صباحات القدس.. قصيدة فجر وأسرار روح

صباح بشير

تاريخ النشر: 12/06/25 | 12:21

مع أوّل خيط ذهبيّ نسجه صباح هذا اليوم في سماء القدس، شعرت بالمدينة تستيقظ على همسات قديمة، كأنّها صلوات سرمديّة تلامس الرّوح، إذ ينهض الصّباح فيها متوشّحا بعبق التّاريخ وأريج البلسم، فيمتزج نداء المآذن بأصوات أجراس الكنائس مع زقزقة العصافير الّتي تتراقص على غصون أشجار الزّيتون المعمّرة أمام البيوت.
تتنفّس القدس صباحها بعمق، فيفوح من أزقّتها رائحة الخبز السّاخن، وزيت الزيتون البكر، وحبّات التّوابل الّتي تطحن ببطء، لتبعث في النّفس انتعاشا يشبه نسيما عليلا يحمل معه عبق الزّعتر البريّ، وتتسلّل إلى الوجود رائحة القهوة الّتي تنسج خيوطها في أرجاء المكان كلّه، كأنّها عطر أزليّ يوقظ الحواسّ ويبعثر الهموم، كقصيدة عطريّة ترتّلها حبّات البنّ المحمّصة، لتعانق نسمات النّهار، وتعلن بداية يوم بعبق جديد، يمتزج فيه الدّفء بالحياة والأمل، فتغدو كلّ زاوية وكلّ ركن، مسرحا لهذا العطر الّذي يأسر القلوب وينعش الأرواح، فكلّ حجر في المدينة يروي حكاية، وكلّ زاوية تخبئ سرّا.
أمّا نكهة الكعك المقدسيّ فهي حكاية بحدّ ذاتها، تختزل عبق المكان وروحه، فهو يُعجَن بحبّ الأرض ويخبز بلون القمح.
هو رفيق الجلسات الصباحيّة، حيث يختلط عبيره الزّكيّ بضحكات الأهل ودفء الأحاديث، هو جزء لا يتجزّأ من طقوس الحياة المقدسيّة، ورسالة محبّة تقدّم من قلب المدينة إلى كلّ من يتوق إلى طعم الأصالة.
في الصّباح الباكر، تتجلّى هذه الأسرار كلوحات فنّيّة، رسمتها أيادٍ خفيّة على مرّ العصور.
ترى الباعة يتأهّبون، وتسمع ضحكات الأطفال وهي تتناثر في الهواء كأنّها حبّات لؤلؤ.
وما إن اكتمل ضوء الصّباح حتّى وجدت نفسي أسير في أزقّة القدس، لا تائهة بل مفتونة بكلّ تفصيلة تحت نور شمسها المشعّة.
هي ليست أشعّة شمس تلوح في الأفق، بل هي قناديل نور توقد في دروب القلب، تضيء الأزقّة الحجريّة العتيقة، وتقبّل جدرانها الّتي شهدت قصصا لا تحصى من الصّمود والعشق.
توقّفت عند زاوية مهملة، حيث تتدلّى أغصان شجرة تين عتيقة، نضجت قبل أوانها، فحمَلَت ثمارا بنفسجيّة ناضجة، لم يمدّ إليها أحد يده، قطفت ثلاث حبّات تين بحذر، وحملتها بين كفّيّ كأنّها جواهر نادرة، وأكملت طريقي نحو السّوق القديم، وهناك.. جلست بجوار رجل عجوز يبيع الأزهار ، وجهه محفور بتجاعيد الزّمن، قدّمت له حبّة تين مبتسمة، فأشرَقت أساريره بابتسامة تشبه نور المكان، وأهداني غصنا من ياسمين فوّاح.
ثمّ واصلت طريقي، لأجد طفلين يلعبان بجوار الطّريق، أحدهما فقد كُرَته الصّغيرة، فأعطيت كلّ واحد منهما حبّة تين، وأخبرتهما أنّهما سحر يجلب الفرح.
تفتّحت عيناهما بالبهجة، وتعالت ضحكاتهما البريئة الّتي غمرت المكان بالجمال.
بعد ذلك، توجّهت إلى مقهى أنيق؛ لأحتسي فنجانا من القهوة السّاخنة المعتّقة بالهيل، وأنا أتأمّل جمال الشّوارع وأصوات المارّة.
هذه الأشياء البسيطة الّتي شاركتكم بها، أشعلت في نفسي جذوة الفرح، وجعلت هذا الصّباح بداية ليوم جديد بهيج، فهذه المدينة تحتضن في قلبها أرواحا تعلّقت بها، وتشتاق إلى ترابها.
شعرت أنّ هذا النّهار زاخر بالرّوحانيّة، حيث يعانق فيه المكان أبديّة الزّمان، ليعلن للعالم أنّ فيه من السّحر ما لا يمحوه ليل ولا يدركه وصف، ففي كلّ ومضة فجر، تعيد القدس اكتشاف ذاتها ببهجة، وتلقي على محبّيها تحيّة من نور وسكينة، وكأنّها تهمس وتقول: ها أنا ذا، أشرق من جديد، ومعي قصص لم تُروَ بعد، وأمل لا ينتهي.
وتظلّ في توق دائم لسلام يعانق قبابها، وهدوء ينساب بين أزقّتها، لتشفى جراحها وتزهر فيها الحياة بصفاء أبديّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة