هندسة الإقليم : الجغرافيا التوراتية
الدكتور: عـمـر رحـال
تاريخ النشر: 29/06/25 | 19:32
في أدبيات العلوم السياسية وفي علم الجغرافيا لا سيما الجغرافيا السياسية، لا وجود لمصطلح
“الجغرافيا التوراتية” بوصفه مفهوماً علمياً معترفاً به أو إطاراً منهجياً لدراسة العلاقات الدولية
أو توزيع السلطة والحدود، بل المعتمد والمتداول أكاديمياً هو مصطلح الجغرافيا السياسية،
الذي يُعنى بدراسة تأثير الموقع الجغرافي والحدود والموارد على سياسات الدول وصراعاتها.
وعليه، فإن الاستناد على مصطلح “الجغرافيا التوراتية” والاتكاء عليه في الممارسة العملية
والسلوك السياسي لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ، وقادة دولة الاحتلال، دون الإعلان
عنه ، وذلك بسبب أن هذا المصطلح لا يستند إلى منطق علمي أو سياسي موضوعي، بل إلى
فكر سياسي صهيوني ديني توراتي محرف، يوظف النصوص الدينية، ويعيد تأويلها بشكل
يخدم الأهداف التوسعية والاستعمارية (لإسرائيل)، بعيداً عن أي أسس قانونية أو واقعية
معترف بها دولياً.
من هنا لا تنفصل السياسات الإسرائيلية، خصوصاً في عهد رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو ،
عن رؤية أيديولوجية عميقة تتجاوز حدود المصالح الأمنية الظرفية أو الاقتصادية المباشرة،
لتتغلغل في بُعد توراتي واستراتيجي يسعى إلى “هندسة” خارطة الشرق الأوسط بما يخدم
المشروع الصهيوني طويل الأمد. فعقيدة رئيس وزراء الاحتلال تنبع من قناعة راسخة بأن
تفكيك الدول العربية، وإضعاف بنية الدولة الوطنية فيها، وتمزيق النسيج الاجتماعي، تمثل
خطوات ضرورية لتهيئة البيئة الإقليمية التي تسمح (لإسرائيل) بفرض هيمنتها، سياسياً
واقتصادياً وأمنياً.
على المستوى التوراتي، تستند رؤيته إلى خطاب ديني-سياسي يروج لمقولات “أرض الميعاد”
و”الحدود التوراتية”، التي تشمل أجزاء واسعة من أراضي دول الجوار، وتغذى هذه الأوهام
عبر منظومة تحريض ديني ودعم غير محدود للاستيطان، ومحاولات تغيير الوضع القانوني
والديمغرافي في القدس والضفة الغربية، بما يعكس قناعاته بأن السيطرة الإسرائيلية الكاملة
على هذه المناطق ليست مسألة سياسة، بل “تحقيق نبوءة تاريخية”.
أما على الصعيد السياسي الواقعي، فإن رئيس وزراء الاحتلال يرى في ضعف الدول المحيطة
فرصة “تاريخية” لإعادة رسم خريطة الإقليم وفقاً لمصالح الاحتلال. من هنا تنبع سياسات دعم
النزاعات الداخلية في دول الجوار، والرهان على تقسيم تلك الكيانات إلى دويلات طائفية أو
إثنية، ما يكرس حالة عدم الاستقرار، ويمنح (إسرائيل) موقع “الدولة القوية والموحدة”،
واللاعب الذي يصنف نفسه ضامناً للأمن الإقليمي في نظر الدول الغربية.
في هذا السياق، يتكامل البعد التوراتي مع حسابات القوة والمصالح، لتتشكل رؤية إستراتيجية
إسرائيلية عنوانها الدائم( إسرائيل) قوية، الدول العربية ضعيفة ومفككة، والشرق الأوسط
خريطة معادة التشكيل برعاية صهيونية مدعومة غربياً.
لم يكن المشروع الصهيوني منذ نشأته مجرد حركة سياسية استعمارية تقليدية، بل استند إلى
مزج خطير بين الميثولوجيا الدينية والجغرافيا السياسية الحديثة، حيث تشكلت “الجغرافيا
التوراتية” كأداة أيديولوجية لإعادة رسم خرائط المنطقة بما يخدم الطموحات التوسعية
(لإسرائيل)، ويمنح مشروعها الاستعماري غطاءً دينياً وتاريخياً. وعلى هذا الأساس أصبح
هناك علاقة وثيقة بين “الجغرافيا التوراتية” والجغرافيا السياسية في إطار المشروع الصهيوني
.
“الجغرافيا التوراتية”، كما يتبناها الفكر الصهيوني، تقوم على قراءة انتقائية للنصوص الدينية،
تخلق خريطة ذهنية لكيان متخيل، يمتد من النيل إلى الفرات، أو على الأقل يشمل كامل
فلسطين التاريخية وأجزاء من دول الجوار مثل الأردن ولبنان وسورية. هذه الخريطة ليست
معتمدة على الحقائق الجغرافية أو التوزيع الديموغرافي القائم، بل تستند إلى رواية دينية تُقَدم
كحقيقة تاريخية، يراد فرضها على الواقع السياسي المعاصر.
المشروع الصهيوني يجمع بين هذين البعدين فهو من جهة مشروع استعماري إحلالي يسعى
إلى السيطرة المادية على الأرض، ومن جهة أخرى مشروع عقائدي يسعى إلى إعادة إنتاج
التاريخ بشكل يخدم الرؤية الصهيونية ويبررها. ولذلك، تتداخل “الجغرافيا التوراتية” مع
الاستراتيجيات الأمنية، والخرائط العسكرية، واتفاقيات التطبيع، باعتبارها جميعها أدوات
لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” كما يتصوره صناع القرار في تل أبيب.
وفي ظل هذا التداخل، تصبح معركة الفلسطينيين والعرب والإيرانيين وربما الأتراك ليست
فقط مع احتلال عسكري، بل مع مشروع أيديولوجي يحاول إعادة تعريف التاريخ والجغرافيا،
وتكريس وقائع على الأرض باسم نصوص دينية توظف سياسياً، في واحدة من أخطر عمليات
التزوير والهيمنة في التاريخ المعاصر.
لقد مثلت العلاقة بين الدين والجغرافيا محوراً مركزياً في نشوء وتطور المشروع الصهيوني،
حيث لم تُبنَ السياسات التوسعية الإسرائيلية على أسس سياسية أو أمنية فحسب، بل تغلفت منذ
البداية بقراءة أيديولوجية للتاريخ والجغرافيا يمكن أن نسميها بـ”الجغرافيا التوراتية”. وقد
شكلت هذه الرؤية الدينية أداة لإعادة تشكيل حدود المنطقة سياسياً بما يخدم الأهداف
الصهيونية، ويمنح المشروع الاستعماري شرعية زائفة قائمة على نصوص دينية وتأويلات
توراتية. لذلك يمكن أن نعرف “الجغرافيا التوراتية” بأنها تصور ديني أيديولوجي يستند إلى
نصوص من التوراة والتقاليد اليهودية لتحديد نطاق جغرافي واسع لما يسمى “أرض الميعاد”،
وهي الأرض التي يعتقد التيار الديني الصهيوني أن من حق (إسرائيل) امتلاكها. وتشمل هذه
الأرض، وفقاً لهذه الرؤية، ليس فقط فلسطين التاريخية بل أيضاً أجزاء من الأردن وسوريا
ولبنان ومصر والعراق، مستندة إلى نصوص من سفر التكوين وسفر يشوع وسفر العدد. ورغم
أن هذا التصور لا يحظى بإجماع بين جميع اليهود لا سيما السامرين منهم ، إلا أنه يشكل
جزءًا أساسياً من الخطاب السياسي والديني للمستوطنين، والأحزاب اليمينية، وحركات الضغط
الداعمة للاستيطان، ويمتد تأثيره إلى دوائر صنع القرار في (إسرائيل)، خاصة مع صعود
التيارات الدينية المتطرفة في الحكومة
في المقابل، الجغرافيا السياسية تتعامل مع الوقائع الدولية، حدود الدول المعترف بها،
والتوازنات الإقليمية، لكنها أصبحت في الفكر الإسرائيلي أداة تنفيذية لترجمة “الجغرافيا
التوراتية” على الأرض، عبر الاستيطان، تهويد القدس، السيطرة على الأغوار، والسياسات
الممنهجة لتفتيت الدول العربية من خلال دعم وتغذية الصراعات الإقليمية بهدف إضعاف
الدول العربية المجاورة كوسيلة لتهيئة بيئة تسمح بترجمة التصور التوراتي سياسياً على
الأرض، فضلاً عن الترويج لفكرة “إسرائيل كدولة يهودية قومية” التي تستند إلى حق ديني-
تاريخي، وليس فقط إلى معطيات قانونية معاصرة. لذلك تحاول (إسرائيل) فرض خريطة
سياسية جديدة تتماهى مع روايتها الدينية. وفي السياق الواقعي، تقوم الجغرافيا السياسية على
حدود الدول والتوازنات الإقليمية والاتفاقيات الدولية، غير أن المشروع الصهيوني يسعى، عبر
أدوات القوة والسيطرة، إلى تكييف هذه الجغرافيا السياسية لتنسجم تدريجياً مع التصور
التوراتي.
منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل عام 1897 وحتى يومنا هذا، استطاع
المشروع الصهيوني أن يمزج بين الأسطورة الدينية والسياسات الاستعمارية الحديثة. فبينما
اعتمد على الدعم الغربي والهيمنة العسكرية لفرض وجوده، روّج في الوقت ذاته لسردية
توراتية تزعم أن وجود (إسرائيل) امتداد لوعد إلهي قديم. هذا التداخل الخطير بين الدين
والسياسة يسهم في شرعنة انتهاكات القانون الدولي، من استيطان، وتهجير، وضم، على أساس
ديني باطل، ويغذي الصراعات الدينية في المنطقة، ويحول النزاع السياسي إلى صراع
وجودي مغلف بطابع ديني.
من هنا ترتبط مخططات “هندسة الشرق الأوسط” إسرائيلياً بشكل وثيق بالرؤية التوراتية،
حيث تسعى تل أبيب إلى فرض وقائع على الأرض تتماشى مع خريطة التوراة المزعومة،
وإضعاف دول الجوار وتفكيك كياناتها، كما ظهر في دعم الحروب الأهلية والانقسامات
الطائفية، فضلاً عن تعزيز تحالفات مع أنظمة إقليمية تقبل بالتطبيع، على قاعدة تثبيت تفوق
(إسرائيل) وتجاهل الحقوق الفلسطينية والعربية. ورغم الخطاب الديني الذي تتذرع به
(إسرائيل)، يبقى القانون الدولي واضحاً في رفض أي تغيير قسري للحدود القائمة، وسياسات
الاستيطان وضم الأراضي، ومحاولات تهويد القدس وطمس هويتها. ومع ذلك، فإن ضعف
الموقف العربي، والانقسامات الداخلية، والتواطؤ الدولي، سمح (لإسرائيل) بتوسيع نفوذها
تدريجياً، مستغلة الغطاء التوراتي لتحقيق مكاسب سياسية وجغرافية على حساب الفلسطينيين
والشعوب العربية.
لذلك فإن العلاقة بين “الجغرافيا التوراتية” والجغرافيا السياسية في المشروع الصهيوني ليست
مجرد قراءة دينية للأرض، بل جزء لا يتجزأ من إستراتيجية استعمارية إحلالية تهدف إلى
فرض واقع سياسي وجغرافي جديد في المنطقة، بعيداً عن القوانين والشرعية الدولية.
والتصدي لهذا المشروع يتطلب وعياً عربياً ودولياً بخطورة التداخل بين الأسطورة الدينية
والسياسة الواقعية، والعمل على كشف زيف الادعاءات التوراتية، والدفاع عن حقوق الشعوب
المستندة إلى القانون الدولي والشرعية التاريخية.
تأسيساً لما سبق فإن دولة الاحتلال ورئيس وزرائها، الذي يسعى من وراء ما يسمى بـ”هندسة
إقليم الشرق الأوسط”، لتحقيق جملة من الأهداف الإستراتيجية التي تتكامل فيها الأبعاد
السياسية والأمنية والاقتصادية والأيديولوجية، في محاولة لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي بما
يخدم التفوق الإسرائيلي طويل الأمد. (فإسرائيل)، ترى أن ضمان أمنها لا يتحقق فقط عبر
الجدران العسكرية أو التحالفات الظرفية، بل من خلال إعادة ترتيب بنية الإقليم بالكامل، بحيث
تصبح هي الدولة الأقوى والأكثر استقراراً وسط محيط عربي مفكك وضعيف، غير قادر على
المواجهة أو تشكيل تهديد استراتيجي لها.
في هذا السياق، يقوم المشروع الإسرائيلي على تفكيك الدول العربية والإسلامية المحورية،
خاصة تلك التي تمتلك مقومات جغرافية أو بشرية أو عسكرية قد تشكل تهديداً مستقبلياً، مثل
سوريا والعراق وإيران وحزب الله. ويجري ذلك عبر مواجهتها والعدوان عليها وتغذية
الصراعات الطائفية والعرقية، ودعم الميليشيات المحلية، والترويج لمشاريع التقسيم، بحيث
تتحول هذه الدول إلى كيانات صغيرة متناحرة، تستنزف داخلياً وتفقد قدرتها على التأثير
الإقليمي. ولا يتوقف الأمر عند حدود التفكيك السياسي، بل يتجاوزه إلى محاولة فرض خريطة
سياسية جديدة تتماشى مع التصور التوراتي، حيث يسعى رئيس وزراء الاحتلال إلى خلق واقع
سياسي يقرب حدود (إسرائيل) الفعلية من الحدود التوراتية المزعومة، سواء عبر التوسع
الاستيطاني، أو السعي لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، أو خلق واقع جديد في المناطق
الحدودية مع الأردن وسوريا ولبنان، بما يرسخ الادعاءات الدينية كأساس لرسم حدود الكيان
الصهيوني.
ضمن هذا الإطار، تحاول دولة الاحتلال ورئيس وزرائها إعادة تعريف طبيعة الصراع العربي
الإسرائيلي، عبر دفع مسار التطبيع مع عدد من الدول العربية وتحييدها سياسياً، وتحويل
الصراع من قضية احتلال لفلسطين إلى مجرد نزاع أمني محدود، مع التركيز على مواجهة
إيران ومحور المقاومة باعتبارها التهديد الرئيسي، وإظهار (إسرائيل) كحليف ضروري
لبعض الأنظمة العربية في مواجهة هذا الخطر، بدل إبقائها في موقعها الطبيعي كقوة احتلال
ومصدر رئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة . ويوازي هذا التوجه مساعٍ حثيثة لتعزيز التغلغل
الاقتصادي والتكنولوجي الإسرائيلي في الدول العربية من خلال اتفاقيات الشراكة الاقتصادية
وتبادل التكنولوجيا، مستغلة موجة التطبيع التي باتت توفر غطاءً سياسياً لهذه العلاقات، بما
يجعل من (إسرائيل) لاعباً اقتصادياً يصعب تجاوزه أو مقاطعته، ويزيد من تبعية اقتصاديات
المنطقة لها في مجالات الأمن الغذائي والتكنولوجيا والطاقة.
ولا يغيب عن هذا المشروع التوسعي البعد المرتبط بتصفية القضية الفلسطينية، إذ تسعى
(إسرائيل) إلى ترسيخ سيطرتها على القدس وتهويد المدينة ، وتوسيع الاستيطان، واستغلال
حالة الانقسام الفلسطيني لفرض وقائع على الأرض تجعل من قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة
أمراً شبه مستحيل، في ظل صمت دولي وانشغال عربي بالأزمات الداخلية. ويرتبط ذلك برؤية
إسرائيلية تعتبر أن ضرب فكرة الدولة الوطنية العربية وانتشار الهويات الطائفية والمذهبية
داخل المجتمعات العربية يخدم مصالحها الإستراتيجية، ويضعف من أي مشروع عربي جامع
قد يشكل تهديداً مستقبلياً، خاصة إذا ما استمر انهيار مفهوم المواطنة لحساب الولاءات القبلية
والطائفية والعرقية.
باختصار، دولة الاحتلال ورئيس وزرائها يسعى من وراء تبنيه “للجغرافيا التوراتية” إلى
هندسة إقليم الشرق الأوسط وتفكيكه ، وإعادة رسم حدوده على مقاس (إسرائيل)، شرق أوسط
ضعيف، مفكك، غير قادر على المواجهة، ومفتوح اقتصادياً وأمنياً أمام النفوذ الإسرائيلي، أي
بقاء (إسرائيل) حامية للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة ، مع تغييب كامل للحقوق
الفلسطينية، وفرض واقع استعماري جديد يلبي الرؤية التوراتية ويرسخ (إسرائيل) كقوة مهيمنة
على حاضر ومستقبل المنطقة.