حياتنا مرةٌ صعبةٌ وعيشنا كئيبٌ حزينٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

تاريخ النشر: 30/06/25 | 14:06

ربما لست وحدي من يشعر بهذا الإحساس المؤلم، ويعيش هذه المعاناة المتواصلة، والوحشة الدائمة، ويسكن في قلبه حزنٌ أسودٌ بهيمٌ، ويطغى عليه ظلامٌ قاتمٌ مقيمٌ، وتتصارع في رأسه الأفكار وتضطرب، وتتصادم لديه الرغبات وتنعدم، ويعيش التناقض والاختلاف، ويخشى الازدواجية وتعدد الشخصية، ويكره نفسه ويستخف بها، ويحتقرها ويزدري طباعها، ويظن نفسه أحياناً أنه يخون أهله وشعبه، ولا ينتمي إليهم ولا يشعر بهم، ولا يتعاطف معهم ولا يعاني مثلهم.

ولست وحدي من يفقد شهية الطعام، ويعاف كل طيبٍ وشهيٍ، وينأى بنفسه عن كل لذيذٍ ومرغوبٍ، ويفقد متعة الامتلاك وسعادة الجماعة وفرحة اللقاء، ويرفض المشاركة ويخاف أن تظهر عليه ملامح الفرح وأمارات السعادة، ولا يجد ما يجذبه ويسعده، ولا ما يرضيه ويرغبه، وتتساوى عنده الأوقات، وتتشابه لديه الأحداث، وتتكرر معه المشاهد والصور، وتتداخل لديه الوجوه والشخصيات، ولا تختلف عليه ملابسه، ولا يعنيه انتقاء أجملها واختيار أحسنها، ولا يحرص عند خروجه على حسن مظهره وطيب عطره، ولا يلتفت إلى كلام الناس وتعليق المحيطين.

ولست وحدي من يفقد اللهفة ولا تشوقه المفاجأة، ولا يسارع لكسبٍ ولا يسعى لمنصبٍ، ولا يعنيه العمل ولا يشغله المال، ولا تهمه الدنيا ولا يقلق على استمراره فيها، ويظن أن الحياة مرةٌ صعبة، لا حلو فيها ولا طيب يجملها، وقاسية لا سهل فيها ولا لين يزينها، وأن العيش فيها بات كئيباً محزناً، فلا فرح ولا ابتسامة، ولا سعادة ولا عين براقة، فهذه الدنيا لم يعد فيها شيء يستحق الحياة، أو يستأهل التعب والكد والعمل والجد.

إنه حال أهل غزة وأبنائها في الخارج، الذين يعيشون في المنافي والشتات، ويقيمون في بلاد الغربة ومواطن اللجوء، لدراسةٍ أو عمل، أو لعلاجٍ ومتابعة، أو لهجرةٍ ولجوء، وقد تركوا خلفهم في قطاع غزة أهلاً وأحباباً، وأولاداً وأبناءً، وآباءً وأمهاتٍ، والكثير من أفراد عائلاتهم، وباتوا يتابعون أخبارهم عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، ويرون مشاهد القتل والدمار، وصور المجازر والمذابح، ونتائج القصف والعدوان، وآثار الخراب والدمار، فلا يقوون على المشاهدة، ولا يستطيعون المتابعة، ويقضون أوقاتهم بين بكاءٍ صاخبٍ وحزنٍ صامتٍ، فالمشاهد فظيعة والصور مروعة، والأخبار صادمة، والأخبار تحمل معها أسماء الأهل والأقارب، والجيران والأصحاب والمعارف.

ليس بأيدينا ولا هو بمحض إرادتنا، ولا نحن به نتظاهر أو ندعي، ولا نكذب على أنفسنا أو ننافق أهلنا، فحياتنا صدقاً صارت صعبة جداً وقاسية للغاية، ولعل أصوات القصف تصلنا عالية، وآثار الدمار نشعر بها قاسية، رغم بعد المكان وأمان الإقامة، إلا أننا رغم العجز نشعر بقهرٍ أننا نعيش معهم، ونشعر بمعاناتهم، ونشاركهم أحزانهم وآلامهم، فلا يلومنا أحد إن عفنا كل شيءٍ، وسئمنا الحياة ومللنا العيش، وزهدنا فيما أحله الله لنا، وتخلينا عما أباحه، فوالله أننا نشعر بالصغار أمام شعبنا، وتهون علينا نفوسنا، ونحتقر ذواتنا إن نحن شعرنا ببعض ألمٍ أو شكونا من مرضٍ.

بتنا نشعر أننا أصبحنا وحيدين بعد أن استشهد عشرات الآلاف من شعبنا، وسبقنا من نعرف بالشهادة، وبقينا وحدنا وكأننا البضاعة الرديئة، التي لا يقبل بها أحد ولا يرغب بها محتاج، وأصبحنا نحرم على أنفسنا كل شيءٍ، ولا نقبل بمتع الحياة، ولا نشكو من نقص، أو نتبرم من حاجة، أو نضيق ذرعاً أو نشكو جوعاً.

وقد بات من الصعب علينا أن نستسيغ طعاماً أو أن يطيب لنا أكلاً بعد مشاهد القتل على أبواب مراكز المساعدات الغذائية، وصور شعبنا وهم يتدافعون بعشرات الآلاف وهم يحملون قصعاتهم الخاوية، انتظاراً لبعض طعامٍ رديءٍ يسكب فيها، ويقدم إليهم ممزوجاً بالدم أحياناً، فنحن نرى كل يومٍ أولادنا يقتلون وقد سقطت من أيديهم القصعات وسكب على الأرض ما فيها، وغيرهم ممن عجنوا الطحين الذي يحملون بدمائهم الزكية وقد استشهدوا دونه.

نتساءل بغصةٍ وبالكثير من الألم من نحن أمام شعبنا الذي أعطى كل شيءٍ وصبر، وضحى بالمال والولد واحتسب، وخسر بيته وداره، وماله وأملاكه، وماذا نساوي أمامهم وقد مضى على معاناتهم قرابة العامين وما زالوا على حالهم صامدين ثابتين، رغم أنهم فقدوا كل شيءٍ ولم يبق أمامهم سوى شهادةً ينتظرونها، وخاتمةً باتوا لا يستبعدونها، فطوبى لك شعبنا العظيم في غزة، فقد صنعت اسمك وحفرت في سجل الخالدين ذكرك، وأشدت مجداً يصعب على غيرك أن يشيد مثله، وتعساً لنا نحن الذين نتغنى بأمجادك، ونعيش على آثارك، ونتباهى بمعاناتك، وننظم الأشعار بصمودك وتضحياتك، وندعي شرفاً انتساباً إليك، وانتماءنا إلى غزة التي علا اسمها وسما نجمها، وارتفعت مراتبها، وارتقى في سلم المجد أبناؤها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة