ما هي الحقيقة من منظور جدلي؟

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 14/05/25 | 21:40

الناس يختلفون بشكل كبير حول مفهوم “الحقيقة”. فبعضهم لا يعترف إلّا بما يُسمى “حقائق نسبية”، أي تلك التي تتغير بتغير الزمان والمكان والسياق، بينما يرى آخرون أنَّ الحقيقة لا تستحق هذا الوصف إلّا إذا كانت “مطلقة” وثابتة لا تتغير.

ومن بين هؤلاء، هناك من يذهب إلى أقصى درجات الإنكار لفكرة “الحقيقة المطلقة”، فيقول في تناقض واضح إنَّ “الحقيقة المطلقة الوحيدة” هي أنه “لا توجد حقيقة مطلقة”، وأنَّ كل الحقائق نسبية بطبيعتها.

لكن الواقع أنَّ كلاً من “الحقيقة النسبية” و”الحقيقة المطلقة” قد فُهِمتا بشكل خاطئ. وأرى أنَّ سبب هذا الخلل يعود إلى ضعف في طريقة التفكير الجدلية لدينا، أي ضعف في القدرة على فهم العلاقة بين الأضداد وتفاعلها.

فغالباً ما نميل إلى فهم العلاقة بين المتناقضات بشكل ميتافيزيقي جامد. وكنتيجة لذلك، يُخلط بين “النسبية” و”الذاتية”، فيُظن أنَّ كل ما هو نسبي بالضرورة خالٍ من الموضوعية. لكن هذا خطأ كبير؛ لأنَّ “الموضوعية” هي في الحقيقة الأساس الذي تقوم عليه الحقائق النسبية، وليست نقيضاً لها.

من أفضل الأمثلة التي توضح مفهوم “نسبية الحقيقة الموضوعية”، هو المثال التالي:

تخيل شخصين جالسين على طاولة، كل منهما في مواجهة الآخر، وعلى الطاولة دلة قهوة وفنجان . سُئل كل منهما: “أيُّهما موضوع يسار الآخر؟”

أجاب الأول: “الفنجان موضوع على يسار الدلة “. بينما قال الثاني: “الفنجان موضوع على يمين الدلة “. والسؤال الآن: أي منهما قال الحقيقة؟

الجواب: كلاهما قال الحقيقة. ذلك لأن الحقيقة هنا نسبية، وليست مطلقة. كل واحد منهما ينظر إلى الأشياء من زاويته، ومن موقعه الخاص، فرأى ما رآه بشكل صحيح ومنطقي. وبالتالي، لم يخطئ أيٌّ منهما.

هذا المثال، رغم بساطته الظاهرة، يحمل معنى عميقاً. إنه يدعونا إلى التفكير بجدية، وبأسلوب مختلف، في الطريقة التي نفهم بها الحقيقة.

لكن هذا الطرح قد يبدو غير مريح أو غير مقبول لدى الكثيرين ممّن اعتادوا النظر إلى الحقيقة بمنظور ميتافيزيقي جامد، يقوم على مبدأ “إما هذا أو ذاك”، وكأن لا مكان للتعدد أو التعارض.

من يتبنى هذا التفكير سيعترض، وربما يسخر، قائلاً: كيف يمكن أن يكون الفنجان في آنٍ واحد على يسار ويمين الدلة ؟! أليس هذا تناقضا يهدم فكرة الحقيقة من أساسها؟

لكن الواقع نفسه يردّ على هذا الاعتراض. “الواقع الموضوعي” يقول: نعم، يمكن أن يكون الفنجان على يسار الدلة من وجهة نظر شخص، وعلى يمين الدلة من وجهة نظر آخر. وهذه هي الحقيقة كما هي في الواقع، بموضوعيته وتعدده.

هل يستطيع شخص ثالث أن يقرّر بشكل قاطع ومطلق من منهما على حق؟ بالطبع لا، لأن الحقيقة هنا ليست أحادية أو نهائية.

المسألة ليست أن أحد الشخصين يريد أن يكون على خلاف مع الآخر، أو أنهما يفتعلان التناقض، بل كل منهما استخدم ما لديه من أدوات للرؤية والفهم والتقييم، وتوصّل إلى نتيجة صحيحة من وجهة نظره.

في المثال السابق، الذي بدا بسيطا في ظاهره، لمسنا بوضوح مفهوم نسبية الحقيقة، لكننا في الوقت نفسه اقتربنا من فكرة ما يمكن اعتباره المطلق داخل هذه النسبية.

لقد رأينا شخصا يقول إنَّ الفنجان موضوع على يسار الدلة ، وآخر يقول إنه موضوع على يمينها . هاتان الرؤيتان المتباينتان تكشفان عن “النسبية الموضوعية” للحقيقة، حيث لكل شخص منظوره الخاص الذي يراه صادقا بناءً على موقعه.

لكن، إذا تأملنا أكثر، نجد أن هناك حقيقة ثالثة، أعمق وأشمل، وهي أن الفنجان، من منظور كلي، هو في الوقت نفسه على يسار ويمين الدلة. هذه الحقيقة تُبرز تناقضا ظاهريا (يسار ويمين في وقت واحد)، لكنها تعبر في الحقيقة عن شكلٍ من المطلق داخل النسبي.
وهنا نصل إلى فكرة مهمة:
إن وجود التناقض في الأشياء ليس أمرا عابرا، بل هو في حد ذاته حقيقة مطلقة.
لكن لا يعني هذا أنها الحقيقة المطلقة الوحيدة؛ بل إن كل حقيقة نسبية تحمل في طيّاتها بعدا مطلقا، كما في العلاقة بين “اليمين واليسار ” في مثال الدلة والفنجان.

بمعنى آخر، الحقيقة قد تكون نسبية ومطلقة في آنٍ معا، بحسب زاوية النظر وعمق الفهم. هذا لا ينفي وجود حقائق يتفق عليها الجميع، مثل أن الدلة والفنجان موجودان على الطاولة، أو أن الدلة فارغة أو ممتلئة؛ هذه حقائق لا خلاف حولها، وتُعَدّ من المطلقات في سياقها.

هذا المفهوم يمتد أيضا إلى نظريات كبرى مثل النسبية الخاصة والعامة لأينشتاين. فمع أنهما نظريتان تقومان على النسبية، فإن فيهما عناصر مطلقة أيضا.
لكن بعض المفكرين، وخصوصا من يتبنون المنهج الجدلي، يرفضون فهم النسبية على أنها نفي تام للمطلق. فالنسبية لا تلغي المطلق، بل تحتويه بطريقة مختلفة، أعمق وأدق.

ولكي نفهم هذا بشكل أفضل، علينا أن نُدرك أن المراقب (أي الإنسان أو الباحث أو الراصد) لا يمكن أن يكون مستقلا تماما عن إطاره المرجعي.
فكل مراقب يرى العالم من داخل منظومة معينة (إطار مرجعي)، وهذه المنظومة تؤثر في رؤيته وفهمه. وإذا تغيّر هذا الإطار، تغيّرت معه رؤية المراقب. وحتى إن خرج من إطار معين، فإنه لا يستطيع البقاء دون إطار، بل سينتقل حتما إلى إطار مرجعي آخر.

بالتالي، لا وجود لمراقب محايد تماما أو منفصل عن أي إطار؛ فلا يوجد فراغ فكري أو “منطقة حيادية” بين الإطارات المرجعية. ومن هنا نفهم لماذا تختلف الرؤى، ولماذا يكون لكل حقيقة نسبية ظلٌّ مطلق يمكن إدراكه إذا نظرنا إليها بعمق.

في داخل إطارك المرجعي أي السياق الذي ترى وتفهم فيه العالم من حولك قد يتغيّر كل شيء من الناحية الفيزيائية (السرعة، الجاذبية، الزمن، المسافة)، لكن من منظورك الشخصي، لا تشعر بأي تغيّر.
كل الأحداث من حولك تحدث كما اعتدت، وفي الزمن الذي تعوّدت عليه، وتبدو الأمور كما هي دائما.
كأنك في قلب الثبات، رغم أن كل ما حولك في تغير مستمر.
وهنا يكمن ما يمكن أن نسميه “المطلق داخل النسبي”.

إطارك المرجعي يتغير باستمرار بفعل الحركة أو بسبب تأثير الجاذبية ويتغيّر معه الزمن (أي سرعة جريانه)، وكذلك تتغير المسافة (وحدة القياس، مثل “المتر”).
لكنّك لا تلاحظ هذا التغيّر ما دمت داخل هذا الإطار؛ كل شيء يبدو طبيعيا بالنسبة لك.

من يرى هذا التغيّر؟
فقط المراقب الخارجي، الذي ينتمي إلى إطار مرجعي مختلف عنك.
هو من يستطيع أن يلاحظ الفروقات:
يرى أن الثانية لديك تُعادل ساعات أو حتى سنوات من زمنه،
وأن نبض قلبك أصبح بطيئا لدرجة أنك لا تسجّل أكثر من 75 نبضة في السنة،
وأن عمرك، من منظوره، قد امتد إلى ألف سنة،
وأن طول غرفتك قد تقلّص،
وأن كل ما يحدث عندك يستغرق وقتا أطول بكثير مما يبدو عليه من منظورك.

أنت من داخل إطارك المرجعي ترى الأمور ثابتة، وترى المطلق داخل نسبيتك؛
بينما المراقب الخارجي يرى النسبي يتجلّى بوضوح عند النظر إلى حالتك من خارج إطارك.

عندما نناقش مسألة “الحقيقة”، لا بد أن نُدرك أن التجربة العملية لها دور حاسم.
من خلال التجربة تعلّم الإنسان أمراً جوهريا: أنه لا يستطيع تنفيذ ما يشاء لمجرد أنه يشاء.
فثمة قوانين موضوعية تحكم العالم، وعلى الإنسان أن يطابق أفكاره معها كي يكون فعله ناجحا وفعالا.

في سعيه نحو المعرفة، يهدف الإنسان إلى الوصول إلى الحقيقة، أي إلى فهم منسجم مع الواقع، يمكن التحقق منه بالتجربة العملية.
وللوصول إلى هذه الحقيقة، لا بد من منهج واضح، يُثبت بالتجربة أنه يؤدي إلى نتائج صحيحة.
هذا المنهج هو ما اتفقت التقاليد الفلسفية على تسميته بـالمنطق،
الذي تطور عبر العصور ليشمل قواعد ومبادئ تُرشد إلى التفكير السليم، والاستنتاج الصحيح.
حتى يكون الفكر أداة فعالة في الوصول إلى الحقيقة، عليه أن يلتزم بقواعد ومبادئ المنطق، ويخضع لها بدقة. فالتفكير العشوائي لا يقود إلى المعرفة، بل إلى التيه والفشل .

لكن، من أين جاءت هذه القواعد المنطقية التي نطالب الفكر باتباعها؟
لم تُولد في الذهن من فراغ، ولم تأتِ بوحيٍ غامض، بل نشأت من تجربة الإنسان العملية، من صراعه الطويل مع الواقع والطبيعة.

لقد كان الإنسان مضطرا إلى أن يُفكر بطريقة منظمة، لأن نجاحه أو فشله في التعامل مع العالم الخارجي هو الذي علّمه المنطق.
فالمنطق لم يُصغ كمجموعة قواعد نظرية أولاً، بل كان نتاجا حياً لتجربة البقاء، فـالتفكير المنطقي كان ولا يزال شرطًاً من شروط البقاء الإنساني.

وقد عبّر الفيلسوف هيجل عن جانب مهم من هذه الفكرة حين قال إن كل ما هو حقيقي أو واقعي يجب أن يكون عقلانيا، أي متوافقا مع مبادئ العقل والمنطق.
لكن، في تطور الأشياء، قد يتحول هذا الواقع العقلاني نفسه إلى واقع غير عقلاني مع مرور الزمن، لأنه يفقد انسجامه مع الشروط الجديدة للواقع والعقل.
بمعنى آخر:
ما هو عقلاني اليوم قد يصبح غير عقلاني غدا، لأن الواقع نفسه لا يتوقف عن التغير.
وبالتالي، فـالحقيقة ليست شيئا ثابتا جامدا، بل هي مفهوم متغير، يتطور مع تطور الفكر والتجربة والواقع.

حين نتأمّل مسار تطوّر المعرفة البشرية، نكتشف أن كل توسّع أو تعمّق في فهم موضوع معين لا يقود إلى الاكتفاء، بل يُولِّد مزيدا من الأسئلة. فكل إجابة تفتح أبوابا جديدة من التساؤلات، بعضها قد يصعب، أو يستحيل، الإجابة عنه في الوقت الراهن.

وهكذا يظهر نوع جديد من الجهل، ليس جهل الجاهل، بل جهل العالِم ذلك الذي يعرف الكثير، لكنه يُدرك في الوقت نفسه كم لا يزال يجهله.
المعرفة إذن ليست نفيا للجهل تماما، بل هي انتقال من جهل قديم إلى جهل جديد، أرقى وأعمق.

لا وجود لمعرفة “نقيّة” خالية من الجهل، كما لا وجود لجهل “خالص” لا تشوبه معرفة. فهما يتداخلان دوما، وبهذا التداخل تنمو المعرفة وتتطوّر.
وإن وُجدت حقيقة مطلقة، فإن ما يمكن للبشر إدراكه منها يرتفع باستمرار، دون أن يبلغ يوما حدا نهائيا، لأن مثل هذا الحد غير موجود من الأساس.

ثم نأتي إلى سؤال جوهري يُلازم الإنسان منذ بدايات وعيه:

“ما السبب الحقيقي لهذا الشيء؟ لهذه الظاهرة؟ لهذا الألم؟”

مهما اختلفت مصالح الناس وأهدافهم، لا بد لهم من طرح هذا السؤال. فالبحث عن تفسير موضوعي ضرورة، ليس فقط للعلم، بل لكل فعل ناجح حتى لو كان القائم به شيطانا، فبدون فهم السبب، لا يتحقق أي إنجاز.

لكن بعد الوصول إلى هذا التفسير الموضوعي، يتوقف التعامل معه على المصلحة:

إن كانت تخدم مصلحة جهة ما، تُنشر وتُبرز وتُروّج.

وإن كانت تُعارض مصالحها، تُحجب، تُشوَّه، أو تُخفى بوسائل متعددة، فكرية وإعلامية.

وحين يُعجَز الإنسان عن فهم أسباب ما يصيبه من أزمات، أو يُمنَع من فهمها بفعل قوى مسيطرة، يصبح من السهل إقناعه بأن ما يحدث له هو “قَدَر”، وأنه لا مفر منه.

في مثل هذا المناخ، تظهر مصالح فئوية ضيقة، تدفع أصحابها (ومَن في خدمتهم من المثقفين والمفكرين) إلى نشر الجهل المنظَّم، أو ما يمكن تسميته بـ “صناعة العجز المعرفي”.
هدفهم أن تظل الجماهير تقبل بالواقع دون تفسير، فتعتبر أن “اللا تفسير” هو التفسير، وأن “ما يحدث” هو ما يجب أن يحدث، وكفى.

الطبيعة ليست صانعا يُنتج أشياء مكتملة ونهائية، بل هي أشبه بورشة لا تتوقف أبدا عن العمل.
كل ما تخلقه الطبيعة يظل دائما قيد التشكُّل والتطوّر، أي أنه لا يصل أبدا إلى حالة “الاكتمال التام”.
لا وجود في الطبيعة لشيء “نهائي” أو “تام الصنع”، وكل ما فيها في حالة حركة وتحوّل دائم.

لكننا، في كثير من الأحيان، نتجاهل هذه الحقيقة الجوهرية، ونتعامل مع الأشياء وكأنها ثابتة ومكتملة.
وهذا ما يُعرف بـ الفهم الميتافيزيقي، أي أن ننظر إلى الكائنات والأشياء على أنها لا تتغير، وكأنها خُلِقت كاملة ومحدّدة في جوهرها منذ البداية.

مثلًا، عندما ننظر إلى قطٍّ في لحظته الراهنة، ونفترض أنه هو نفسه في ماضيه وسيظل كذلك في مستقبله، فإننا نقع في فخ هذا الفهم الميتافيزيقي.
لكن الواقع مختلف تماماً.

هذا القط الذي نراه الآن لم يكن دائما كما هو، ولن يبقى كذلك.
ولكي نفهمه حقا، علينا أن نطرح سؤالا جوهريا:
كيف كان هذا الكائن قبل ملايين السنين؟

حين نتصور الأشياء على أنها “نهائية”، فإننا نراها كأنها كيانات منفصلة تماما عن بعضها البعض، بلا صلات أو علاقات. وهذا تصور خاطئ.
فالواقع أن كل شيء هو نتيجة لتفاعلات مستمرة مع بيئته.
ولا يمكننا فهم أي شيء فهما حقيقيا إذا فصلناه تماما عن الوسط الذي ينتمي إليه ويتأثر به.

ببساطة:

لا وجود لشيء مستقل بذاته تماما، وكل كائن أو ظاهرة هو جزء من شبكة علاقات وتفاعلات تشكّله وتعيد تشكيله باستمرار.

في الفهم الميتافيزيقي، ننظر إلى الأشياء وكأنها مستقلة تماما عن بيئتها.
فنعتقد أن ماهية الشيء وصفاته الجوهرية تبقى ثابتة، حتى لو تغيّرت الظروف المحيطة به تغيّرا كاملا.
وفق هذا التصور، نظن أن الشيء يظل “هو هو”، لا يتغير، مهما تغيرت بيئته.

ومع أن هذا الفهم يحمل تبسيطا مفرطا، إلا أننا نحتاج إليه في بدايات البحث العلمي.
فلا يمكن دراسة تحوّل شيء ما أو تطوّره قبل أن نُحدد أولا ما هو هذا الشيء؟، أي نعرّفه ونُعين خصائصه.
بعبارة أخرى: لا يمكن تتبّع التغير دون أن نبدأ من نقطة مرجعية واضحة.

لنفترض مثلا أن هناك طفلا يُدعى عمر.
أنت تلتقط له صورة الآن، ثم تأتي بها وتقول: “هذا هو عمر”.
في هذه اللحظة، الصورة صادقة، لأنها تطابق الواقع تقريبا.
لكن، بعد مرور عشر سنوات، هل ستظل هذه الصورة تمثّل عمر كما هو فعلاً؟ بالتأكيد لا.
فعمر تغيّر كثيرا: في شكله، وحجمه، وربما حتى في ملامحه الأساسية.
إذن، الصورة لم تعد دقيقة، رغم أنها لم تكن “خاطئة” في لحظتها الأولى.

بل إننا أحيانا لا نلتقط صورة كاملة، بل جزئية صورة جانبية، أو نصفية مثلاً.
ومثلما لا تُظهر هذه الصور الجزئية كل ما في الطفل عمر،

فإن كثيرا من المفاهيم التي نحملها في أذهاننا هي أيضا صور جزئية للواقع، نحتاج إلى إعادة النظر فيها وتقييم مدى دقتها.

وهكذا، علينا أن نتعامل مع المفاهيم والأفكار كما نتعامل مع الصور:
نعرف أنها لحظات ثابتة من شيء متغيّر، وأن قيمتها تتحدد بمدى قربها من الواقع الذي لا يتوقف عن التحوّل.
المفهوم يرتبط بـ “ماضي” الشيء أو بعض جزئياته أكثر من ارتباطه بـ “حاضره”. وهذا هو السبب في ضرورة تطوير المفاهيم باستمرار لكي تتلاءم بشكل أفضل مع الواقع الحالي للشيء. فالمفهوم يشبه صورة فوتوغرافية تم التقاطها لطفل أصبح الآن شاباَ. بالرغم من أن الصورة قد تكون دقيقة في لحظة التقاطها، إلا أنها لا تمثل الواقع الحالي للطفل، بل تُظهره كما كان في الماضي.

من خلال العمل والتجربة العملية، يتوسع باستمرار نطاق المصدر المادي للأحاسيس البشرية. ويعتبر المفهوم وسيلة لرؤية ما لا تستطيع العين رؤيته، فهو بمثابة “عين العقل” التي تساعدنا على رؤية ما وراء الظواهر الظاهرة التي نراها بعيننا.
بذلك، يصبح المفهوم أداة لتثقيف حواسنا، فهو ليس مجرد فكرة جامدة، بل وسيلة لفهم الواقع بعمق أكبر.

المعرفة ليست مجرد جمع معلومات، بل هي وحدة وصراع بين الإحساس و المفهوم. الإحساس يولد المفهوم، ومن خلال المفهوم، يتطور الإحساس. على سبيل المثال، قد ترى الشمس بعينك، ولكن من خلال مفهوم الشمس، تستطيع أن ترى الشمس بشكل أعمق، أي أنك تكتسب رؤية أوسع وأكثر فهما لما تراه.

المفهوم هو بمثابة عين ثالثة، حاسة جديدة للرؤية، تساعد الإنسان على فهم ما تراه العين بشكل أعمق. هو “العام” الذي يُستخلص من “الخاص”، ما تراه العين العادية، بينما يرى عين العقل تلك الأبعاد الأوسع التي لا تظهر مباشرة.

أما في ما يخص النظريات، فهي تبدأ عادةً من ظاهرة حقيقية يمكن إدراكها حسيًا، مثل الظواهر الطبيعية. لكن البشر، رغم قدرتهم على إدراك الظواهر، غالبا ما يصعب عليهم تفسيرها وفهم الأسباب وراء حدوثها. لذلك، يبدأ التفكير في افتراض تفسيرات أو تخيلات لتفسير تلك الظواهر، وهذه الافتراضات يجب أن تُختبر وتجرب بشكل علمي. النتائج الناتجة عن الاختبارات هي التي تحدد إذا كانت الفرضيات تتوافق مع الحقيقة الموضوعية.

مثال واضح على ذلك هو تفاحة نيوتن الشهيرة. الكثير من الناس شاهدوا نفس الظاهرة: تفاحة سقطت من الشجرة إلى الأرض. لكن نيوتن، الذي انفرد بالسؤال “لماذا سقطت هذه التفاحة إلى أسفل ولم ترتفع إلى أعلى؟”، بدأ بالتفكير في السبب الكامن وراء ذلك، مما أدى إلى اكتشافه لقوانين الجاذبية.

لا شك في أن “الظاهرة” هي حقيقة لا يمكن إنكارها؛ فحدوثها أمر ثابت لا يستطيع أحد إنكاره. لكن التفسير لهذه الظاهرة كان أمرا صعبا ومعقدا. لذا، افترض نيوتن، مستخدما مخيلته، وجود قوة ما في سطح الأرض أو في مركزها تجذب إليها التُّفاحة، مما يفسر سقوطها.

إذا كانت نفس الظاهرة قد أثارت اهتمام القدماء، وخاصة أولئك الذين يميلون إلى التفسير الروحاني للظواهر الطبيعية، لربما كان أحدهم سيجيب على السؤال بأن هناك “قوة روحانية” هي التي تتسبب في سقوط التُّفاحة إلى الأرض. وكان هذا النوع من التفسير الروحاني سيستمر في السيطرة حتى يتم اكتشاف السبب الطبيعي لهذه الظاهرة من خلال العلم.

سؤال “لماذا”، وبشكل خاص عندما يتصاعد، هو سؤال العلم، لأنه يسعى إلى الفهم والتفسير. للوصول إلى الإجابة الصحيحة، يحتاج الإنسان إلى أن يستند إلى المخيلة في البداية، فـالمنطق الممزوج بالخيال هو الذي ينتج أهم النظريات العلمية.

لإيضاح أهمية هذا النوع من الأسئلة التصاعدية، إليك المثال التالي:
سأل أحد الفلاسفة مريضا: “لماذا تتناول الدواء؟” فأجاب المريض: “لكي أشفى”. فتابع الفيلسوف: “ولماذا تريد الشفاء؟” فأجاب المريض: “لكي أسعد في حياتي”. فسأله الفيلسوف مجددا: “ولماذا تسعى إلى السعادة؟”، لكن هذه المرة استعصى الجواب على المريض وأصبح السؤال محيرا.

لو سُئلت “لماذا تدور الأرض حول الشمس بدلاً من أن تدور الشمس حول الأرض؟”، لربما شعرت بعبء وثقل السؤال.

أما المعرفة الكاملة لأي شيء فهي أمر مستحيل؛ حتى أصغر الأمور لا يمكننا استنفاد معرفتها بالكامل. مهما حاولنا، ستظل هناك جوانب وأبعاد لا يمكننا معرفتها بشكل كامل.

لماذا؟
كل معرفة جديدة في مجال معين تؤدي بالضرورة إلى ظهور نوع من الجهل الجديد في نفس المجال. يمكننا تشبيه هذا الجهل الجديد بـفراغ أو ثقب موجود داخل المعرفة الجديدة.

إن هذا الفراغ المعرفي كان يثير تساؤلاتي، فتساءلت: “هل هذا الفراغ ناتج عن السؤال أم عن الجواب؟” فكّروا معي جيداً في هذا السؤال.

وبعد تفكير طويل، توصلت إلى الإجابة التالية: الفراغ المعرفي دائما ما يكون ناتجا عن الجواب وليس عن السؤال. أما السؤال فهو الذي يساعدنا على ملء هذا الفراغ.

ما أن تُجيب عن سؤال حتى تكتشف (أو يكتشف غيرك) وجود فراغ أو نقص أو ثغرة في الإجابة. ومن ثم يجب أن يتم ملء هذا الفراغ بسرعة، لأن الطبيعة تكره الفراغ، حتى في المعرفة أو في إجابات الأسئلة.

في مسار المعرفة الذي لا يتوقف ويستمر في التصاعد، نجد أن السؤال يؤدي (بعد فترة) إلى جواب، والجواب يؤدي إلى فراغ، والفراغ يؤدي إلى سؤال جديد. هذا السؤال الجديد هو الذي يملأ الفراغ الذي نشأ.

أما النظرية، باعتبارها تفسيرا افتراضيا يبدو منطقيا أكثر من غيره، فهي تظل بحاجة إلى الدليل العملي لإثبات صحتها وصدقها، أي أنها تظل قيد الاختبار. ومع جمع ما يكفي من الأدلة العملية والواقعية على صحتها، تُصبح النظرية أداة لتفسير أشياء أخرى، فيبدو أنها صحيحة.

لكن مع مرور الوقت واختبار هذه النظرية في سياقات أوسع، نكتشف الثغرات والعيوب فيها. هناك ظواهر لا يمكن تفسيرها بناءً عليها، بالرغم من أنه كان يُفترض أن تُفسر. وهنا نتأكد أن لكل قاعدة استثناء، وحتى قاعدة “لكل قاعدة استثناء” نفسها لا تَستثنِي من هذا القانون.

عند هذه النقطة، نجد أنفسنا أمام تحدي تفسير الاستثناءات. ويؤدي الجهد المبذول في هذا المجال إلى نظريات جديدة تُقدم تفسيرات لهذه الاستثناءات. لكن هذه النظرية الجديدة لن تكون نفيا كاملا للنظرية القديمة، بل ستكون إضافة أو تعديلا لها.
النظرية الجديدة، التي تنشأ من النفي الجدلي للنظرية القديمة، هي نظرية تتمثل في اتحاد كل من النفي والاستبقاء والإضافة بشكل لا انفصال فيه.

في هذا السياق اللامتناهي من النفي والاستبقاء والإضافة، يُبنى صرح الحقيقة خطوة بخطوة.

يعود الفضل إلى هيجل، الفيلسوف الألماني العظيم، في اكتشاف قانون “نفي النفي”، وهو ما يُعرف بالثلاثية الهيجلية الشهيرة التي تشمل الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر. وقد شرح هيجل هذا القانون بشكل واضح باستخدام مثال البرعم والزهرة والثمرة، حيث قال: “البرعم” يختفي بمجرد أن تحل مكانه “الزهرة”. لكن الزهرة، التي نفيت البرعم، لن تظل على حالها، بل ستأتي الثمرة وتلغيها أيضا، لتحل مكانها.

النفي الأول الذي نشهده في دورة حياة النبتة هو نفي البرعم بواسطة الزهرة، أما النفي الثاني فيتمثل في نفي الزهرة بواسطة الثمرة. هذا النفي الثاني هو ما يسميه هيجل “نفي النفي”.

يربط هيجل هذه الأطوار الثلاثة بمفاهيم فلسفية محددة؛ فالطور الأول، وهو “البرعم”، يُسمى “الأطروحة” (Thesis)، والطور الثاني، وهو “الزهرة”، يُسمى “النقيض” (Antithesis)، بينما الطور الثالث، وهو “الثمرة”، يُسمى “التركيب” (Synthesis)، وهو نفسه طور “نفي النفي”.

ثم يوضح هيجل نقطة غاية في الأهمية، وهي أن الأطوار الثلاثة متساوية من حيث الأهمية والضرورة. فإذا لم يكن هناك طور “الزهرة”، لما كانت “الثمرة” لتظهر في النهاية. لذلك، من غير المنطقي أن يعتقد البعض أن “الثمرة” هي الحقيقة النهائية، وأن طور “الزهرة” لا قيمة له أو أنه أقل أهمية أو أنه الباطل .
عندما يتم نفي فكرة ما لصالح فكرة أخرى، يمكننا القول إن الفكرة الجديدة قد دحضت الفكرة القديمة. ومن الممكن أن يستنتج البعض أن الفكرة القديمة كانت خاطئة أو زائفة، وأن الفكرة الجديدة هي الصحيحة و الحقيقية.

بنفس الطريقة، قد يرى البعض أن “الزهرة” في حياة النبتة هي الخطأ أو الزيف، بينما الثمرة هي التطور الطبيعي و الحقيقي.

هؤلاء الأشخاص، أو من يشابههم، هم من رأوا في النظام الرأسمالي (أو في “الليبرالية الجديدة”) نهاية التاريخ و الحقيقة النهائية. وبظهور هذا النظام، أصبحوا يرون أن كل ما قبله من نظم اقتصادية واجتماعية أصبحت زائفة وغير مهمة، وأن الرأسمالية هي الثمرة النهائية التي تمثل أعلى مراحل التطور.

لكن لكي نفهم النفي بشكل صحيح، علينا أن نتجنب فهمه الخاطئ. النفي في سياق فلسفة هيجل لا يعني الفناء التام أو القضاء الكامل على الشيء المُنفى. بل هو عملية يختفي فيها القديم (أو يُغلب) ولكن يُحتفظ بجزء منه، فهو لا يمحو تماما ما قبله، بل يُحافظ على جزء منه أو يستبقيه.

لنأخذ مثالاً بسيطاً: عندما أنفي قطعة اللحم التي أتناولها، هل فنيت قطعة اللحم بالكامل؟
بالطبع، قطعة اللحم قد نُفِيَت، ولكن خلال عملية الهضم، تُحَافَظ جسدي على كل ما هو مفيد منها. أي أن النفي هنا تضمن استبقاء ما هو ضروري ومفيد.

وبالمثل، يمكننا فهم نفي نظرية أو مدرسة فكرية أو عقيدة ما. فالنفي هنا لا يعني القضاء التام على الفكرة أو المدرسة، بل يعني تجاوزها واستبقاء عناصر معينة قد تكون مفيدة أو قابلة للتطوير.

في تاريخ العقائد، نلاحظ أن كل عقيدة جديدة لا تُنقِض العقيدة القديمة بالكامل، بل تقوم بنفيها بمعنى مزدوج. فالعقيدة الجديدة تلغي القديمة وتستبدلها، لكنها في نفس الوقت تحافظ على العناصر الضرورية والإيجابية من العقيدة القديمة التي تستحق الاستمرار. هذه العناصر التي تم الحفاظ عليها تصبح جزءاً أساسياً من العقيدة الجديدة، إذ تستوعبها وتدمجها في بنيتها.

ربما سمعتم عن ما يسمى “حجر الفلاسفة”. في العصور الوسطى، كان الكيميائيون القدماء يعتقدون أنهم يمكنهم تحويل معادن رخيصة مثل الرصاص إلى ذهب. كانت هذه الفكرة تمثل الأطروحة في الثلاثية الهيجلية، أي فكرة تحويل العناصر.

ورغم أن الكيميائيين بذلوا جهوداً ضخمة في محاولة تحقيق هذا التحويل، إلا أنهم فشلوا في النهاية. لكن هذا الفشل لم يكن تاماً، فقد اكتشفوا العديد من الحقائق، وأحدثوا تطوراً كبيراً في الأدوات التي استخدموها. هذا يُظهر أن الفشل لا يعني الخسارة الكاملة، بل يمكن أن يكون جزءاً من النجاح في سياق التعلم واكتساب المعرفة الجديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة