بيتٌ….

تاريخ النشر: 08/08/14 | 21:03

1- اربطْ لسانَك

بيتُكَ حِصنُكَ.
فاربطْ حصانكَ على أطرافِ سهولِ الكلام. واربط لسانكَ حين يتحدثُ الرعدُ.
بيتُك شرنقةُ أحلامِك الصغيرة والكبيرةِ ومُتّكأُ النوافذِ ومحطُّ أجنحةِ الحمام. فلا تدعُ إليه ثقيلي الظلِّ والطائراتِ والقذائفَ، القادمةَ من أسفارٍ قديمةٍ وبلاد ٍبعيدة، ومن خيالاتِ القبائل.
بيتُكَ حصنُكَ. والبيتُ قلعةٌ قابلةٌ للسقوطِ، مثلَ كلِّ القلاعِ والتقليعات.
فلا تسقُفْهُ بالإسمنتِ، كي تظلَّ قادراً على شمِّ رائحةِ العرَقِ السَّماويِّ وعلى إغماضِ عينيكَ على ارتعاشاتِ نجمةٍ يختارُها قلبُك.
بإمكانكِ، إن كبِرتَ يا صديقي الصغير، أن تخطبَ وُدَّ نجمةٍ، كما تحبُّ. فالنجومُ كثيرةٌ ولا تبالي بدينِ أهلِكَ ولا لونِ جلدِكَ ولا شكلِ أنفِك ولا حجمِ حسابِك في البنك.
وبإمكانِك، إذا تعثّرتَ بنْجوةٍ في حقلٍ من الألغام، وحين يشتدُّ عودُك وتحتلُّ الشعراتُ المتينةُ أرضَ الزَّغب، أن تقيمَ عُرساً على مَجرّةٍ. فالمجرّاتُ كثيرةٌ هذه الأيام ولكلِّ واحدٍ، ذكراً وأنثى، قسَمَ الله أربعَ مجرّات (1) كاملاتٍ، محنجلاتٍ بالغموضِ والمسافاتِ الطويلة.
بيتُكَ قلعةٌ.
وللمنازلِ منازلُ في القلوب وفي شهوةِ الذّخيرةِ وجشَعِ الصراصيرِ والنملِ وتُجّارِ السلاح.
بيتُكَ حصنُك، فلا تسقفْهُ في هذه الأيام، كي لا ينهارَ السقفُ عليك.
ولا تستلقِ على ظهرِك، ولا تَعدَّ النجومَ، يا صديقي الصغير، كي لا ينبتَ المعدودُ منها على أصابعِ اليديْنِ والقدميْنِ، ثآليلَ قاتمةً.
فالثؤلولُ، لو تعلمُ، هو النجمةٌ التي تقنِصُها العيونُ البريئةُ على فراشِ ما يبقى من
بيتُك حصنُكَ، أيّها الصغيرُ المسلَّحُ بعلامةِ استفهامٍ في حجمِ تمثالِ الحرّيةِ وبعينيْن في اتّساعِ أفقِ جبلِ موسى في الخامسةِ وثلاثةٍ وأربعينَ دقيقة بينَ فجرٍ وصُبحٍ.
فاربطْ لسانَكَ في اصطبلاتِ الحميرِ، واتَّقِ اللهَ والبوليسَ السياسيَّ وشرَّ الببغاواتِ والطواويس وأدراكِ السماء.
إضاءة:
1. يقدرُ العلماء أن في الكون حوالي ثلاثين مليار مَجرّة، وأن في كل مجرّة حوالي ثلاثين مليار كوكب. عددُ المجرّات، وفق هذا التقدير، هو بالتقريب أربعة أضعاف عدد سكان الكرة الأرضية.
2.من تراثِنا المحلّي، أن الأطفالَ الذين ينامون على السطوح، يجب أن لا يعدّوا النجوم. فكلُّ نجمةٍ يعدونَها، وفقاً للحكاية الشعبية، تفقسُ في أصابعهم على هيئة ثؤلول أو “فالولة” باللهجة العامية.

2 -هاجَرُ
نمِتُ على قلقٍ محشوٍ بالإسفنجِ وتوسّدتُ ريحاً مسيّجةً بالحديد. فحلمتُ حلماً تأتاءً، في بيتٍ بباءٍ تحتَ عصاً، وياءٍ مسكونةٍ بالسكون وبكومةٍ من التاءاتِ المربوطةِ بالمرَسِ. قيل لي إنني في بْنومْ بِنْهْ، (1) فرأيتُ جحافلَ من الخميرّوج وسمعتُ كلاماً بالألمانية بلكنةٍ فرانكفورتية وانفجاراتٍ بلهجةِ الجحيم.
حلمتُ أنني أفقتُ.
التقيتُ امرأةً في عمرِ خمسِ حروبٍ وعشرةِ اجتياحاتٍ وسبعِ عملياتٍ واثنتين وعشرينَ هدنةً. قالت إنَّ اسمَها هاجرُ واسمَ زوجِها عيسى. وقالت، بحسْرةٍ مُرهَقةٍ، إنَّهُ ماتَ على مُفترقٍ عابرٍ، واحترقَ شعرُ الماعز الذي اكتسى به.(2)
وحكتْ أيضاً أنه سقطَ منه، عندَ شارةِ الضوءِ، رغيفٌٍ أشقرُ وحبّتا بندورة خجولتان، لأنهما لم تجدا الوقتَ الكافي والماءَ للاغتسال. “انسدّتْ علينا أبوابُ السحاب والصنابير”.
وقالت، بلهجةِ أهلِ غزةَ، بجيمٍ مصريَّةٍ أو عبريّةٍ:
هلْ صادفتَ بيتي في طريقِك، يا بُنيَّ؟
قلتُ: وأين بيتُك؟ِ
قالت: كان هنا، لكنّهُ هربَ من المكانِ.
قلت: وكيف يهاجرُ البيت؟
قالت: هنا يبقى الناسُ لأن جهاتهِم مغلقةٌ وقبورَهم مفتوحةٌ. أما البيوتُ فتهاجرُ على شكلِ سحابةٍ من غُبار.
لم أقل شيئاً.
ولم تقل شيئاً.
إضاءة:
1. بنومْ بِنهْ: عاصمة كمبوديا في جنوب شرق آسيا. والخميرّوج هم الخمير الحمر، وهي حركةٌ مسلحة ارتكبت حربَ إبادةٍ جماعية في كمبوديا، ووُجهت أصابعُ الاتهام في حينِه إلى أوساطٍ غربية بتسليح ودعم قوات الخميرّوج.
2. إشارة إلى عيسى، الابن البكر لاسحاق. وقد حُرمَ عيسى من بركةِ أبيه لصالحِ أخيه الأصغر يعقوب، بفعلِ مكيدةٍ شارك فيها يعقوب ووالدتهما رفقة (التوراة). ومما قالَه اسحاق لعيسى: “بلا دَسمِ الأرضِ يكونُ مسكنُك. وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش.”

3 – لحظاتٌ
ثم أفقتُ.
لم يستغرقْنا وقتٌ طويل.
قبلَ قليلٍ، كنّا نركضُ وراءَ السِّلقِ مكتنزِ الشفتيْن والتوتِ البريِّ المُحاربِ والباذنجان المصفّحِ بالشوكِ والتفاحِ المعلَّقِ على قانون الجاذبية.
بالأمسِ فقط، كنّا نغازلُ الكلابَ السابحةَ على أنيابِها في الغابةِ البتولِ، قبلَ أن نُعلِّمَها التنازلَ عن كبريائِها والإخلاصَ ليوليسيز.
واستجديْنا الخيولَ المتوحشةَ التي تنفثُ أعرافُها العواصفَ، كي تبيتَ على أكتافِنا وتركضَ تحتَنا.
وكنَّا، بالأمسِ، نستدرجُ الأرانبَ الخفيفةَ والدجاجاتِ الملوّنة الطائرةَ والتيوسَ القافزةَ بين جبليْنِ، إلى سياجٍ من اللَّكاعةِ والأشجارِ المُبيَّتةِ.(1)
قبلَ قليلٍ فقط، انتهيْنا من بناءِ عجلةٍ تشبهُ الدائرةَ، وغزوْنا بها أرضَ الفراعنةِ، وقعَّرْنا المرايا التي تزرعُ اللهيبَ في خشبٍ يطفو على ماءٍ.
قبيلَ هذا المساء، تركْنا الكهوفَ بلا أبوابٍ وهبطنا عن الفروعِ الباسقة، وسرقنا النارَ من الآلهة وسقطَ من بين أظافرِنا فخذُ أيِّلٍ فتعلَّمْنا الشّواء.
وعند هذا المغيبِ الأخير، على مقربةٍ من الجبلِ البعيدِ، صقلْنا حجراً من الصّوانِ بحجرٍ من الصّوان، ووضعناه في الجهةِ الشرقية من حُفرةٍ. وحين طارتْ روحُ جدِّنا، حملناهُ ووضعنا رأسَه على الحجرِ لينبعثَ بولادة القرصِ الذهبيِّ وبَسَطْنا لقدميهِ بحرَ الأرجُوان.

قبل لحظاتٍ، حمّصْنا الترابَ المبلّلَ والقشَّ، واقتنيْنا الأسِرَّةَ والأرائكَ والطناجرَ والكُحلَ والبخورَ والدبابيسَ والمرايا والدفاترَ والخزائنَ وعلبةً من البنِّ والهالِ وكيساً من السُّكّرِ وعلّقنا الصورَ والأرواحَ على حائطٍ.
والآنَ، بعدَ عشرينَ ألفِ عامٍ من الشقاءِ والعملِ المصبوغِ بالعرقِ، ينفجرُ البيتُ وتتناثرُ التوابلُ والمناديلُ المطرّزة بالأناملِ والنّفَسِ الطويلِ والحذاءُ الورديُّ وقائمةٌ بالمؤنِ الضرورية.
فينامُ طفلٌ على وسادةٍ من الصوّان، ويعودُ البيتُ إلى ترابِهِ والطيّارُ إلى غابةِ الإسمنت.

إضاءة:
1. إشارات إلى تطوراتٍ محوريّة في المجتمع البشري خلال الفترة القصيرة الأخيرة، التي تمتد على مدى عشرين ألف عام.

-4 انقلابُ الآية
قبلَ ثمانيةِ أعوامٍ، مضتْ في رمشةِ عينٍ انغلقتْ على روحِ الأمّة، اتصلَ صديقٌ حميمٌ من جهةِ الجنوب. كانت الدنيا صيفاً، لكن ميزانَ الحرارةِ سقطَ سهواً من دائرةِ اهتماماتِنا.
كنتُ أدخنُ سيجارةً، بين صفارتَي إنذارٍ، في زاويةٍ تظلِّلني من لهيب الشمسِ وعيون المُعزّين بموتِ عزيزٍ وتحجبُني عن عيونِ أسرتي التي صدّقتْ أنني أقلعتُ عن التدخين والنيكوتين.
قال: تعالَ، أنتَ وكلُّ أبناء عائلتك للاستضافةِ عندنا، إلى أن تمرَّ العواصف. “بيتُنا واسعٌ، كما تعلم، وفيهِ غرفةٌ للمدخنين وشرفةٌ غربيةٌ للهواء”.
اعتذرت.
ثمَّ انقلبت الآية.
فاتصلتُ ودعوتُه، قبل أسابيعَ، للاستضافةِ عندنا سويةً مع أفرادِ أسرَتِه. قلتُ له: بيتُنا صغيرٌ ولكنّه، مثلُ رغيفِ المسيح، يكفي لمئةٍ وأكثر وقانا الجليل قريبةٌ.
لم يكن يدخّنُ، في هذه اللحظةِ ولا في أيّةِ لحظةٍ، لأنهُ يكرَهُ التبغَ ويحبُّ الكوكاكولا وشرابَ النعناعِ والروزماري والفيجن المغليَّ.
قال، معتذراً: عندنا ملجأٌ مسلَّحٌ بالإسمنت المُقوّى، وغرفٌ كثيرةٌ لغير المدخنين. وقالَ إنَّ رينا، زوجتَه الطيّبة وكثيرةَ الحركة، أقلعتْ عن التدخين، حينَ طردناها وسيجارتَها إلى بردِ الشتاء، ولكنّها تواصلُ الرسمَ على هواها، على هواءِ الشُّرفة الغربية.
وقال: بعونِ الربّ، لمْ يُصبْ بيتُنا لا بقذيفةٍ ولا شظيّة.
وتنهّدَ، كأنّهُ يلقي تجاعيدَهُ وتقلُّصاتِ بؤبؤيْه في أذني.
حدثتُهُ بما استطعتُ، مُواسياً.
قال: هل تعرفُ ما الفرقُ بين جيشِ الشعب وشعبِ الجيش؟
قلت: أعتقدُ. وما الفرقُ بين ربِّ الجيشِ وجيشِ الربّ؟
قال: أعتقد أنني أخشى أن أعرف.
لم أقل شيئاً.
لم يقل شيئاً.
وكان الخطُّ بيننا ما يزالُ مفتوحاً.

-5 فرَحُ الدموع
في مكانٍ خياليٍّ تماماً، عادَ صبيٌّ بلا اسمٍ وبلا ذراعيْن، مع عمّتِه، إلى تلةٍ من الرّكام.
لم يجد أثراً لحِضن أمِّه ولا عُقدةِ حاجبي أبيه.
لكنّهُ عثرَ على بقايا دُبِّهِ الذي اكتسى بالبنّي.
لم تُطِعهُ ذراعاهُ الغائبتان، فما استطاعَ معانقَة دُبِّه.
بكى.
وفرحَ فرحاً عظيماً، حين اكتشفَ أنه ما زالَ قادراً على البكاء.

-6 تماثلٌ
كانت ״ليلاخ״، ذاتُ العينين المصقولتيْن من شاطئ كريت والشعرِ الأصفر السّلِسِ الذي استغنى عن الأمشاط، تُحبُّ “جيري” كثيراً.
هُرِعَ الجميعُ، بعدَ الإنذار، خارجَ البيت المُعدِّ للقصفِ. خرجتْ “ليلاخ”، بعد أن حملتْ دُميةَ “جيري” بالأبيض والأسود ووضعتْ حقيبتَها الزهريةَ على كتفِها. لكنها، وبعد أن كانت الأُسرةُ تهرولُ باتجاه الملجأ المُحصَّن، أفلتتْ فجأةً من يدِ أمِّها وركضتْ إلى داخل البيت. تسلّقتْ على الكرسيِّ ومدت يدَها إلى عشِّ الدوريِّ عندَ زاويةِ الشُّباك. حملتْ فرخاً واحداً ووضعتهُ في حقيبتِها. مدّتْ يدها إلى العشِّ لالتقاطِ بقيةِ الفراخ. كانت ليلاخ تُدندن:
للعصفورةِ عُشٌّ
بين الشجر
ولها في العُشّ
بيضاتٌ ثلاث.
وفي كلِّ بيضة –
صهٍ، كي لا توقظَه –
غارقٌ في نومِهِ
فرخٌ صغير.(1)
كانت أمُّها وراءها، تولولُ.
ابتلعَ دويُّ الانفجارِ صوتَ الأم والطفلةِ وسقسقةً خافتة.
فتحولتْ ليلاخ إلى أسطورة، وأقيمَ لها نصبٌ حُفِر على رخامِه اسمُها الثلاثيُّ وتاريخُ ميلادِها.
في الوقتِ نفسِهِ، كانت ״ليلى״، ذاتُ العينين المصقولتين من جبال كريت والشعرِ المتمرِّدِ على الأمشاط، تُحبُّ “جيري” كثيراً.
هُرِعَ الجميعُ، بعدَ الإنذار، خارجَ البيت المُعدِّ للقصف. خرجتْ ليلى، بعد أن حملت دُميةَ “جيري” بالأبيض والأسود ووضعت حقيبتَها الصفراء على كتفها. لكنها، وبعد أن كانت الأسرةُ تهرولُ في الزقاق العاري، أفلتتْ فجأةً من يدِ أمِّها وركضتْ إلى داخل البيت. تسلّقتْ على الكرسيِّ ومدت يدَها إلى عشِّ الدوريِّ في عندَ زاويةِ الشباك. حملتْ فرخاً واحداً ووضعتهُ في حقيبتِها. مدّتْ يدها إلى العشِّ لالتقاط بقية الفراخ. كانت ليلى تدندن:
وأنا أذكر ريتّا
مثلما يذكرُ عصفورٌ غديرَه
آهِ…ريتّا
بيننا مليونُ عصفور وصورة
ومواعيدُ كثيرة
أطلقت ناراً عليها بندقيّة (2)
كانت أمُّها وراءها، تولولُ.
ابتلعَ دويُّ الانفجار صوتَ الأم والطفلةِ وسقسقةً خافتة.
فتحوّلت ليلى إلى رقمٍ مختلفٍ عليه، بلا اسمٍ ولا نقشٍ على طينٍ، وبدون تاريخيْن.
إضاءتان:
1. قصيدة “عشُّ العصفورة” لحاييم نحمان بياليك.
2. من قصيدة “ريتّا” لمحمود درويش.

-7 شموئيل ومردخاي
كانت لديه بقايا من الحبرِ والورق، وروحٌ غاضبةٌ وأكثرُ من وسيلةٍ للموت على طريقةِ مسّادة. كتب، قبلَ أن يطيرَ فوقَ صمتِ البشرية إلى الصمتِ الصارخِ في الأبديّة:
“…بموتي أريدُ أن أعبرَ عن احتجاجي الشديد على وقوفِ العالم مكتوفَ الأيدي، حيثُ يراقبُ ويصمتُ، ويسمحُ بإبادة الشعب اليهودي.”(1)
لكنَّ القصفَ أيقظَه الآن. فعادَ اليوم وهبطَ على يَدِ إنليفيتش(2)، وتحتَ إبطِهِ رزمةٌ من الملصقاتِ المكتوبة بالبولندية، بخطّ اليد ورائحةِ الغاز. كانَ يبحثُ عن جدارٍ يعلِّقُ عليهِ كلاماً غيرَ مبتذلٍ:
“كلنا أخوةٌ متساوون: سمرٌ وسودٌ وصفرٌ وبيضٌ.
إن الفصلَ بين الناس، بين الألوان وبين الأعراق،
ما هو إلا خداع.”(3)
اتجهَ شموئيل إلى الجدران في “يدِ مردخاي”، فكانت كلّها محجوزةً، بنشيد زئيف جابوتنسكي(4):
“من أجلِ إنشاء عرقٍ عبقريٍّ وكريمٍ ومتوحشٍ”.
راحَ إلى تل أبيب لتعليقِ مُلصقِه على الجدران الإسمنتيةِ والزجاجية، فلاحقهُ ذوو القمصان السوداء في الشوارع، واتهموه باللا سامية.
راحَ إلى غزةَ، فلم يجدْ جداراً واحداً.
في اليوم الثامن والعشرين، عادَ إلى أنفاقِ غيتو وارسو، علَّق الملصقاتِ على جدرانِها، والتحقَ برفاقه.
يقالُ إنّ أحدَهم (5) كان يراقبُ، وهو جالسٌ في قلبِ لندنَ، ويشطبُ عنوانَ كتابِه.
بدلاً من 1984، سجَّلَ 2014.
وتركَ حيزاً للتغيير.
فمن يدري؟!

إضاءات:
1. هذا جزءٌ من الرسالة الأخيرة التي كتبها أحدُ قادة اليهود (شموئيل زيغلبويم)، في التمرُّد البطولي الشهير في غيتو وارسو ضدَّ الوحش النازي. وقد انتحرَ زيغلبويم بعد إنهاء رسالته، منضماً إلى رفاقه الذين سقطوا في المعركة، ليكون في قبرٍ واحدٍ معهم.
2. ميخائيل إنليفيتش هو قائدُ التمرُّد البطولي في غيتو واوسو ضد الوحش النازي، وقد أٰطلِقَ اسمه (مردخاي) على كيبوتس ياد مردخاي في منطقة غزة. وقد استمر التمرد 28 يوماً إلى أن قمعته القوات النازية، بحرق البيوت وإغراق الأنفاق والأقبية بالمياه والدخان والغازات السامة. لكنَّ التمردَ تحوّلَ إلى اسطورة وملهماً للتمرد على النازيين.
3. الملصق الذي علّقهُ أبطال تمرّد غيتو وارسو على الجدران.
4. زئيف جابوتنسكي هو الأبُ الروحي لحركة بيتار وحزب “حيروت”، الذي يشكل نواة حزب الليكود.
5. الكاتب الشهير جورج أورويل، صاحب الكتاب ذائع الصيت “1984״.

8 – نبيُّ الغضب
في بنايةٍ قديمةٍ، غيرَ بعيدٍ عن مخبزٍ عراقيٍّ تتوِّجُهُ لافتةٌ بالعبريّة، كانَ يتابعُ فيلماً لميريل ستريب، من تحتِ حاجبيهِ الكثَّين.
قالَ لي، حين استلقتْ نجمتُهُ المفضَّلة على الفراش، إن أخمصَيْها مُسودّان، بسبب تكرارِ المشهد. كان غاضباً على المُخرج، فأشاحَ بوجهه نحوَ تلَّةٍ من الكتبِ وحملَ جبينَه بكفِّهِ الواسعة.
ما زالَ قاطبَ الحاجبيْن كما كان على الدوام، كأنهُ وُلِدَ من صِدامٍ عنيفٍ بين والديْه وكأنّه ماتَ من صراعٍ مريرٍ معَ عبدةِ الأصنام. لم يَشِبِ الشعرُ الأسودُ الذي يكسو أذنيْه، بعدَ أن تساقطَ من رأسِه المتصحّرِ وتوقفَ في منتصفِ الطريق.
هو ميّتٌ منذُ أعوام، لكنّهُ استيقظَ على دويِّ المعركة وعادَ اليومَ لتفقُّدِ بيتِهِ الذي تحوّلَ إلى خِربةٍ في الطابق الأرضي، أو ربّما ليقنعَ نفسَهُ أن الروحَ أبقى مما يعتقدُ أصحابُ الأوسِمة. كانت الكتبُ تدعوهُ إلى نفضِ الغبارِ عنها، لكنَّهُ أسقطَ وجهَه وقطَعَ الهواءَ بسيفِ ذراعِه.
قال كلاماً جافياً ومبلولاً برذاذِ فمِهِ، المحاطِ بأُخدوديْن عميقيْن. مرّرَ سبابتَهُ تحتَ أنفِه النَّسريِّ فكسرَ زعيقاً كان يتأرجحُ، شهيقاً وزفيراً، على منخريْه.
مشى جنوباً، كما عهدناه، بظهرٍ محدودبٍ، كأنه يحملُ أطلساً على كتفيْه.
ومشى شِمالاً، بجلدٍِ فوقَ عظمٍ، مشيةَ شبحٍ.
ما زالَ نحيفاً، كأنّهُ ما زال يقتاتُ على القهوة السّادة وشرابِ الزنجبيل.
دارَ حولَ نفسِهِ، بسروالٍ فضفاضٍ وقميصٍ أبيضَ، واعتمرَ قبَّةً سوداءَ تمسكتْ بما تبقّى من شعْرٍ. ما زالَ يُقطِّعُ الكلماتِ إلى أنصافٍ وأرباعٍ وأخماسٍ، وينثرُ الشدّاتِ والبصاقَ على كلّ مقطعٍ.
جلسَ على كرسيِّ من قماشٍ مهترئٍ واتكأ رأسُهُ على راحةٍ متكئةٍ على كوعٍ متكئٍ على فخذٍ متكئٍ على أرضٍ متفسِّخة.
لم يتحركْ وجهُ الكرسيُّ ولا تجعّدَ القماش. فلا وزنَ للأشباح.
قال: إذهب يا بنيَّ، ودعني أرى فيلماً لنجمتي المفضلةِ، قبل أن تتحولَ الزوايا إلى بيوتٍ للعناكب.
خرجتُ من البابِ المفتوحِ على مصراعيْه إلى شارعٍ تغيّرَ كثيراً. في الجوار، وقفتْ عماراتٌ عملاقةٌ أخفتْ سقوفَ القرميد في الحيّ، وتحوّلَ المخبزُ العراقيُّ إلى مطعمٍ للهمبورغر. العماراتُ لا تنطحُ السحابَ وتكتفي بلعقِ نِعالِها.
غاب عني اسمُه، لكنني أذكرُهُ نبيّاً غاضباً.
وحين تقلّبتُ تحتَ سقفٍ كاملٍ، في بيتٍ ما زالَ واقفاً، استغرقتُ في حلمٍ جديدٍ.
كنتُ مستلقياً على سريرٍ.
لم ينكمش السريرُ ولا تجعّدَ قماشُه.
حلمتُ أنني متُّ عشرةَ آلافِ مرةٍ في شهرٍ واحد. نهضتُ.
وقفتُ أمامَ المرآة.
كانت المرآةُ خاليةً تماماً.

إضاءة:
1. في التراث اليهودي، هنالك تمييز جوهريٌّ بين أنبياء الخداع الدجّالين وبين أنبياء الغضب، الذين كانوا يواجهون الشعبَ بالحقيقة.

بقلم –  فريد قاسم غانم
fredqasem

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة