خريستوس
تاريخ النشر: 10/10/14 | 16:29جلسَ الرجلُ العجوزُ على الرملِ واتكأَ على مقعدٍ من خشبٍ مطليٍّ بالبنّي والرطوبةِ اللَّزِجة. وقف، مدَّ ذراعيْهِ إلى أقصاهُما كأنّهُ يحاولُ قطفَ هواءٍ مرتفعٍ. ثمّ جلسَ على المقعد، ضغطَ على زرٍّ وأخذَ يُهمْهِمُ، على شاطئهِ، في أذُنِ آلةِ التسجيل:
هنا الأشجارُ تغفو على غَزَلِ اليراعاتِ
ثمَّ تصحو على رفرَفةٍ،
هنا تتثاءبُ الأشجارُ عاريةً
خلفَ وشاحِ الفجرِ،
تتلوّى في غُنَجٍ، على حُلمٍ يهربُ من ذاكرة،
وتتكئُ عندَ كتِفِ واديها العتيق.
هنا الأشجارُ تخلعُ في الصباحِ
حباتِ الندى عن سيقانِها المسْفوعةِ بالرُّطوبةِ والظِّلال.
ثمَّ تلبسُ فستاناً من حريرِ الفراشاتِ، منفرجاً قليلاً عندَ الصدرِ مثلَ ظلِّ السيفِ.
أما رأسُها فيظلُّ سافراً ومسافراً في الضباب.
وفي الأعالي، تواصلُ المجرّاتُ سيرَتَها، حافيةً.
لم ينبَح الكلبُ، لكنَّ العجوزَ سمِعَ وقْعَ خطىً خارجَ نفسِهِ، مثلَ تهشيمِ الجرار، على الحصى البازلتيِّ الناعم. أطفأ آلةَ التسجيلِ على عَجَلٍ كأنَّهُ يُخفي سلعةً محظورةً، وأعادَها إلى حقيبتِها، فيما طارَ الوحيُ وحطَّ على مقعدٍ بعيد.
تكسو وجهَ العجوزِ شعيراتٌ بيضاءُ وأخاديدُ متشعّبةٌ وحاجبان كثَّان يصلحُ كلُّ واحدٍ منهما أن يكونَ شارباً مكسيكيّاً. هو يضعُ على عينيْهِ نظارةً سوداء. ويجلِسُ الآن على المقعَدِ الداكنٍ، كأنَّه مصنوعٌ على مهلٍَ من حُطامِ سفينةٍ أغريقية. يجلسُ العجوزُ هناك، كلَّ ليلةٍ، على رملِ ساعةٍ كونيّةٍ، في انتظارِ أثينا وأوديسَ وابنتِهِ، فيما يجاهدُ ماءُ البحرِ بمدِّ رؤوسِ أناملِهِ، بأنفاسٍ أخيرةِ، ليلمسَ الأخمصيْن الحافييْن. غيرَ أن إلهَ البحرِ يردُّ الماءَ إلى الماء.
سيقولُ العجوزُ لآلتِه، يوماً، إن البحرَ يسعى لاستردادِه. فهو من البحرِ وإلى البحرِ سيعود.
يظلُّ العجوزُ حافيَ القدَمين، تاركاً طبقاتٍ منهما في كل مكانٍ يطأُهُ. إلى جانبِه أقعى كلبُهُ الهَرِمُ في جلسةِ قرفصاء. الكلبُ أيضاً حافي القدمين. إنّهُ يتشمّمُ الهواءَ وعرقَ الآلهةِ وما تبقى من عمّالٍ غاضِبين.
تقدّمَ منهما شابٌّ غريبٌ، بظلٍّ خافتٍ ومُشعَّثٍ. كأنَّ الرياحَ هي المسؤولةُ عن تشتيتِ الظلِّ وما تبقى من شعرٍ على رأسِ العجوزِ. أمالَ الكلبُ رأسَهُ، مثلما يفعلُ عازفُ “بلوز” ضرير، لتصبَّ كلُّ النغماتِ في صحنِ أُذنِه. حرَّكَ ذنبَهُ دلالةً على استتبابِ الأمن.
قالَ العجوزُ باليونانية، موجهاً كلامَهُ للكلبِ: “فهمتُ، فهمتُ. ضيفُنا صديقٌ”.
ثمَّ توجّه العجوزُ إلى جهةِ الصوت، مرحباً باليونانيّةِ ثمَّ بالإنجليزية: “أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً”.
ألقى الشابُّ التحيةَ بالإنجليزيّة، فردَّ عليه العجوزُ بإنجليزيةٍ تشبِهُ إنجليزيةَ “زوربا”* ودعاه إلى الجلوس. تبادلا كلاماً متقطّعاً. جلسا على المقعدِ الذي يتسعُ لثلاثةِ أشخاصٍ من القَطعِ المتوسّط، وتوسطتْهما حقيبةُ العجوز، فيما ألقى الشابُّ حقيبةَ ظهرِه على الرمل.
شربا القهوةَ، التي سمّاها العجوزُ “قهوةً عربيةً” من وعاءٍ أخرجَهُ العجوزُ من حقيبتِه، فيما كانت الظلالُ تتكثّفُ على الحصى الغامق.
“سيهطلُ المطرُ”.
وضعَ الشيخُ يدَهُ على عنقِ كلبِهِ وقال بإنجليزيةٍ مُكسَّرةٍ، كأنَّهُ يجتهدُ في العثورِ على أيِّ موضوعٍ يُشركُ فيه الضيفَ: “هكذا وُلدَ تريسياس**، أعمى، مثلَ سائرِ الجِراء. لكنّهُ ظلَّ وما يزالُ أعمى. أحببتُهُ من أوّلِ نبحَةٍ. ولا تنسَ أن العُميانَ يذكِّروننا بأننا نُبذِّرُ حواسَّنا هباءً في كلَّ لحظةٍ.”
ابتسمَ عليٌّ.
صمتَ الشيخُ ثمَّ قال: هو يرى الدنيا بأنفِه. نعم. سيهطلُ المطرُ. هكذا يقولُ أنفُ تريسياس، وهكذا يقولُ أنفي”.
قالَ الشابُّ الغريبُ إنه سيتَّجِهُ إلى وادي الفراشاتِ*** القريب، محاوِلاً الحصول من العجوزِ على معلوماتٍ.
ردَّ عليهِ العجوز:
“يا ابني، في وادي الفراشات، الصمتُ هو الكلامُ المباحُ الوحيد. يُحْظرُ إطلاقُ الرصاصِ والتصفيقُ للنجومِ والسلاطين. والزغاريدُ ممنوعةٌ. فالفراشاتُ بحاجةٍ لاستراحةِ المُحبِّ”.
قالَ الشابُّ: “اسمي عليٌّ”.
فابتسمَ العجوزُ بكلِّ اللُّغات، ثم قال بإنجليزيتهِ المجرورةِ جرّاً: “وأنا الرجلُ العجوز”.
شكرَ الشابُّ الغريبُ الشيخَ على القهوةِ والرفقةِ الطيِّبةِ واتجهَ غرباً، يسبِقُهُ ظلّهُ الطويلُ.
أخرجَ الشيخُ آلةَ التسجيلِ من حقيبتِه، ضغطَ على زرٍ وقالَ باليونانيّةِ للآلةِ ما يلي:
“شابٌ غريبٌ مرَّ بي فجرَ اليوم. اسمُه عليٌّ. كنتُ كعادتي أستمعُ إلى انكساراتِ الموجِ على الشاطئ وإحاولُ رؤيةَ ما لا تراهُ العيون. الموجُ. آه الموجُ. هو الصوتُ نفسُهُ الذي سمعَهُ أخيلُ المُختالُ وتجاهلتْهُ جثّةُ هكتور.****
“الموجُ.
“قبلَ ساعتينِ كنتُ أستمعُ إلى مجموعةٍ من الشبان والشابات، كانوا متحلّقين حولَ موقدِ نارٍ. الموجُ يتيحُ لهم الصراخَ بدونِ حساب. عرضوا عليَّ كأساً من شرابِ الأوزو فشربتُ. عرضوا عليَّ طعاماً فاعتذرتُ. عزفوا على الغيتار وغنّوْا. عزفَ واحدٌ منهم على البوزوكي. ظننتُ أن أنغامَهُ تقلّدُ الموجَ، فاكتشفتُ أن الموجَ يقلّدُ أنغامَه.
“تريسياس يحبُّ الموسيقى وينوحُ مع امتداداتِها. لكنَّهُ، اليوم، اكتفى بالهمهمة. تريسياس مشغولٌ. فسوفَ يهطُلُ المطر.”
تبعثرت الغيومُ. لم يكن الشيخُ مهتماً بما يجري فوق بقايا شعرِهِ المشعّث. حضرتْ فتاةٌ من الشرقِ مصحوبةً بخيوطٍ خافتةٍ من الضوء تتسرّبُ من وراء بقايا الغيوم. مشتْ بظلٍّ جميلٍ وفارعٍ يجرُّها خلفَهُ. قبَّلت العجوزَ على جبينِه وداعبت الكلبَ قليلاً. حملتْ حقيبتَهُ على كتفِها اليمنى، أمسكت بِهِ بيُسراها من تحتِ إبطِه وقالت: “انطلقنا؟”. قال: “انطلقنا”. مشتْ حافيةً فمشى. كانَ تريسياس يسيرُ وراءَه، ولم يكن يربطُ بينَهما سوى حبلٍ من هواءٍ ومحبَّةٍ غزيرةٍ.
على بعدِ عشرِ دقائقَ ومئتي مترِ، قربَ كوخٍ على أطراف حقولِ الحصى العدَسيِّ، كانت ظلالُ العجوزِ وتريسياس والفتاة تمشي وراءَهم. قالَ العجوزُ: “سوفَ يعودُ”.
سألتْهُ الفتاةُ: “من الذي سيعود؟”
قال: “عليٌّ وكلُّ شيء”.
سألت: ومن هو عليٌّ هذا؟
قال: سيعود وسنتعرفُ عليه.
همهَمَ تريسياس موافقاً.
يقالُ إن الغيوم َتكثَّفت في ساعاتِ الظهر، وانهمر المطرُ بزخاتٍ مجنونةٍ، عدساً سائلاً على عدسٍ صلبٍ. يجوزُ أن قوسَ قزحٍ ظهر في وسَطِ السماء، لكنَّ العجوزيْن، الرجلَ والكلب، لم يرياه. كانا مُغمضينِْ، يستمعان إلى قرميدِ الكوخِ يرقصُ على حبّاتِ المطر.
ويقالُ إن الشابَّ الغريبَ عادَ في منتصفِ الليلةِ اللاحقة، والتقى بالفتاةِ تقودُ الشيخَ والكلبَ إلى رُفاتِ السفينةِ الأغريقيةِ القديمة، التي يقالُ إنها صارتْ مقعداً للجلوس. وسوفَ يقولُ العجوزُ لآلةِ التسجيل:
“ما كانَ صالحاً للرحيلِ إلى آخرِ الدنيا، صارَ مكاناً للقُعودِ إلى آخرِ العمر”.
تحدّثا بالإنجليزية المجرورةِ والممدودةِ وبكثيرٍ من التأتأة. وشربا القهوة.
قالَ عليٌّ إنه من القاهرة وأنّهُ جاءَ إلى هنا بعدَ أن سجنوا شقيقيْهِ وماتَ والدُهُ بنوبةٍ دماغيّةٍ وأنه سقطَ هو سهواً من الأوراقِ والحساباتِ، سويَّةً مع سبعين مليوناً. كانت الفتاةُ تُصغي، صامتةً، وتجهدُ كي تفهمَ هذه الإنجليزيّةَ الممدودة.
لم يتحدّث الشيخُ عن الأزمةِ الاقتصاديةِ التي تعصفُ ببلادِهِ. عادَ قليلاً إلى الوراء فتحدثَ عن طروادةَ والزقاقاتِ المرصوفةِ بالتاريخ.
فجأةً سألَ العجوزُ عليّاً: “هل تُحبُّ الشعرَ؟”
أجاب عليٌّ: “قليلاً. لكنني أجدُ صعوبةً في فهمِ بعضِه.”
قال خريستوس: “لا بأس. أنا لا أفهمُ حتى شعري. ليس المهمُّ أن تفهمَه. المهمُّ أن تشعرَ به.”
بعد لحظاتٍ من الصمتِ، قال العجوزُ: “أنا شاعرٌ. كلُّ ما أقولُهُ من شعرٍ لا يعجبُني. لكنني أحاولُ. قدْ أنجح يوماً ما في الوصولِ إلى إعجابِ نفسي بنفسي.”
شغَّلَ العجوزُ آلةَ التسجيل، وقال لها باليونانية:
أعرفُ، يا حبيبتي المستحيلةُ، لماذا
تقفين أمامَ المرآةِ مغمضةً، أعرِفُ.
كي ترى السيّدةُ التي في المرآةِ،
حين تفيقُ من نومِها،
بحْرَها تحتَ رِمشيْكِ.
وأعرفُ لماذا ينامُ الصبح،ُ
كلَّ ليلةٍ، ليلةً كاملةً. أعرفُ.
كي يرى الصبحُ، حين يفيقُ،
شَعرَكِ سابحا،ً مثلَ خيولِ العرَبِ
في انحناءاتِ الوادي،
تحتَ وفوقَ وعندَ وبيْن تلّيْكِ.
أعرفُ، يا طِيبَةُ، لماذا تقرئين
كلماتي، على شفتيكِ. أعرفُ.
فدموعُ الملحِ تصيرُ أحلى
حين تُذرَفُ مِنّي فَمِنْكِ، عليكِ.
لكنني لا أعرفُ،
لماذا أحبُّك كلّ هذا الحُبَّ.
كلُّ ما أعرفُ
أن الأرضَ للناسِ جميعاً
والدينَ لله،
وأنا إليْكِ.
قالَ عليٌّ: “لم أفهم شيئاً”، فيما صفَّقت الصبيةُ بإعجابٍ كبير.
قالَ العجوزُ بانجليزيّتِهِ المجرورةِ: “ولم تخسرْ شيئاً. لكنني سأعطيك الشريطَ إذا شئتَ، فعسى أن تجدَ من يُجيدُ الترجمة”.
اختلطت مشاعرُ عليّ. شعرَ بالغبطةِ لهذه الصداقة التي توثقت بهذه السُّرعة، وأحسَّ بالإهانةِ لأن العجوزَ يتلاعبُ به بقراءةِ شعرٍ باليونانيةٍ التي لا يفهمُ منها شيئاً.
سألَ عليٌّ: هل كان هذا شعراً من تأليفك؟
قال العجوز: نعم. هل شعرتَ به؟
ضحك عليٌّ، وقالَ بلهجةٍ مُصالِحة: لم أفهم ولم أشعر.
صبّت الصبيةُ القهوةَ.
استأنف العجوزُ، بإنجليزيةٍ تعرّجتْ بالنَّبراتِ اليونانية، وانفتحت جروحُهُ على ملحِ البحر. تحدّثَ عن “طيبة” مصرَ و”طيبة” اليونان. كان عليٌّ مُنصتاً، ويهزُّ رأسَهُ متظاهراً بالإنصاتِ والفهم، فيما كانت عينا العجوز مختبئتين تحت النظارة السوداء وخلفَ بسمةٍ مُرّةٍ. لم تقُل الفتاةُ شيئاً، فيما صار العجوزُ شبيهاً بحيوانِ “الباندا” المعرضِ للإنقراض.
تحدّثَا عن همومِ الربيعِ العربيِّ الساخن، الذي لا يشبِهُ الربيعَ في شيء. قالَ عليٌّ إن الوضعَ لا يبشرُ بالخير.
“أحقاً؟” – تساءلَ العجوز.
خيَّمَ الصمتُ لحظاتٍ، فيما ارتفع صوتُ أنين الفقاعاتِ المنفجرةِ عندَ أقدامِهم.
سأل العجوزُ عليّاً:
“هل تعرفُ يا عليّ كيف تستطيعُ أمُّ أربعٍ وأربعين التنسيقَ بين أرجِلها حين تمشي؟”
قالَ عليٌّ: “بالغريزة.”
قال العجوزُ: “بل، لأنها لا تمتثلُ لأوامرَ من أحدٍ ولأنها لا تفكرُ في الموضوع.”
صمتَ عليٌّ.
قال العجوزُ: “هي حكمةٌ من الشرق البعيد”، فيما كان عليٌّ يتبادلُ نظراتٍ مُحلاةً ببسمةٍ مع الفتاةِ الهادئة.
سألَ العجوزُ: “يا عليّ، هل ما يزالُ الدبُّ الأكبر قريباً من الدبِّ الأصغر؟”
أجابَ عليٌّ، بعدَ أن ألقى نظرتيْن، واحدةً إلى الفتاةِ الملفوفةِ بالصمت، فزادت من خفقانِ قلبِه، وأخرى إلى السماءِ فزادتْ من توهُّجِ نُجومها.
قال: “طبعاً”.
قال العجوزُ: “إذن لستُ أدري ما الذي سيحدثُ في القريب. ولو كان الإسكندر الكبيرُ هنا لقال لك الكلامَ نفسَه. كلُّ ما في الأمرِ أنَّ رؤيةَ الأمور تتعلّقُ بالمسافةِ الزمنيّةِ التي ننظرُ منها إليها.”
قالَ عليٌّ: والله لم أفهم شيئاً.
فضحكَ العجوزُ.
كانت السماءُ، في الهزيعِ الأخيرِ من الليل، عاريةً إلا من ظلِّ كونيٍّ ونجومٍ وما يشبهُ قمراً باهتاً. وكانت مجموعةٌ من الشبانِ والشابات قد تحلّقت غيرَ بعيدٍ وأخذت تُغني وتعزفُ، بعدَ أن خلعوا أحذيتهم.
قالَ العجوزُ، بصوتٍ تخللتْهُ أصواتُ الغناء والأمواج:
“هذه ابنتي “لونا”.
صمتَ لحظةً ثم أضاف: “وهذا عليٌّ”.
تصافحَ عليٌّ ولونا طويلاً.
قال عليٌّ: “أحبُّ اسمَ ماريّا”.
ضحكت “لونا” على خجلٍ.
قال العجوزُ: “لماذا يا عليٌّ تحبسُ نفْسَكَ وأنفاسَكَ في حذائك الثقيل؟”
ألقى عليٌّ نظرةً إلى قدميْهِ، وانتبه إلى أقدام الآخرين العارية. شرعَ في فكِّ رِباطِ حذائه، فقالَ العجوز:
“إخلعْ حذاءكَ يا عليّ، تتسعْ آفاقُك”.
حينَ أطلقتِ النوارسُ أولى صفاراتِها، مدّ العجوزُ يدَهُ، فأمسكتْ بها “لونا”. حملتْ حقيبتَهُ وقادتْهُ بيسراها من تحتِ إبطِه.
كانَ تريسياس يمشي خلفَه، ولا يربطُ بينهما سوى حبلٍ من هواءٍ وكثيرٍ من المحبّةِ وبعضِ المصير. وحين وصلوا إلى الكوخ المغطّى بالقرميد. كانت ظلالُهم ملقاةً على الحصى الناعمِ وراءهم. انحنتْ لونا وأوقفتْ خنفساءَ تشبهُ الكرةَ السوداءَ على رجليْها. كانت الخنفساءُ مقلوبةً على ظهرِها وتناضلُ من أجلِ الوقوف. الوقوفُ أحياناً هو مسألةُ حياةٍ أو موت.
قالت لونا باليونانية تحدِّثُ الخنفساءَ: “كما يبدو تأخَّرْتِ على موعدِ قطارِ الفصول”.
لم يهطُل المطرُ هذا الصباح.
استلقى الرجلُ العجوزُ، قريباً من تريسياس وكانا يُصغيان، وغابت لونا وراءَ بابٍ من خشبٍ باهتٍ.
شعرَ عليٌّ بالحرَجِ وبدغدغةٍ في أخمصيْهِ المرصَّعينِ بحباتِ الرملِ العدسيّ. لكنّ العجوزَ أصرَّ على استضافتِه، فلم يكنْ لهُ مفرٌّ.
وضعَ عليٌّ حذاءَه على مقربةٍ من سريرٍ خُصِّصَ له، وتوجَّهَ إلى مُضيفِه بالإنجليزية:
“حسناً. ولكن وما اسمُكَ أيها الرجلُ العجوز؟”
ابتسمَ العجوزُ، من تحتِ نظارتِه السوداء، وقال بطلاقةٍ، بعربيةٍ عاميّةٍ، سوريّةٍ ثمَّ مصريّةٍ:
“في دمشقَ كانوا ينادونني الشيخ محمد. هنالك، في دمشقَ القديمة كانت عندي شُرفةٌ وصفصافةٌ وزوجةٌ طيّبةٌ، رحمَةُ الله عليهنّ. وفي الاسكندرية كانوا ينادونني الحاج محمد. وهنا اسمي خريستوس.”
حملقَ عليٌّ، مصدوماً، غيرَ مُصدِّقٍ.
فأضافَ العجوز، ضاحكاً ومُعتذراً:
“لا تؤاخذْني يا عليّ.
“سمِّني إن شئت: الشيخ خريستوس”.
بقلم فريد غانم