بين الذاكرة والسلطة: من “12 يومًا” لترامب إلى أزمة كوبا

بقلم عبد الحق الريكي

تاريخ النشر: 29/06/25 | 19:28

أعيش اليوم مع تشخيص كان يمكن أن يرعبني: بداية مرض ألزهايمر. مضت ثلاثة أشهر وأنا أحمل هذا الاسم في صمت، كما يُحمل إرث غامض. لكن، وعلى عكس ما كنت أتصور، فإن ذاكرتي لم تخنّي، بل جسدي هو من بدأ يخذلني. أصبح ضعيفًا، يقاوم أقل، لكن روحي ما تزال يقظة. وأجد نفسي أتذكر ما يودّ الآخرون نسيانه. وربما في هذا تكمن معركتي: أن أكتب لأحفظ ما بدأ في التلاشي، وأن أسمي ما يحاولون محوه.

في هذه الحالة من التأهب – حيث يصبح كلّ تذكُّر فعل مقاومة – عادت إليّ ذكرى غريبة، أقرب إلى اللبس الطريف: أحدهم قارن بين “12 يومًا” من رئاسة دونالد ترامب، وبين حرب. رأى البعض فيها إشارة غير موفّقة إلى حرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل سنة 1967، لكن في الحقيقة، أظن أن المقصود كان تشبيهًا بأزمة الصواريخ الكوبية التي دامت 13 يومًا في أكتوبر 1962. وهنا، تستحق المقارنة أن نتوقف عندها.

لأن جوهر معركة الذاكرة السياسية يكمن في هذه الانزلاقات: في النسيان المتعمد، وفي المقارنات المضلّلة. ترامب لا يمثل مجرد مرحلة عابرة من الشعبوية. إنه تجسيد لعلاقة عنيفة مع السلطة، بلا ذاكرة، بلا كوابح. رجل لا يؤمن بالماضي، ولا بعِبَر التاريخ، ولا بتعقيد العالم. في المقابل، واجه جون كينيدي خطرًا نوويًا سوفياتيًا على بعد 90 كيلومترًا من سواحل بلاده، ومع ذلك عرف كيف يُنصت، ويشك، ويتروّى. ثلاثة عشر يومًا من التوتر الشديد كان يمكن أن تقود العالم إلى الفناء.

قد نظن أن لا شيء يجمع بين هذين الرجلين، ومع ذلك، فكل واحد منهما يرمز لشيء واحد: ثقل القرار السياسي حين يواجه الذاكرة الجماعية. الأول يتنكر لها، والثاني يتأملها. كينيدي، رغم عيوبه، كان يعرف ما تعنيه الحرب – قرأ التاريخ، وكان يعرف كلفته. أما ترامب، فتعامل مع فكرة الحرب كما يتعامل مع تغريدة، أو نوبة غضب، أو مناورة أنانية.

لماذا تُطاردني هذه المقارنة اليوم؟ لأنها تتقاطع مع معركتي الشخصية. أنا القادم من الريف المغربي، أرض المقاومة والصمت، رأيت كيف يُشوّه الأقوياء ذاكرتنا. يقارنون، ويعيدون كتابة الروايات، ويتلاعبون بالسياقات. الريف في عشرينيات القرن الماضي، الذي قصفته إسبانيا وفرنسا بالغازات السامة، غائب عن المقررات الدراسية. واسم جدي، موح الحاج أفقير، الذي اغتاله الفرانكيون في تطوان، غير موجود في السجلات. ومع ذلك، فقصته تعادل كتبًا ومؤلفات. قاوم، وسبح هاربًا من سفينة ليتهرب من التجنيد القسري في حرب استعمارية. لكن من يذكره؟ لا الأرشيف الرسمي ولا الدولة.

من خلال هذه الذاكرة المنسية، أرى صلة مباشرة بكيفية تلاعب القوى الكبرى بسردياتها. أصبحت أزمة كوبا انتصارًا أمريكيًا ودليلًا على رباطة الجأش. لكننا ننسى أنها كادت أن تكون كارثة. وبالمثل، سيبقى ترامب في ذاكرة البعض كرئيس “قوي”، بينما في الحقيقة، قوّض أسس الحوار الديمقراطي، وأعاد تلميع العنف كأداة سياسية.

لا أكتب هذا لمحاكمة الرجال كما نحاكم الأفراد، بل لأذكّر بأن الذاكرة ليست محايدة. إنها ميدان معركة. واليوم، هذا الميدان رقمي، آنيّ، هشّ. “12 يومًا” لترامب ليست سوى وهم، اختزال إعلامي يُطمس العمق التاريخي. أما “13 يومًا” لكينيدي، فهي درس: حتى على حافة الهاوية، التريّث شجاعة.

دوري، في حدود ما أستطيع، هو أن أكون جسرًا. بين تلك الفصول الكبرى من التاريخ السياسي العالمي، وبين حكايات الفقراء والمقاومين المنسيين. بين واشنطن وموسكو والريف. لا توجد تراتبية في الذاكرة. هناك فقط أصوات تُسمَع… أو تُخنَق.

فإذا كانت ذاكرتي ما تزال صامدة، رغم ما قاله الأطباء، فذلك لأنها تتشبث بما له قيمة: ذكرى الشرفاء، وصوت المهزومين، وصدق الصمت. وإذا خذلني جسدي، آمل أن تبقى كلماتي. جسرًا بين ماضٍ يريدون محوه، ومستقبل علينا أن نضيئه، مهما كلف الأمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة