الــتاريـخ مـسـألـة حـَسـَّاسـَة..!!

تاريخ النشر: 13/08/14 | 19:11

”إنَّ التاريخ لا يـعـدو كـونـه أشـياء لـم تـحـدث دوَّنـهـا مؤرخـون لم يـكـونـوا هـنـاك” ثـوماس كـارلايل

أتذكر هـذه الـعـبارة كلما طالعت كتابا من كتب التاريخ العربي، فـدخلت في متاهأاته دون أن أستطيع الخروج … خضم هائل من المكائد والحـروب وقيام الدول وأفولها، ومع ذلك لا يوجد شيء يمكن التيقـن منه أو الركون إليه.
لقد تداخل الكذب في الصدق.
وعـشـَّـش الوهم داخل أنسجة الحقيقة.
قرأت أول سطور التاريخ في كتب المدرسة ، وهي أسوأ أنواع الكتابة التاريخية. فهي ليست فقط مليئة بالثغـرات وإهمال العـصور والشخصيات التي لا ترضي النظام الحاكم، بل إنها تـفـتـقـر أيضا إلى العـنصر الإنساني … ذلك أنـهـا تحيل كل شيء إلى أسباب ومسببات جاهزة للحـفـظ ، صورة محنطة للتاريخ يرددها التلاميذ كالببغاوات.
ثم تعرفت على الوجه الخيالي للتاريخ من خلال روايات جورجي زيدان. وهكذا تحولت الفتن والأحداث الدامية إلى قصص من العشق الموله. وأصبحت تقلبات الدول مجرد مصادفات فردية تعـسة ، وأصبح في كل حقـبة تاريخية ”عـذراء” لا هـَمّ للملوك والسلاطين إلا التغـرير بها… أو طفل ضائع تعــقـد كل المؤامرات لإبعاده عن أبويه.
ثم أدركت أن التاريخ هو أشد قسوة وأكثر جدية من مجرد مصادفة… وأن الحب هو استثناء عابر وسط عــهود الاستبداد الطويلة.
قرأت كتب التراث الـعـربي بعد ذلك محاولا أن أصل إلى جذور الحقيقة. ولكنها ظلت مراوغة. كانت الأوراق الصفراء تعرض الحقيقة ونــقـيـضها بالدرجة نفسها من القوة والإحكام. كان تاريخا يعـتمد على الذاكرة الشخصية. وتتحكم في ذات المؤرخ نوازع الخوف والرهبة والتوقي من غـدر الزمان وبطش السلطان… تاريخا خائفا مرتعدا.
وتواصلت رحلتي مع كتب التاريخ المعاصر التي تـدَّعي الموضوعية وتدعم رأيها بالوثائق ، وإذا بالأحداث – الأحداث نفسها ـ تـنـقـلـب إلى الـنـقـيـض.
كل مؤرخ يقرأ التاريخ وفق منظور معـين ويقدم له تفسيرا مختلفا. وفي النهاية فإن كل ما فعلوا هو أنهم أفـقـدوا التاريخ تلك الهالة الرومانسية التي كانت تحيط به دون أن يـــقـدموا له مذاقا مختلفا. وعندما كنت أقـيـم في تـونس في مـطلـع الثمانينات، سألت مـدير مـدرسـة ثانوية ذات يـوم عن كتب التاريخ الخاصة بتونس فنظر إلي في فزع ثم قال بتردد :
” التاريخ هنا مسألة حساسة. ولا توجد لدينا كتابات قاطعة بهذا الشأن ”.
وعندما سألته في دهـشة عما يـدرسـه الأطفال في المدارس قال في ثقة:
” كل شيء… فتوحات الإسكندر الـمـقـدوني…
الثورة الفرنسية…
حرب الاستقلال الأمريكية.. .
و.. و… ”.
ويظل التاريخ العربي غريبا.
ويبدو أننا لكثرة ما نعيش في الماضي لا تستطيع أن نراه جيدا. فهو يكــتسب بالتقادم نوعاً من القدسية لا يمكن المساس بها.
ويتخذ الحكام صفات مطلقة لا تدع لنا مجالا لانتقادها.
ويلبس السفاحون ثياب الـقـديـسـيـن لأن الـقـديـسـيـن الحـقـيــقـيـيـن لا يقدرون على لبسها.
ونـفـتـقـد ذلك الـعـقـل الحـرّ القادر على الجدل بحيث يفرق بين ما هو أصيل وما هو زائف.

بقلم الدكتور عبـد القـادر حسين ياسين – كاتب وأكاديمي فـلـسطيني مقيم في السويد

sdfg

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة