عودة إلى النقد الموضوعي

تاريخ النشر: 21/05/14 | 8:47

كنت قد تطرقت، في مقال سابق، إلى أننا كثيرًا ما نحكم على العمل الأدبي مرتبطًا ارتباطًا وثيقـًا بالحكم على صاحبه. وقد أشرت إلى تجربة ريتشاردز في كتابه النقد العملي، حيث خلص إلى أن الحكم على العمل الأدبي يجب أن يكون بمعزل عن شهرة صاحبه أو مغموريته.

وكانت قصيدة (الإبرة)، التي أثبتـّها في تلك المقالة، مدار نقاش بين أساتذة ومحاضرين، فبعضهم اعتبر أنني ألّفتها (فبركتها)، وخرج باستنتاج مختصره أن هذه القصيدة هراء، ومن قائل إن هذه القصيدة اجتزأتها من قصة طويلة، وهي بالتالي تقع ضمن السلبي، ومن قائل إن هي إلا كلام نثري باهت، ومن رافض أن يتحدث عنها لأنها ليست قصيدة أصلاً.
ولم أحصل على إجابة واضحة تشفع لصاحب القصيدة سعدي يوسف بالجودة، رغم أن الشاعر معروف، ويعتبره هؤلاء الأشخاص بالذات أنه في طليعة الشعراء العرب المحدثين.

غير أن الأمانة تقتضي أن أذكر بعض ما كتبه د. ياسين كتانة من المهتمين بالأدب، وهو باحث ولغوي، وذلك بسبب جدية التناول:
“… لا أجد نص (الإبرة)، يتعدى أرق إنسان يجدّ في البحث عن مصدر ضجة تتسلل إلى أذنيه، فيسارع إلى نفي أسباب الضجة الممكنة، فالشباك غير مفتوح، والمذياع مقفل، والحنفية محكمة الإغلاق. وتتوالى (لا) التي تطرد في نفي الاحتمالات المتعددة لمبعث الضجة، وتتوالى النقاط…. الفرج آت. لقد وقع على حل اللغز، إنه الليل الثقيل، تتسلل وطأة همومه تسللاً دقيقـًا خفيـًا وموجعـًا كموقع رأس الإبرة، إذن فقد عرف وأيقن، فاكتفى وكفَّ عن التساؤل.
الكاتب اختزل تجربة امرئ القيس مع الليل مع تحويل التيمة، فإذا كانت هموم الليل تجتاح امرأ القيس كموج البحر، فإنها عند صاحبنا تتسلل إلى أذنيه كما تنفذ الإبر والكلمات (وسدني الصخر)، (بطيء)، (مرهف) تقودنا إلى مقاليد نفسيته.
غير أنني أنكر على من يحمل هذه الهموم أن يقوى على التفكير المنطقي المرتب والمتسلسل في القسم الأول من النص. وقد جسد هذا الترتيب ذلك التدرج من الخارج (المفترق، الشباك، الباب) إلى الداخل بتعداد محتويات الغرفة بالترتيب من أكثرها ضجة (المذياع) إلى قطرة في المغسل إلى أقلها (رفة في آنية الزهر…….. الخ).
وإذا كانت هذه التعددية (النثرية) الطويلة تخدم المفاجأة السريعة المقتضبة والمكثفة في القسم الثاني على المستوى الشكلي، إلا أنها تثبت في الوقت نفسه أن الكاتب يعوزه الإلمام بخفايا النفس البشرية والقلق الإنساني، فالذي يتوسد الصخر لا يقوى على هدوء التفكير المنطقي، وبهذه النقلة الجادة خلق مفارقة بين المقدمات والنتيجة.
*** *** ***
وإذا كان هذا التمرين الذهني يقع في دائرة الشعر فإن تجربة مسابقة مجلة (اليوم السابع) تفيدنا في هذا المجال. فقد شاركت في المسابقة (1518) قصة قصيرة، وكانت القصص تقدم بأسماء مستعارة، وتبين بعد إعلان النتائج كما يوضح إبراهيم العريس (اليوم السابع عدد 90/ 1/ 29) كون أربعة وستين مشاركـًا معروفة أسماؤهم في شتى مجالات- الأدب والفن والصحافة وغيرها. والمفاجأة أن معظم القصص التي فازت أو تم التنويه بها أو وصلت إلى التصفية الأخيرة لا تحمل تواقيع معروفة. ولا بد من الإشارة إلى أن عشرات النقاد اشتركوا في عملية الفرز…حتى كان الحكم النهائي للجنة ممن لا يشك بأمانتهم وجديتهم.
لماذا أطرح الموضوع؟
…………………………..
أطرحه لأقول ثانية إننا إذا جردنا العمل الأدبي من اسم صاحبه (اللامع أو المغمور) فإننا نتعامل ومقاييس حذرة ورؤية أعمق، الأمر الذي يستلزمنا أن ننقب ونجدّ، وأن نقرأ لمن يعرفون في الميدان الذي نجول فيه ونصول، نتعلم منهم حتى لا نهرف بما لا نعرف.
أقول (نتعلم) لأن التواضع أمام الذي يعرف هو سمة الباحث- الباحث الجاد عن العلم والمعرفة، والبعيد عن المهاترة ودس الأنف…..
ورحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده.
* * * *
…………………………………………
إضافة: هذه المادة نشرت سابقًا في صحيفة (الاتحاد)، والتعليقات على النص كانت تصل إلي بطرق مختلفة، وهي غير التعليقات التي ظهرت في أعقاب مقالتي في صفحتي هنا، وقد نشرتها قبل أيام قليلة(في 17 أيار الحالي).
لكن من أجمل التعليقات في الفيسبوك ما كتبه الأستاذ الباحث لطفي فران، وإليكم هذه القراءة الذكية للنص، أو للسرد النثري كما سماه:

“استهوتني الفكرة واعجبت بطرحها، هي ليست بتجربة ولكنهالاكتشاف مقدرة تقويم ما نقرأ، لقد وجدت في النص السكون والضجر، وما الطنين كوخز الأبر في الأذن سوى صداع من ماض مؤلم، نص فيه مغزى وله تأثير ونصيحة، نقطة الماء في المغطس هدر و تكرار ضجيج، وإغلاق الشباك كي لا يسمع رتابة ما يقال، والمذياع مقفل لأنه اجترار وإعادة وأخبار أليمة موجعة، القائل يريد أن يخلد إلى السكينة والتفكير ويبتعد عن كل ما يتسرب إليه من هواء وهراء، يريد أن يُعمل لإيقاف الألم وينتظر بزوغ النهار بما يجدي ويحقق الأمل المنشود، لأن ليله طويل متعسر المخاض أوصله إلى الضجر والإحباط، يريد أن يبتعد عن الزبد الذي يذهب هباءً، ويتوخى ما ينفع الأرض، مع تحياتي واحترامي على أمل أن أحظى منكم بتقويم ما توصلت إليه من فهمي للنص؟
*** *** ***
ومع هذه القراءة الذكية لا يرى صاحبنا أن النص هو قصيدة، وقد كتب لي ذلك في رسالة خاصة.
……………………………………………………..
*نشر المقال هنا بتصرف من كتابي (أدبيات). القدس- 1991، ص 52- 55.

أ. د فاروق مواسي

faroq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة