حضارة الحواكير

تاريخ النشر: 09/04/12 | 6:17

أسكن وأعيش في قرية كفرياسيف الصغيرة الغافية عند السفوح الغربية لجبال الجليل، التي كانت جزءا من وطني، فلسطين، واستحالت في غفلة من الزمن وغفلة من ناسه وتواطؤّ من انتزعوا لأنفسهم أمر قيادة عالمنا الراهن، استحالت وطنا لغير أهلها.

أقمنا، زوجي وأنا، بعد تعب عمر، بيتا ًفي الطرف الشرقي للقرية، قريبا من الشارع التجاري القديم الذي كان يربط القرية وجاراتها يركا، جولس وأبوسنان، يربط شرق المنطقة وغربها، وكان ممرا آمنا للقوافل الآتية من وراء جبال الجليل ومرتفعات الهضبة السورية قاصدة عكا، على البحر.

يقع بيتي قبالة خليج عكا ومرتفعات الكرمل الساحرة في الغرب والجنوب، وفوق جزء ٍ اشتريناه، زوجي وأنا، من وعرة دار ملحم. وقد لفت انتباهي جمالية قريتي منذ زمن طويل.

وكم أبهجني واقع سكني.

فبيتي يتوسَّط عددا من البيوت الآمنة والمتصادقة:

يسكن إلى الشرق مني عائلة درزية وإلى الشمال عائلة مسلمة والى الغرب تقع بيوت عائلتين، مسيحية وأخرى مسلمة وإلى الجنوب تقع وعرة عائلة درزية، اشتريت منهم حاكورتي. وفي الحارة، حارتي، تسكن أكثر من عائلة مسيحية، درزية ومسلمة. ويسود بينها الإحترام، التفهم والصداقة.

وحين أذكر انتماء هذه العائلات الصُدَفي ( من مصادفة )، وهو انتماء لطائفة محدَّدة، أي ديني، لا يغيب عني حقيقة أن هذه العائلات يجمع بينها انتماء تاريخي واحد، انتماء ثقافي وإنساني واحد أيضاً، انتماء لوطن وانتماء لشعب، وهذا الإنتماء هو ما يجدر بنا أن نعززه.

كثيرا ما تأملت هذا الواقع السكني، فأدركت جمالية تعدد ناس قريتنا، غناه وكونه شاهدا على التسامح، العيش المشترك، تنوع الثقافات وما ينجم عن ذلك من تلاقح فكري، تلاقح قيم وعادات.

أقول ذلك وإن يكن لايخفى عني أن ثمة قوى محلية وأخرى أجنبية تحاول جاهدة قدر الإمكان تمزيق هذه اللحمة وإحالة هذه النعمة إلى نقمة، تسمم حياة الناس وتسهل إمكانية إبقائهم أتباعا، يعيشون على هامش المسار الحضاري الحقيقي.

وقد لاحظت أن أحد مصادر قوة وحيوية، بل ما يميز منطقتنا، فلسطين التاريخية، شقيقتاها، لبنان، سوريا، الأردن وإلى حدٍ ما الشقيقتان البعيدتان نسبيا، العراق ومصر، هو هذا القوس الإجتماعي، الذي يتمثل في هذه الجيرة وهذاالتنوع.

لاحظت، كانت منطقتنا، خاصة الى الغرب من الفرات وحتى شواطى المتوسط، لزمن طويل، أشبه بمرجل تغلى وتتلاقح فيه أفكار، ومعتقدات عاكسة لتنوع عالمنا وكثرة اجتهاداته في الإجابة على سؤال الإنسانية القديم والجديد:

مَنْ نَحْنُ، من أين جئنا وإلى أين المصير ؟

فاتِحة بهذه الإجتهادات وما يترتب عنها الأفق أمام شعوبها لبناء صرح حضاري، ما زال ماثلا، يدغدغ أحاسيسنا ولن يزول أثره، طالما بقيت حياة.

وتعتمد الجيرة الحسنة بين الناس الذين ذكرتهم وغيرهم كثيرين على سلوكيات، اكتسبها الناس بالتجربة. وأولها احترام الآخر، الذات الأخرى، احترام حقها في أن يكون لها تصورها المختلف، خاصة في مجال فهم الألوهية، وعدم التدخل الفظ في شؤون الأخر، الحياتية والمعيشية. وينطلق الجيران من حكم قديمة متوارثة ومجربة:

” كل من على دينه، ألله يعينه”،

” حافظ على الجار ولو جار “

“حافظ على الجار ولو لسابع دار “

” جارك القريب ولا أخوك البعيد “، وغير ذلك من حكم الحياة.

***

لفت انتباهي من سنين أن حاكورتي الصغيرة والوعر الصخري المحيط بها استحالا كل عالمي. وكثيرا ما أقضي ساعات طويلة يوميا، أستعرض مسار عالمي وحياتي وأكلم نفسي بصمت أو هامسا ً.

وقد شدَّ انتباهي في الآونة الأخيرة ما أسميته “حضارة الحواكير”.

فوجئت أن زهرتين بريتين انتقلتا من حاكورة جاري وراحتا تتكاثران في حاكورتي. وكان الأمر ذاته مع شجرة مزهرة جميلة. فرِحْتُ كثيرا بالأزهار الوافدة وبالغرسة التي سرعان ما غدت شجرة خضراء، جميلة وظليلة، فساعدتني زوجتي على الاعتناء بهذه الأزهار والغرسة، سقايتها والإعتناء بها كالمولود.

بين حاكورتي وحاكورة جاري يفصل طريق داخلي، يصل إلى الوعرة، ويفصل بينهما سياج حديدي، لغرض التجميل والمتانة.

لكن هذا السياج لم يحل دون انتقال بذور الخير إلى حاكورتي.

وقد فوجئت كذلك أن زهورا، ربيتها في حاكورتي، راحت تزهر وتتكاثر، بشكل غير مزعج، في الحاكورتين الواقعتين إلى الجنوب والغرب مني.

قلت، محدثا نفسي، هي حضارة الحواكير، تحمل مياه الشتاء ورياح الربيع والخريف، تحمل البذور بكل دفء الأمومة وحنانها، تنقلها من حاكورة لأختها، جارتها، توزِّعها بفوضى محببة، أحسبها خير نظام غير ثقيل أو كريه، تفعل ذلك بلا إذن أو جواز من أحد، فتحمي وجودها من دون أن تكون عبئا على وجود الآخرين. يشكل انتشارها ونموها نَسْجَ بساط الحواكير الزهري المتجدد كالحياة والمفرح بجماله وبساطته.

شعرت بحزن وفرح، في آن :

كم نحن في أمس الحاجة للتعلم من حضارة الحواكير، فالواحدة تجمِّل الأخرى وتغنيها.

قلت في نفسي:

ما أجملها من “عدوى”، فبها ومعها يفترش الورد الحواكير، حواكير عالمنا.

تذكرت محزونا أن حضارة الإنسان، أعني شرائح مُحدَّدة من الناس، تقوم على جماجم.

تذكرت ما حصل في بلادي ولا يزال حاصلا:

سعادة البعض لا تستوي إلاّ على خرائب ومآسي آخرين، ويا تعسها من سعادة.

اقرأ المزيد في موقع بقجة:

للشاعر والاديب ابراهيم مالك

تعليق واحد

  1. تصدح المغنية…

    الورد جميل..جميل الورد..شوف الزهور وتعلم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة