بين موسى الأندلسي وموسى النابلسي في رواية عودة الموريسكي
د. صافي صافي
تاريخ النشر: 29/06/25 | 19:14
( في رواية عدوان عدوان “عودة الموريسكي من تنهداته/ أوغاريت/ رام الله 2010)
إذا صح أن معنى اسم موسى هو “المنقذ” أو “المنتشل”، فإنه لم ينقذ نفسه لا في الأندلس ولا في نابلس، فاختارا “الانتحار” الثوري، فالأول ألقى
نفسه في نهر “شانيل” في غرناطة، والثاني صوب رصاصة في رأسه.
وما يجمعهما هو عدم تقبلهما للخيار الأصعب وهو الاستسلام، والاستسلام هنا لا تعني الحياة، بما سيسجله التاريخ، وما سيقرأه أحفاده وذريته،
وذرية المسلمين من بعده، فالذين استسلموا في الحالتين لقوا نهايتهم
الحتمية، القتل والتهجير والتنصير. نهاية مأساوية في كل الخيارات، لكن خيار المقاومة سيظل علامة فارقة لمن بعدهم، وإن ماتوا. ما يجمعهما هوعدالة قضيتهما، وحصارهما وتجويعهما. ما يجمعهما اختيارهما التمرد
حتى لو وقف العوام ضدهما في الحروب اللفظية المتطايرة، وتفسخ الحركات السياسية والعسكرية في غير اتجاه. ما يجمعهما أن البعض وقف
حليفا للأعداء، فالقلاع تسقط من الداخل، يسقطها المنهزمون نفسيا. ما
يجمعهما أنهما انتظرا مساعدة من الخارج فلم تأتهما، فماتا أبطالا. إنه
خيار.
أما موسى الأول، النبي، فإنه لقى حتفه، لا يعرف كيف وأين، فضاعت
جثته، وظل خيالا في خيال، رغم المقامات الكثيرة التي سميت باسمه،
والمناطق الجغرافية من جبال وأودية وسهول خلدته. حتى الألواح التي
نزلت عليه في طور سيناء، ضاعت، وقام الرواة المتعددون باسترجاع
بعض شذرات كلماتها على مدى قرون، لتختلط الحقيقة بالخيال، وليستنطق الله بما لا يمكن أن يقوله، وأن يوصف بالحقد على الآخرين، ومن قتل
واغتصاب وحرق ونازية منذ حوالي 4000 عام.
هذا الاسم ؛“موسى”؛ ذكر أكثر من 80 مرة في رواية عدد صفحاتها
١٢٠، ليس عبثا، وإنما ربما محاولة للبحث عن المنقذ/ المهدي/ المنتشل
الذي لم يأت في الحالة الأولى الأولى، ولا في الثانية ولا في غيرها، فظل كل موسى يبحث عن نهاية له، عن قراره بالتحدي، بالتمرد، بالبحث عن ذاته، ولا يقبل انتحار “ألبير كامو”، بأن يظل تابعا لرؤية الحكام والرعاع، فالعبثية هي مآلات الحياة، وليست الإهمال، ولا السكون، ولا الاستلام،
ولا المال والجاه، إنما القدرة على اتخاذ قرارات في الحياة قبل الممات
الذي لا بد منه أخيرا، فالموت معلن مسبقا، وعليك أن تواجهه أو تختاره.
إنه موسى بن أبي غسان، حدة الشباب وريحانه، وقوته وصلابته، ونشاطه، وإن كان موسى الأول قد تجاوز المائة وعشرين عاما، فإن موسى
النابلسي عاش خمسمائة وعشرين سنة. عمر طويل قبل سقوط الأندلس، والتخلص من الموريسكيين، والموريسكيون هم العرب الذين بقوا في
الأندلس بعد سقوط دويلاتهم، تحت الحكم الإسباني، وأجبروا على تغيير
ديانتهم، وإن كان ظاهريا، وضاعت أسماء عائلاتهم في السجل المدني،
ليسمى الواحد منهم باسم الأب أولا وباسم عائلة الأم ثانيا، وخضعوا
لمراقبة شديدة في طقوسهم، ليثبتوا موالاتهم للدولة الجديدة، أما معابدهم
فتغيرت لمعابد الإسبان أو تم بعض التغيير في معالمها بما يحاكي ثقافتهم، أو حولت إلى متاحف ومزارات يؤمها السياح. إن ما حدث للعرب في
الأندلس لا يمكن وصفه بالكلمات، من الإجبار على تغيير مللهم، للقتل
والاغتيال والاحتيال، وحرق المزارع والمعامل، ونهب المدن وتدميرها،وتدنيس مساجدها، وتخريب بيوتها، وهتك نسائها وبناتها (بالضبط كما
يجري اليوم وجرى في مناطق عديدة)، مارسها “البيض”، وما زالوا
حتى في ظل انتشار منظمات حقوق الإنسان، والأمم المتحدة ومجلس
الأمن، وجميعات حقوق المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، حتى تحول الآخرون لذوي احياجات أساسية في الطعام والشراب.
وأبو عبد الله الصغير/ المخمور، آخر حكام غرناطة، الدويلة الأندلسية التي سقطت. أبو عبدالله المشؤوم، التعيس، الزغابي، عبديل، ابن أبي الحسن،
الذي ثار على أبيه، واقتلعه من الحكم (هذا يحث اليوم)، لرفضه دفع
الجزية ل “فرناندو الثاني”، ملك أراغون عام 1482، كما يفعل ملوك
غرناطة. عبدالله هذا الذي احتوى المتمردين (بزمط، يشبه القرمطي) سلم غرناطة، بعد يأسه من الحفاظ على حكمه، فوقع اتفاقية ولاء تحافظ على
أملاك المسلمين وعاداتهم وتقاليدهم وبيوتهم، التي لم يتم في النهاية
الالتزام بأي من بنودها، واستقر في النهاية في المغرب العربي. هكذا
تجري الأمور في مثل حالاته.
مر الكثير بين موسى الأول والأخير: موسى جت، وموسى النبي، وموسى بن نصير، حتى موسى بن أبي غسان، وموسى بن ميمون. كلهم جاؤوا
منقذين، لكن موسى النابلسي المسكون بالمكان، بمكانين، بالأندلس
وبنابلس، موسى الذي يحفظ غرناطة عن ظهر قلب، وإن لم يزرها من
قبل (في الرواية)، يحفظ جبالها وأوديتها وسهولها، وأسوارها، وحدائقها، وتماثيلها، وغرفها، وبرك مائها، وتصميم كل شيء فيها. ويحفظ سلوك
أمرائها، والحاشية، والناس، والوزراء، وأماكن الجلوس، والخشوع،
والحكايات، والتجسس. موسى المريض بالمكان، المهووس به، الذي لا
يستطيع فصل الماضي عن حاضره. موسى النابلسي الذي يلقى كل
الصعاب في السفر، وفي العودة وفي التنقل. موسى الذي يعيش بين جبلين مثل نهدي فتاة يتوسطها صليب، جبلين متقابلين، أحدهما قاعدة عسكرية
تراقب ما تحتها، وما فوقها، وفي كل اتجاه، وثانيهما الجبل المقدس عند
السامريين الذين حافظوا على تراثهم الديني والاجتماعي منذ آلاف
السنين. يلتقي موسى ب “جسيكا” الغجرية، ويغرم بها، فهو غجري مثلها، غجري الصحراء والعرب، لا يثبت في مكان، وتتحول كل الأماكن له،
ولا يمتلك أي منها، “جسيكا”، تسحره، وتزوره في بيت لحم، لكنه لا يرى فيها إلا “فكتوريا” التي يعرف تفاصيل جسدها وتضاريسه خلية خلية،
ويتبين خريطة روحها، ويتبين لغتها وما يثيرها وما يبهجها وما يسرها.
“فكتوريا” هي ابنة أخ الملكة “إيزابيلا”، المقاتلة الشرسة، التي وقعت في
الأسر، ويوما بعد يوم وقعت في حب ابن أبي غسان، واندمجت في حياة
العرب، وتقاليدهم، وخطوط كلماتهم. بطلة القتال، وبطلة الفراش، حتى
رحلت في صفقة تبادل الأسرى، فظلت في قلبه، وظل في قلبها. لم يبق من فكتوريا إلا الآهات والعذاب والذكريات وخاتم، وظل معها وشاحها هدية منه.
يقرر موسى النابلسي المقاومة، هو وغيره في البلدة القديمة، يستبسل في
الدفاع عن نفسه، ومدينته، بين هدير الدبابات، والطائرات، والمسيرات،
والرصاص، والقذائف، فيقتل منهم الكثير، ويختلفون حول النهايات، منهم من قرر أن يسلم نفسه وينجو، ومنهم من قرر البقاء. موسى النابلسي قرر البقاء، وكاد يقتل المستسلمين الذين قتلوا في النهاية من عدوهم، يصاب
في يده، وفي جسده، ويقاوم، تنفذ ذخيرته، فيقرر الانتحار، برصاصة في رأسه، فيرى في مماته “جسيكا” تقف فوق رأسه، فالأموات لا يموتون، بل ترحل أجسادهم، ولا يستطيعون التحكم بها.
ما أشبه موسى ابن أبي غسان بموسى النابلسي. ما أشبه اليوم بالبارحة.
لكن:
هل كان يجب أن ينتحر الأول لينتحر الثاني؟
ألم ينتظرا أن يتم إعدامها بدل الانتحار؟
هل انقسم الناس بين مستسلم ومقاوم؟
أين الحياة والباحثين عنها؟
هل ما جرى في الأندلس ونابلس هو مثال للكل الفلسطيني/ العربي/
الإسلامي؟
هل يكفي أن لا نستسلم، أم أن هناك طرق للحياة الكريمة.
أختار د. عدوان عدوان هذه البدائل بطريقة ساحرة ومقنعة، فروايته مركبة متشعبة بين مكان ومكان، وشخصيات وشخصيات، بين الماضي
والحاضر، وأحداث تتشابه وتختلف. رواية الموازة والتداخل بين الماضي والحاضر. إنها رواية موجهة لمن لديه الجلد في القراءة، وفي الحياة،
وفي التمرد حتى لو كان من أجل التمرد.
هذا حال المورسكيين قديما، وحالهم حديثا.