خواطر وقصص بقلم رانية مرجية

تاريخ النشر: 21/06/25 | 12:24

“همسات من الوطن العربي” –
قصص قصيرة جداً بقلم رانية مرجية
إيران – حجر في جيب الطفلة
في أزقة “سَنندَج” الملطخة بصوت البنادق، أخفت ليلى حجراً صغيراً في جيبها.
قالت لأخيها:
– إن جاءوا لاعتقال أبي، سأرميه عليهم…
ضحك أخوها:
– وهل يكفي حجر؟
أجابته بعين لم تعرف الضحك:
– يكفيني أن يشعروا بأني لست خائفة.

الأردن – ظلّ الجدّة
في الكرك، نامت أمينة على حصيرة قديمة.
في كل صباح، كانت تخرج صور الجدّة وتغسلها بماء الورد.
قالت لأمها:
– كانت تشبه الأردن، صلبة وحنونة.
صمتت الأم، ثم همست:
– والآن الأردن يشبه صورها… جميلٌ في البرواز، متعبٌ في الحقيقة.

فلسطين – حجر العودة
في جنين، انتظرت الحاجة سعاد حفيدها عائدًا من السجن.
حملت له زوّادة، ومفتاح البيت الذي ما زال في حيفا.
وعندما عاد، قال لها:
– جدتي، بيتنا صار فندقًا.
أغمضت عينيها، وناولته المفتاح:
– ما دام لك، لا يهم من يسكنه مؤقتاً.

سوريا – صمت على ضفاف بردى
على ضفة بردى، كان الولد يرسم سمكة.
اقتربت منه أمه وقالت:
– لما لا ترسم طائرة؟
أجابها وهو يضغط بالقلم:
– الطائرات تقتلنا…
أريد شيئاً يبقينا في الماء، لا في الهواء.

لبنان – صوتٌ تحت الأنقاض
بعد الانفجار، نادت الصغيرة من تحت الركام:
– ماما، لا تطفئي الضوء… أنا خائفة.
ردّت امرأة من بعيد:
– أنا أيضاً يا بنتي… لكن لا ضوء في بيروت الآن، فقط رماد وأغنيات تُغنّى لتنسينا الجراح.

العراق – آخر عود ثقاب
في البصرة، جلس الحاج حيدر يشعل آخر عود ثقاب لديه ليغلي الشاي.
تأمله حفيده وقال:
– جدي، لماذا لا تشتري غاز؟
أجابه بمرارة:
– لأنه في بلادي، النار متوفرة… فقط السلام مفقود.

الكويت – مَعلّقة على الحائط
في بيت جدها، كانت صورة الأب المفقود بالحرب معلقة كتميمة.
قالت الجدة لحفيديها:
– ما زال هناك، في حدود لم تُغلق بعد.
ضحك أحدهما:
– الجدران تنسى.
ردّت بصلابة:
– نحن من يذكّرها.

تونس – وردة في البال
في سيدي بوزيد، تركت نادية وردة على قارعة الطريق.
سألها الشرطي:
– لماذا الوردة هنا؟
قالت:
– كانت هنا عربة محمد… ومن هنا اشتعلت الحكاية.
ثم مشت… كمَن يوقد الثورة كل صباح.

مصر – صمت أبي الهول
في الجيزة، نظر الطفل إلى أبي الهول وسأل المرشد:
– ليه ساكت كده؟
ضحك الرجل:
– لأنه شايف كل شيء وساكت…
رد الطفل بعفوية:
– يعني زيه زي جدي… كل ما نحكي له عن غلا المعيشة، يضحك ويسكت.

الجزائر – رائحة الليمون
في القصبة، كانت الجدة تُرش ماء الليمون على الدرج.
قالت حفيدتها:
– ليه يا جدتي؟
أجابت:
– حتى ما ينسى البيت ريحته، مثل ما نسينا ريحة التحرير.
أكملت وهي تهمس:
– الثورة مش بس في الكتب، الثورة في تفاصيل البيت.
—————————
أن تكون مثقفًا يعني أن تشجّع غيرك وتدعمه
بقلم: رانية مرجية
منذ متى أصبحنا نظنّ أن الثقافة مقامٌ يُعتلى، لا جسرٌ يُمدّ؟
ومنذ متى غفلنا عن أن جوهر الثقافة لا يُختصر بما قرأناه من كتبٍ أو ما حصدناه من شهادات، بل يتجلى في كيفيّة تعاملنا مع من هم حولنا؟ أن تكون مثقّفًا لا يعني أن تقتنص منبرًا وتلوّح بكلماتٍ كأنّك الإله الذي ينطق بالحقّ، بل أن تكون المثقف الحقّ يعني، ببساطة وإنسانية عميقة، أن تشجّع غيرك، أن تدفعه للنهوض، أن تحتفي بنجاحه حتى وإن سبقك إليه، وأن تفرح له كأنّه أنت.
الثقافة ليست رتبة اجتماعية ولا تعويذة سحرية تحفظنا من الجهل، بل هي روحٌ منفتحة قادرة على الإصغاء، والتعلّم، والمشاركة. فالمثقف الحقّ لا يرى في غيره تهديدًا بل فرصة، لا يرى في نجاح الآخرين تهديدًا لكبريائه بل تكملة لرحلة المعرفة والوجود. المثقف لا يتربّع على العرش، بل ينزل إلى الساحة، ويحرّض على الأسئلة، ويقدّم المفاتيح للآخرين، لا ليُغلقوا بها أبوابهم، بل ليفتحوا بها آفاقهم.
لقد أرهقنا هذا المثقف المدّعي، الذي لا يجيد إلا التبخيس، ولا يعرف من الكتابة إلا كيف يجعل الآخرين يشعرون بالنقص، ومن النقد إلا التجريح. أرهقنا من يحتكر النور، ويخاف أن ينير شمعةً في درب أحدهم، وكأنّ الضوء ينقص حين يُقسم. بينما الحقيقة البسيطة أن الشمس تشرق على الجميع، والثقافة حين تتوزّع، تزدهر، وتغدو أكثر بهاءً.
أذكر جيدًا حين كنت فتاة صغيرة أكتب في دفاتري السرية، كيف غيّر حياتي مثقفٌ حقيقي، لم يسخر من خواطري المراهقة، بل قال لي: “اكتبي، وإن لم تُعجب كتاباتك أحدًا اليوم، فإنك في يومٍ ما ستقرئينها أنتِ وتبتسمين، فاستمري.” ومن يومها لم أتوقف عن الكتابة. هذا هو الفارق: كلمة تشجيع واحدة قد تبني قامة أدبية، ونظرة تحقير واحدة قد تهدم روحًا يانعة.
أن تكون مثقفًا يعني أن تصير مرآةً يرى الناس أنفسهم فيها لا ليكتشفوا قبحهم، بل ليبصروا جمالهم الكامن. أن تكون مثقفًا يعني أن تصير بوصلةً لا سوطًا، أن تشير إلى الطريق، لا أن تصيح بالضالين كأنك المخلّص. فهل يعقل أن نقرأ نيتشه وننهر الآخر لأنه لم يفهمه؟ وهل يصحّ أن نستشهد بغرامشي لنقصي العامل البسيط؟ هل نكتب عن سيمون دي بوفوار ثم نمنع أختنا من الكلام؟
دعونا نعترف: الثقافة التي لا تُثمر تضامنًا، التي لا تولّد حسًّا بالمشترَك، والتي لا تبني جسورًا، هي ثقافة مزيّفة. هي “مظهر” ثقافي لا “جوهر” ثقافي. فكم من مثقّف صامت منح بصمته لموهبة جديدة؟ وكم من قارئ بسيطٍ كان أكثر عمقًا من منظّرٍ يتكلّم عن الطبقات والهيمنة ويفرّق بين الناس على أساس معرفيّ!
لقد آن الأوان لأن نعيد تعريف المثقف لا كمن “يعرف أكثر” بل كمن “يعطي أكثر”. كمن يمدّ يده لا ليصفع، بل ليساعد. كمن يفرح بتفوّق تلميذه، لا من يخشى أن يخطف الأضواء منه. المثقف الحقيقيّ لا يقف خلف المنصّة، بل يقف خلف المبتدئ، يدفعه للأمام، يسانده في صراعه مع الشكّ، مع الخوف، مع رهبة الورقة البيضاء.
ولعلّ من واجبنا نحن، المثقّفين المشتبكين مع الواقع، أن نتحوّل من كائنات تنظيرية إلى حاضنات للأمل. أن نكتب عن الذين لا يستطيعون الكتابة، أن نشجّع من يحاولون، أن نصفّق لكلّ من أطلق صوتًا جديدًا في هذا العالم المكتظّ بالصخب.
في زمنٍ يكثر فيه التنمّر الثقافي، والشلليّة النخبوية، واحتكار المنصّات، فلنكن نحن الصوت المختلف، فلنمدّ يدًا، فلنفتح منبرًا، فلنشجّع شابًا كتب نصًا أولًا، ولنقول لطفلة خجولة تكتب الشعر: “أنتِ قادرة.”
فبهذا فقط نكون مثقفين. بهذا فقط نكون بشراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة