بينَ الحقيقة والوهم الرقميّ
بقلم : حنين أمارة
تاريخ النشر: 05/05/25 | 20:47
صفحات الأيّام تمضي مسرعةًَ في زمنٍ تسابقت فيه النبضات الرّقمية واختزلت فيه المسافات إلى شاشةٍ في راحة اليد غيّرت من خلالها كلّ شيءٍ في زمننا هذا بسرعةٍ مذهلة. صرنا نعيش في عالم رقميّ لا يهدأ، حيث الأخبار تصلنا قبل أن تكتمل، والمعلومة تنتشر في لحظات وتختلط فيها الحقيقة بالتحليل والرأي بالخبر، صورٌ كأنّها خيال وأخبارٌ تكادُ أن تكون من نسج فنّان أسطوريّ تُعرضُ أمامنا بكميات مهولة لا يستطيع العقل البشري أن يستوعبها .
وسائل التواصل الاجتماعي أمست منبرًا لكلّ شخص في عالمنا يصول ويجول فيها ليخطّ خواطره وأفكاره دون رقيب أو حسيب، لم تعد مجرد منصات نتشارك فيها الصور والمواقف اليومية، بل أصبحت المصدر الأول وربما الأهم للأخبار والمعلومات بالنسبة للكثيرين… صارت هي مرآتنا اليومية التي نطلّ منها على العالم، نعرف من خلالها ما يجري ونتأثر ونتفاعل، بل ونبني آراءنا أحيانًا بناءً على ما يظهر في صفحاتها.
وهنا يظهر الفرق الواضح بين الإعلام التقليدي والإعلام الرقمي في السابق، في الماضي كنّا نستقبل الخبر من الصحف أو من نشرة الأخبار المسائية التي كنّا ننتظرها بلهفة وشوق لمعرفة كلّ ما هو جديد، وكان هناك نوع من التصفية والمهنية في تقديم المعلومة فكان الإعلام التقليدي أحادي الاتجاه يُغذّي المتلقي بمادة مصقولة ومراقبة.
أمّا اليوم، فكل شخص يمكن أن يكون ناقلًا للخبر أو صانعًا للرأي، وكل ما نراه أو نقرأه يمكن أن يحرّك فينا رأيًا، أو يخلق جدلًا، أو حتى يؤثّر في قراراتنا فبات الإعلام الرقمي مانحًا لكل مستخدم دورًا مزدوجًا كمتلقٍّ وناشر، يشارك في رسم المشهد وتحديد المزاج العام.
فهل ما نراه ونشاركه على هذه المنصات يعكس قناعاتنا فعلاً؟ أم أنّ قناعاتنا نفسها باتت تتشكّل من خلالها؟
إنّ هذا الانكشاف الكبير على العالم والاطلاع السريع على كلّ ما يجري من حولنا بغضّ النّظر عن مدى صحته، هو سيفٌ ذو حدّين فالاطلاع والوعي ضروريّ وهامّ ولكن ما يجري هو أمرٌ أجْبرنا أن نستوعبه بالإكراه فالعقل البشري لم يخلق ليستوعب هذا الكمّ الهائل من الآلاف المؤلّفة من المعلومات التي تتباين بين ما هو ضروريّ وهامّ وبين ما هو تافه لا يستحقّ الذكر ولكنه فرض علينا من خلال كلّ ما حولنا من وسائل اجتماعية رقميّة في تلك الأجهزة الصغيرة التي بتنا لا نستطيع التحرك دونها ..
لقد تحوّلت هذه الوسائل من نافذة للعالم الواسع إلى ساحة ضخمة للنقاش والتفاعل اللحظي، ففيها تتشكّلُ الآراء في لحظة، وتنتشر كالنّار في الهشيم، جملة واحدة تنشر في تغريدة تكون كافية لإثارة موجة من الجدل، أو لتغيير رأي الآلاف أو حتى لفرض أحكامٍ دون أسس تكون مبنية على قضيّة لا أساس لها أحيانا بل خلقت من أجل إثارة الجدل وجمع “اللايكات”…….
أحيانًا تُصاغ بعض الأخبار بأسلوب يوحي بالصدق، لكنها في الحقيقة هي معلومات مليئة بالمغالطات، موجّهة بعناية لتقودنا نحو قناعات معينة وحملات إعلامية منظّمة، تعرف كيف تخاطب مشاعرنا وكيف تزرع الشك وتغذّي الغضب فالمشكلة ليست فقط في الأخبار الزائفة، بل في الطريقة التي يتفاعل بها الناس معها فحين نقرأ شيئًا صادمًا، نُسرع إلى مشاركته قبل أن نتحقّق من صحته، وحين نتأثّر بمنشور ما، نميل إلى تصديقه لأنه ببساطة يعبّر عن شعور نحمله مسبقًا وهكذا شيئًا فشيئًا، يتحوّل الرأي العام إلى مرآة مشوّهة، تعكس ما يُراد لها أن تعكسه، لا ما هو حقيقي أو موضوعي بالضرورة، وتبدأ إصدار الأحكام دون الاعتماد على أسس واضحة .
لتصبح الحقيقة عملة نادرة ويغدو التمييز بين الصدق والتزييف مهارة لا غنى عنها، لذا لا بد أن نتمرّن على التروّي والتأنّي … على التحقّق قبل التصديق …على الإصغاء بعين العقل لا بانفعال القلب لكي تكون أراؤنا مبنية على مبادئ وأسس وليس على خيالات وأوهام حاكها فلان وعلّان
نعم! نحنٌ نحتاج إلى أن نُربي في أنفسنا ومن حولنا حسًّا نقديًّا يرفض الانسياق خلف العناوين البرّاقة والمحتوى الموجّه، وأن نتعلّم أن لا نمنح آراءنا بسهولة لمن يصيغها بدلًا عنا. فالرأي الحقّ لا يُصنع في لحظة غضب ولا تحت تأثير موجة إلكترونية عابرة، بل يُبنى على وعي وعلى معرفة، على نظرة متّزنة ترى الصورة كاملة، لا فقط ما أراد الآخرون أن نراه ….
ولأنّ التغيير لا يبدأ من الشاشات بل من داخلنا فلنُعد ترتيب علاقتنا مع هذا العالم الرقميّ لنكن أكثر حضورًا في واقعنا وأكثر صدقًا وحرصًا مع ذواتنا .. فقد حبانا الله بأغلى ما في الوجود عقلٌ بشريّ يحلّل ويفكّر ليتفرّد به صاحبه بصوت يضيف، يسأل، يتحقّق ويبحث عن المعنى خلف الضجيج المزيّف ………….