الضياع المسفوح
تاريخ النشر: 15/10/14 | 9:33حاولت انا وانت واخي ان نمنع رحيلك عنا… ورحيلنا عنك… حاولنا ان نتشبث بكل الاشياء الموجودة على ضفاف النهر الهادر بين امواجه العاتية … بايدينا باظافرنا… ولكن مياه فيضانه الجارفه كانت اقوى منا, فاغتالت التحامنا ببعضنا وفصلتنا عن بعضنا, وتركت كل واحد منا يقاوم الفيضان المجرم, ولم يبق له من القوة الا دمه ودموعه…
كانت صرخاته ومسباته وتهديداته تقطع اجسامنا… مثل سكين الشوارما التي تقطع اللحم شيئا وشيئا بعد شوائه… لم يضرب امنا امامنا ولكنا كنا نتلقى الصفعات معها ولا يفصل بيننا وبينها الا باب عاجز عن منع وصولها الينا, ولكنه يزيد وقعها ايلاما على اجسامنا وعلى ارواحنا…
كانت تحاول ان تمتص اهاناته وصفعاته دون ان تصدر عنا اهات او صرخات اواحتجاجات, ولكنا نسمعها تستغيث به ان يفعل بها ما يريد بشرط واحد ان لا نشعر نحن اولادها بذلك… ولكنها كانت تعرف اننا نرى ونسمع ونتألم ونتحطم معها…
كان يحاول ان يظهر امامنا محبا حنونا مهتما بنا… باغداقه علينا الهدايا والنقود والقبلات والاحضان… ولكن هذه العطايا كانت تزيد كرهنا له… ولكننا كنا لا نظهر هذا الكره خوفا من ان يتحول الى مزيدا من العذاب الذي تتلقاه امنا منه…
كنا نقبل يديه صباحا لعل في ذلك يمنعها من الامتداد على امنا في المساء. كنا نقبل فمه صباحا محاولين منع هذا الفم من كيل الاهانات لها في المساء. كنا نلتصق به في المساء محاولين منعه من الدخول الى غرفته ومناداتها كي يعطينا وجبتنا اليوميه من الالم والعذاب. ولكن هذا لم يستطع منع استمرار مسلسل الجراح الذي نهايته كانت حتميه قبل ان يبدا… كل اللفافات التي ضمدنا بها الجراح لكي نحاول وقف النزيف الدامي لم تستطع ان توقفه…مرة واحدة لم تستطع ان تتوقف عن البكاء… دخلت الى غرفتها فجأة. وعندما راتني حاولت ان تتوقف ولكن كل محاولاتها فشلت في ايقاف هذا السيل من النحيب الذي رافق دموع عينيها… نظرت باتجاه وجهها, فرايت خطوطا حمراء رسمتها اصابع من نار…اسرعت نحوها ورميت بنفسي في اتون احضانها, وبدات اتمتع بنغمات نحيبها ورطوبة دموعها الساخنه حتى سكرنا معا, ولم اصح من نومي الا على شفتيها تلملمان قطرات الدمع من على صفحات خدودي…
ولما رجع ابي الى البيت في المساء مد يده ليتحسس خدي فسحب يده بسرعة كانه مد يده الى جحر للدبابير… فانسحب الى غرفة نومه طارقا الباب وراءه ولم نراه الا في مساء اليوم التالي يدخل محملا بالهدايا, وضعها على الطاولة وهرب من عذاب عيوننا الى غرفته…
” رغم قسوتك سأظل احبك الى الابد…رغم ان حبك “يشوي” كياني بحرارته الكاوية, الا اني اشعر ان هذا الحب الكاوي بلهيبه, يفتح براعم مشاعري فتنشر عطرها في كل مساحات روحي… فتصبح كمانا لعزفك…”
هذه كلمات من احد رسائلها اليه في ايام الخطوبة… لقد وجدت هذه الرسائل في صندوق موضوع على ظهر الخزانة القديمة…وخزانة الزواج وهي الان “مرمية” في مخزن في الطابق الارضي الذي نستعمله فقط من اجل خزن كل ما نستغني عن استعماله… اخرجتها من الصندوق واخفيتها في مكان ما خلف احد جوارير خزاننتي… وبقيت هناك قنبلة موقوته لم استطع ان امد اليها يدي…كيف تستطيع طفلة في السادسة عشره من عمرها اقتحام عالم امها وابيها الخصوصي…!!؟ وكيف تستطيع طفلة اقتحام ارض محرمة محظور دخولها لكل الناس وخصوصا اولادهم…!!؟
اردت الدخول الى هذه المناطق المحظورة لعلي اجد فيها تفسيرا او تبريرا يفسر معاملته لها … ولكني كلمات اقتربت منها سرت في شراييني فيضانات من الرهبة والخوف ابعدتني بعيدا عنها…
ولكن انسحابك من حياتنا جعلني اشعر مثل الانسان الذي فقد كل شيء… فكانت رسائلك هي الخشبة التي تشبثت بها بعد تحطم السفينة ليس لكي تنقذني من الغرق ولكن لم اجد غيرها شيئا من حولي اصب فيه دموعي واهاتي, فصرت اقضي معظم ايامي وليالي اسبح بين امواج سطورها الزرقاء فتشبعني لطما واشبعها دموعا… حتى اصبحنا انا وهي توأمان يكادان لا يفترقان. ادمنا على التعذيب المتبادل حتى اصبحنا نجد لذة في هذا العذاب الدامي.
“انك تحتويني بين يديك وتشد بقوة على روحي, لدرجة انك لا تعطيني فتحة لاتنفس منها… انك تمتلكني لدرجة انني اصبحت جارية لحبك”.
كلمات كتبتها في احدى رسائلها المؤرخة قبل خمسة اشهر من زواجهما…
ثماني عشرة سنة عاشت معه في القمقم الذي حبسها معه فيه وحولها الى مستودع لكل نزواته وسموم تقلبات مزاجه…
وهكذا يكتب لها في احدى رسائله اليها: “انت جزء من احاسيسي وامتدادا لروحي ستكونين لي, لوحدي… اعدت تشكيلك في مخيلتي كي تكونين توامة للصورة التي رسمتها لحبيبتي في مخيلتي…”
امي بكينا وفرحنا عليك ولك…بكينا على حضن مجروح اخذته معك… كان يحتوينا ويحمينا بجراحه الدافئة… وفرحنا معك لانه اخذت معك جراحك الدامية حتى العظام… حتى العظام…!!
لا تعودي يا اماه… لا تعودي الى الجحيم… لا تعودي من اجلنا لاننا لا نريد ان نتدفأ على نار جحيمك… لا نريد ان نحتمي في شقوق جراحك… لا نريد ان نلجا الى الام حضنك المحطم… سنحاول ان نلملم فيض احاسيسك المنثورة في قلوبنا وارواحنا لتكون لنا غذاء يساعدنا في مسيرتنا حتى لقائك … لقائك الذي سنعيش من اجله…
قصة بقلم :يوسف جمال عرعرة