إلى آخر أكثر كرماً. كلهم يشددون على أهمية حضوره، فمن دونه أو دونها لا يكتمل المؤتمر. يعقد المؤتمر، ترفع الأيدي عالياً، يزداد الجو العام توترا في تلك القاعة الشديدة الفخامة، وبعضهم يطالب بأن يمنح هذا الحق الإلهي. هذا حقه وكأن حقوقه الأخرى كلها قد اكتملت واحتُرمت!
الديباجة واحدة «شكرا سيدي الرئيس على منحي هذه الفرصة الذهبية (هذه الأخيرة إضافة بريئة من عندي)، ودعني في البدء أشكر الجهة المضيفة على حفاوة الاستقبال والكرم العربي الأصيل». تسرق هذه المقدمة من الدقائق المخصصة له فيسرق هو وبقوة الميكروفون دقائق إضافية ويفعل ذلك الذي يليه، والتي تأتي بعدهم تضطر الأخرى للبدء بالشكر، وإلا يحسب عليها ولا يدعوها أحد. هناك أصول للمؤتمرات كما هي أصول لعب الكرة أو الطاولة أو أي لعبة أخرى! على الممتهن في هذه الوظيفة الحساسة والمهمة جدا أن يتقنها. كثرة الإطراء للجهة المضيفة حتى لو كان التنظيم لا يرقى إلى مصاف المقبول وحتى لو بقي هو أو هي «ملطوعين» لمعرفة أين سيقيمون أو مكان المقاعد المخصصة لهم أو..
ولا يكتفي المتدخل بذلك، بل عليه أن يطيل الحديث عن أهمية هذا المؤتمر أو الندوة «التي تأتي في وقت غاية في الأهمية و..» وكأنها أوقفت زحف المستوطنين وغيرهم من المتطرفين الصهاينة على بيت المقدس، وكأنها أوقفت الدم المسكوب على شوارع مدننا باسم الدفاع عن الدين أو الطائفة أو حتى الضرب المتكرر على رأس ذاك المسكين من قبل رجل الأمن في تلك الحافلة الضيقة، أو كأنها أطلقت سراح أصدقائنا الكثر في سجون الرأي. تتنهد طويلا وأنت تجلس من دون أن يكون لك وجود فلا كلام إن لم يكن يضيف للنقاش بعض الملح، لذلك تنزوي وحدك في صمتك. تطيل النظر نحو تلك الثرية الفاخرة في سقف القاعة. تفكر بعض الشيء فتبتسم ثم تضحك حتى تقع على ظهرك. لو أنهم دفعوا ثمنها وثمن المؤتمر لأخواتنا ولإخوتنا السوريين في الزعتري، ربما ستروهم من برد الشتاء، ربما..
باسم كل أولئك تعقد المؤتمرات باسم القابعين تحت الاحتلال، والواقفين في طوابير اللجوء، والميتين في بطن البحر بحثا عن حياة كريمة. باسمهم واسمكم واسمنا جميعا تعقد كل تلك المؤتمرات.. هناك بالطبع الحاجة إلى النقاش وتبادل الآراء، ولكن ألم يتحول بعضها لكثير من النفاق والبذخ المرضي، وأصبحت هي الهدف لا الوسيلة، واحترفها كثيرون حتى قيل «هذه شلة المؤتمرات أو مافيا المؤتمرات»!
ينتابك النعاس، أنت الذي أو التي لا تعرفين النوم إلا القليل منه. كلامهم يدعو للتثاؤب وكثرة تكراره وترديده يشعرك بالغثيان. تنتظر بفارغ الصبر تلك المساحة الوحيدة الأكثر فائدة في المؤتمرات. هناك تكون الآراء حول فنجان من الشاي، أكثر صراحة وأكثر تأثيراً لأنه لا رقيب على لسانهم ولا أحد يحبس لهم أنفاسهم. في استراحات القهوة بين فاصل من الثرثرة وآخر، قد تجد ما يبعد عنك حالة التقزز أو النعاس المقيتين. تتنشط بعض الخلايا وتحاول إيجاد المبررات لتلك الثرية الكريستال المعلقة بسقف القاعة، وكيف تم إدخالها وتركيبها!
تأتي تلك الشابة أو الشاب اليانعين. تردد: سيعلمونهم النفاق مبكراً! يدعوك للعودة إلى القاعة السجن وإلى الثرثرة. تبدأ في خطتك الثانية في مؤتمرات كهذه: ترسم مكعباتك المتداخلة التي لا نهاية لها. تحسب أن كل واحدٍ منها مؤتمر وكلها تفضي إلى اللاشيء أو اللانهاية. فقط عندما يرفع هو يده أو بعض ممن يشبهه، تتحمس للإصغاء الممتع، لا لشيء إلا لأنه لا يزال منذ عقود يحتفظ بنقاوته القريبة من قلوب الناس، لا يزال يشرح الواقع كما هو من دون مجاملة غبية. لا يزال يتقد حماسة لنبض الأرض. القادم من جبال ظفار حتى أزقة قرانا المتراصة في الدراز وسنابس وجد حفص وغيرها، لا يعرف سوى أن يكون هو.. هو القادر على أن يوقظ النائمين جلوسا في قاعات المؤتمرات من سباتهم العميق. ينكز أحدهم جاره. ها هو سيتحدث الآن فيبتسم ويردد: «يا ترى ماذا سيقول الآن؟». وفي كل مرة لا يخيب الظن فيه، بل يقف في الكثير من الأحيان وحيداً. يحمل شعلته وينير بعضاً من تلك الثرثرة ويرحل إلى مدينة أخرى ومؤتمر آخر.
بشديد من المجاملة، ويطلب منك البقاء يوماً آخر بعد انتهاء المؤتمر فهناك سياحة تسمى سياحة مؤتمرات! تشكرهم بلطف شديد، وتفضل العودة إلى الواقع البعيد عن هنا.. ثم أعود إلى صحفي، ونشرات أخباري اليومية تذكرني بكم. أنتم بعيدون عنهم.. عن مواضيع مؤتمراتكم، إلا البعض طبعا..
mat

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة