نسبية الحقيقة لا تتعارَض مع موضوعيتها!

بقلم : ادم عربي

تاريخ النشر: 06/10/23 | 14:01

الحقيقة وما أدراكَ ما الحقيقة ، فالكلّ يبحثُ عن الحقيقة ؛ فسواء كان البشر صالحين أو طالحين، في كل زمان ومكان، فإنهم يحتاجون إلى معرفة الحقائق فيما يتعلق بالأشياء؛ ويحتاجون إلى ذلك في أفعالهم وأعمالهم؛ في جهودهم العملية للحفاظ على واقع معين، أو لتغييره نحو اتجاه معين؛ فالفشل بجميع دلالاته هو نهاية كل من يتجاهل الحقيقة في أفعاله وأعماله.
أنا مثلاً ينبغي لي معرفة الحقيقة وحقائق الأمورقبل نشر مقالي ؛ ومن ثمّ أنظر في أمْرِ النشر أوْ عدمه ؛ فمصلحتي مَنْ تأمرني بنشر ما عَلمْتُ من حقائق أوْ تمنعني عن النشر ، فللحقيقة مذاق حلوٌ أوْ مرٌّ والذَّائقة هي مصلحتي ؛ لكن ما الحقيقية؟.
“الحقيقة” هي كلّ مفهوم يتوافق مع الواقع ، كلّ فكرة تتطابق مع الواقع وأيدها الواقع ، إنها تمثيل ذهني للأشياء الموجودة خارج العقل. هذا التمثيل أو الصور الذهنية لا يوجد إلا في العقل ، لكن هذا التمثيل لا ينشأ من العدم، بل يستند إلى مصدر وحيد هو الواقع الموضوعي، أو العالم المادي، إنَّ وجود الصور الذهنية في العقل يشبه وجود صورة لشيء ما في المرآة ، والمادية تتحدى المثالية، وتطالبها بإثبات أنَّ الأفكار لا ترتبط بالواقع الموضوعي، أو بعناصره الأساسية.
ينعكس الواقع الموضوعي في دماغ الإنسان كما لو كان مرآة، فيخلق في العقل أو الذهن صورا ذهنية متنوعة، تتشابه مع أصولها في الواقع بدرجات مختلفة. وتستند هذه الصور الذهنية الأولية إلى مصادر المعرفة الحسية (أي الحواس)، ومنها تتشكل الأفكار والآراء والفرضيات والنظريات والمفاهيم ، ولكن لا يكفي أن نقبل هذه المنتجات الذهنية دون تحقيق، بل يجب أن نفحص مدى مطابقتها للحقيقة ، والمعيار الوحيد لقياس هذه المطابقة هو التجربة العملية الواقعية والممارسة، فالحقيقة ليست فكرة تؤيدها فكرة ، بل هي فكرة تثبتها التجربة ، وإلَّا فإننا نقع في وهم خطير يبعدنا عن الواقع.
لكن ، ما هي الطريقة البسيطة لمعرفة مدى صحة الأفكار؟ عليكَ أنْ تحوّل الفكرة إلى تنبؤ أولاً؛ فالعِلْم لا يهتم بفكرةٍ لا يمكن تحويلها إلى تنبؤ؛ ولا يهتم أيضاً بفكرةٍ لا يمكن اختبارها في الواقع أي في التجربة والممارَسَة.
يمكنكَ التحقق من صحة فكرتكَ التي تنبع منها التوقعات بمقارنة النتائج التي تنتج عن العملية أو التجربة مع التوقعات التي توصلت إليها. إذا كانت النتائج تدعم التوقعات، فهذا يعني أن َّ فكرتكَ صحيحة ومطابقة للواقع الموضوعي، وأنَّ مستوى الحقيقة فيها عالٍ ، وإذا كانت النتائج تخالف التوقعات، فهذا يعني أنَّ فكرتكَ خاطئة وغير مرتبطة بـ الحقيقة الموضوعية ، وهذا هو معنى النجاح، أنْ تحصل على نتائج تؤكد توقعاتكَ. والفشل ، أنْ تحصل على نتائج تنفي توقعاتكَ.
الحقيقة هي ما يتوافق مع الواقع الموضوعي من أفكار، وهذا ما يجب أن تكون عليه الحقيقة ، ولكن لا بد أن تكون حقائق الواقع الموضوعي نسبية، لأن الواقع الموضوعي يدعم نسبية الحقيقة. ونسبية الحقيقة لا تدل على ذاتيتها، بل تدل على موضوعيتها، وهذا هو المعنى والضرورة لنسبية الحقيقة . فنسبية الحقيقة لا تعني أبداً ذاتيتها؛ بل تعني، ويجب انْ تعني، موضوعيتها.
ولا بدَّ من مثال إيضاحي لنتمثّل ونعي ما ذكرناه :
تخيل أنكَ ترى جسماً يتنقل في الفضاء. مِنْ مكان تواجدكَ ، تلاحظ أنّه يغير موقعه باستمرار أي أنّه يسير من نقطة إلى أخرى كما تلاحظ مثلاً أنّه ينقل بمعدل 100 متر في كل ثانية (على سبيل المثال) ، هذا الوصف لهذا الجسم أوْ الجُسيم يعتبر حقيقة مستقلة؛ لأنَّه يصف واقعاً لا يتأثر برأيكَ أوْ تفسيركَ؛ بلْ لأنكَ وغيركَ من المتواجدين في المكان تمتلكون الوسائل والأدوات والطرق والأساليب… التي تمكنكم من إثبات عملياً علمياً أنَّ هذا الجسم متحرك، وأنَّ سرعته 100 متر في الثانية.
يمكن لأي شخص في مكان مختلف من الفضاء في نفس الوقت أنْ يصف حالة الجسم بطريقة مختلفة عنكَ ، فمن منظور شخص ما، قد يبدو الجسم ثابتاً لا يتحرك ، ومن منظور شخص ثالث أو مُراقب ثالث و في نفس الوقت ، قد يبدو الجسم متحركاً بسرعة عالية جداً ، بسرعة 1000 متر في الثانية الواحدة مثلاَ ، كل هذه الأوصاف للجسم صحيحة في نفس الوقت، لأنها تعتمد على نقطة المرجعية التي يختارها كل شخص.
هذه ثلاث حقائق علمية وموضوعية وصحيحة عن هذا الجسم، ولو اختلفت بينها ،وإنّه مِنَ السخافة بمكان أنْ يقول قائل أُريد أنْ أَعرف الحقيقة الحقيقية في موضوع هذا الجُسيم التي لا أثر فيها للأخطاء في الأقوال الثلاثة!.
إنَّ مثل هذه الحقيقة لا وجود لها أبداً؛ فالحقيقة الموضوعية يجب أنْ تكون نسبية؛ وإنَّ نسبيتها لا تُناقِض موضوعيتها وعلميتها .
نحن نرى الأشياء مِنْ موقع معين ؛ وهذا الموقع ليس ثابتاً أو موحداً؛ وباختلاف هذا الموقع تتغير رؤيتنا الموضوعية العلمية.
في عالم الظواهر والأحداث الفيزيائية ، يتألف الموضع من عاملين هما: الجاذبية والسرعة ، وعندما تكون في موضع معين، فهذا يعني أن الرؤية التي تمتلكها مقيدة ، ولا بد أن تكون كذلك، بـجاذبية وسرعة ذلك الموضع ،ومن ثمّ فإنَّ أدوات قياس الزمن والأطوال والمسافات ، وهي الساعة والمتر، تتغير من موضع لآخر. ولكنك لن تلاحظ أي دليل على هذا التغير في الظواهر والأحداث والأشياء التي أنتَ جزء منها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة