“الشجاعة فن لا يجيده المتهوّرون ولا الجبناء طبعاً”
حسن عبادي/ حيفا
تاريخ النشر: 17/06/25 | 8:32
“الغرفة الزهراء” هي زنزانة مميّزة في سجن نفحة الصحراوي/ أحد باستيلات الاحتلال، أزهرت رجالاً وأفكاراً وتحدّياً وصموداً، تولّدت من رحم العذاب والألم والمعاناة، ومن وحيها جاء عنوان رواية الأديب وليد الهودلي (رواية، 280 صفحة، تدقيق لغوي: د. عبد المجيد حامد، الصادرة عن دار يافا للنشر والتوزيع، رام الله، ومن مؤلفاته “مدفن الأحياء”، و”فرحة”، و”ليل غزة الفسفوري”، و”الشعاع القادم من الجنوب”، “ستائر العتمة”، “وهكذا أصبح جاسوساً” وغيرها).
جاء الإهداء “لأهل غزّة الكرام وأسرانا العظام”.
تتناول الرواية في 15 فصل؛ توحّش القمع في السجون، رومنسيات رغم أنف السجّان، العزل: موت داخل الموت، الزنزانة الزهراء تشارك في المعركة، البوسطة رحلة على حافة الموت، وكالة صقر الإعلامية، الإسراء والمعراج في السجن، مطاردة ساخنة للترانزستر، أشمّ رائحة السنوار، حب وعشق في الزنزانة الزهراء، نحو نهضة فكرية، القائد الفذّ إسماعيل هنيّة، أحفاد أويس القرنيّ، اغتيال سماحة السيّد، استشهاد فارس الطوفان.
تصوّر الرواية بكاميرا خفيّة صبيحة السابع من أكتوبر في زنزانة نفحاويّة تجمع نائل النوراني (نائل البرغوثي ابن الأربعة والأربعين عاماً في سجون الاحتلال)، وعلاء الصقر (علاء البازيان ابن الأربعين عاماً في السجون)، وعبد الناصر الطيراوي (عبد الناصر عيسى ابن الثلاثة والثلاثين عاماً في الأسر)، ونضال زلوم (ابن الثلاثة والثلاثين عاماً في غياهب السجون)، تمّ الإفراج عنهم في صفقة تبادل الطوفان، ورائد (ابن العشرين عاماً فقط خلف القضبان)، والسارد، حين تلقّوا خبر الطوفان؛ نعقت مكبرات الصوت بطريقة استعراضية مستفزّة معلنة حالة استنفار وطوارئ… رافقها اقتحام أعداد هائلة من قوة “نحشون” مزوّدة بكل أدوات القمع، جرار الغاز، العصي الحديديّة والكهربائية، والقيود الحديدية والبلاستيكية، والبنادق التي ترمي بالرصاص المطّاطيّ، ومجموعة كلاب ضخمة ألبسوا وجوهها قوالب من شبك الحديد، وقلوب مليئة بالحقد والكراهية والعنصرية السوداء.
تسير الرواية في خطّين، يبدوان متوازيان، الأول مجزرة الإبادة الوحشيّة على غزة والآخر مجزرة العذاب الوحشيّ غير المسبوق في السجون، ويلتقي الخطان بتحرّر أبطال الرواية في صفقة الطوفان.
عايش الهودلي أبطال روايته في تلك الزنزانة، وها هو يستحضرهم عن بُعد، يتقمّص شخصياتهم وينطق بلسانهم، يستنطقهم ويتخيّل تفكيرهم وشعورهم وما يمرّون به في تلك الساعات العصيبة، ويضيف عليها قصص وحكايات واقعيّة، يرويها لهم على لسان نضال/ السارد، بلغة بليغة وأسلوب مشوّق؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر– “مذكرات حارس أسيرة يهودية” (ص. 69)، “بطولات الجرّافة D9 ” (ص.93)، “الفدائي المشتعل” (ص. 104)، “القصّة بعنوان الكرامة لا تنكسر أبداً” (ص. 130)، “لم يعد الصمت محتملاً” (ص. 140)، “غزوة الطحين” (ص. 152)، “جندي يروي قصّة إعدامهم لطفل غزة متلازمة داون(محمد بهار) ” (ص. 168)، “ابن رجيم” (ص. 180)، “الأقصى في عين فتى الأردن الحرّ” (ص.199)، وقصّة إبراهيم منصور والانتقام اللذيذ “راسك لتحت” (ص. 247).
تناول الكاتب وسائل التنكيل القمعيّة والوحشية تجاه الأسرى بعد السابع من أكتوبر؛ منها “الناعمة” ومنها “الخشنة”، وبات التهديد والوعيد سيّد الوقف؛ “قطع النقاش مكبّرات القسم تنعق بأقذع الشتائم والمسبّات: يا أخوات الـ… جعانين يا أولاد القـ… كيف صار السجن؟ خمس نجوم؟ ولله لتشوفوا نجوم الظهر، السجن من اليوم وطالع هو مكان للموت البطيء، هو الجحيم، جهنم الحمرا، لازم تنسوا إنكم بشر، أنتم دون الحيوانات كثير كثير، الحيوانات أحسن منكم. اليوم بدّي أحضّركم فيلم من الآخر، إنه الآن يدخل الفورة بإمكانكم مشاهدته…” (ص. 43)، ومنها طقوس تقبيل العلم “على كلّ أسير أن يحبو اتجاه علم إسرائيل العظيم، فيؤدّي له التحيّة، ويقبّله ثم يعود إلى غرفته” (ص. 10) وكذلك الأمر “حفلة اليوم اسمها حفلة بوس العلم، بدنا كلنا نحيّي العلم الإسرائيلي الشامخ، الخروج من الغرف عراة نقبّله من أعماق قلوبنا ثم نعود، ويا دار ما دخلك شرّ” (ص. 85).
كما تناول قائمة الممنوعات في السجون بعد السابع من أكتوبر؛ تمّت مصادرة كلّ ما في الغرفة، التلفاز والراديوهات الصغيرة والأجهزة الكهربائية، والملابس والأغطية وبعض ما يؤكل من مشتريات “الكنتين”، المصاحف والكتب وكراسات الذكريات ومؤلفات من يكتب منهم وألبوم الصور التي جمعها كل منهم على مدار حبسته، صور أطفالهم على امتداد فترات عمرهم، منهم من كان طفلاً حتى صار عريساً مروراً بالمدرسة والجامعة، كلّها قُذفت في الحاوية أمام أعينهم (ص. 56)، وممنوع الاحتجاج، ممنوع رفع الصوت، ممنوع الصلاة جماعة، ممنوع الخروج للفورة، الكهرباء حسب مزاج السجّان، الماء ساعة في اليوم، والزيارات ممنوعة، والعدد “وأنت على ركبك ورأسك للأرض”، ممنوع تمثيل اعتقالي وغيرها، والإهمال الطبي والقتل المتعمد، استشهاد الأسير ثائر أبو عصب، على سبيل المثال (ص. 33).
تناول بحُرقة التنكيل برموز الحركة الأسيرة؛ “جاءوا برجل من قادة الحركة الأسيرة وهو عارٍ تماماً، يداه مكبّلتان للخلف ومكبّل من قدميه، يجرّونه بسلسلة تطبق على رقبته، فقط مجرّد رؤية هذا الرجل صاحب المقام العالي من حيث تاريخه الجهادي وما قدّم من تضحيات وأعمال فدائية نوعية، وتاريخه الحافل في السجون… صاحب الشخصية الكاريزمية المميّزة يسوقونه هكذا عارياً كما تُساق الدابّة… سحبوه إلى وسط الساحة بين الأسرى المعذّبين، ثم أحضروا كلباً وأفلتوه عليه، انقضّ عليه الكلب لينشب مخالبه بوجهه وكلّ أنحاء جسده” (ص. 63)، تماماً كما سمعت من أسرى التقيتهم ولم أنشره في حينه.
وكذلك الأمر تهديد الأسرى بالاغتصاب، واستعماله لاسم “الكابتن جورج” لم يكن محض صدفة، بل أخذني مجدّداً للكابتن “جورج” الذي عذب واغتصب الشيخ مصطفى الديراني في حينه، ما أشبه اليوم بالأمس!
ومسرحية الضرب؛ إجبار الأسرى على ضرب زملائهم (ص. 138)، الانتهاكات الجنسيّة والتهديد بالاغتصاب والاغتصاب والتصوير العاري (ص. 141)، وحفلة هجوم الكلب على الأسير (ص. 211)، وجحيم “سدي تيمان” (ص. 207 وص. 219).
صوّر طقوس التعارف بين المعتقلين الجدد والأسرى القدامى؛ “لمّا جاء الدور للسكان القدامى في الغرفة، عرّف علاء باسمه وقال عن فترة سجنه: أربع وأربعون-كعادته-على أن تُفهَم وكأنها شهور!” (ص. 57) وأخذتني للبدايات، فكل أسير التقيته عرّفني بسنوات الأسر التي لازمت اسمه، وكذلك الأهل، يقدّمون أنفسهم بالاسم وسنوات أسر قريبهم! ماركة فلسطينيّة مسجّلة للتعارف.
أشار الكاتب إلى أثر الرسالة ودورها بالنسبة للأسير (ص. 178)، وممّا لمسته من تجربتي التواصليّة مع مئات الأسرى وجدتها نفَس للأسير. وحين قرأتها أخذتني مجدّدا للقائي بالأسيرة إخلاص صوالحة في سجن الدامون، حين وصّلتها رسائل العائلة ترقرقت الدمعة في عينيها، وقالت بعفويّة “الرسائل بتِحييني وبتعطيني أمان، أصعب شي ع الأسير ينتَسى، وهو زيّ العطشان لمّا يشوف الميّة”.
وتلقّي الأسير خبر وفاة عزيز دون وداع (ص. 225-226)، وكم عايشت هذا المشهد وصعوبته، وخصّ بالذكر خبر وفاة المرحومة وفاء جرار (أم حذيفة) (ص. 235).
تناول الكاتب مجدّدا ظاهرة “العصافير” المقيتة والحس الأمني (ص. 186)، تجنيد العملاء داخل السجن واكتشافهم (ص. 264)، وطقوس الأسر ومصطلحاته؛ قوى القمع؛ لماز، متسادا، نحشون، كيتر، كولِس، الطنجير وغيرها.
ومن جهة أخرى تناول الكاتب دور السنوار في ميدان المعركة والعاروري في ميدان السياسة (ص. 149) وكلاهما من خرّيجي تلك الغرفة الزهراء، وصورته من ذكريات عبد الناصر “من أكثر الناس الذين عرفتهم فهماً للعقل اليهودي… أتقن اللغة العبرية، لم يدع شاردة ولا واردة كانت تصل إليها يداه إلا وقرأها بنهم، يقرأ ويحلّل ويناقش ثم فيما بعد صار يدرّس المشهد الصهيوني السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني والاجتماعي والتاريخي والديني بكل تفاصيل اختلافاته وتناقضاته وأبعاده العميقة مع تطبيقاته في واقع اليوم” (ص. 69). كما وتناول السابع من أكتوبر، هل غلطة أم ضربة معلّم؟ (ص. 83). وكذلك العلاقة الجدليّة بين الداخل والخارج، بين قادة الحركة الأسيرة داخل السجون والقيادة خارجها (ص. 125)، تلخيص معركة الطوفان، الربح والخسارة (ص. 143-144)، وموبقات أوسلو بالخلفية (ص. 156).
تناول الكاتب ظاهرة سلاح “السيلفي” وتباهي الجنود بساديّتهم عبر الكاميرا “لدى محبوبته الآن ألبوم من صور السيلفي التي قام حبيبها بتصويرها، وكان ختام كل عمليّة تدميريّة يتفنّن فيها في الخراب وسحق المنازل الجميلة والأحياء البديعة فيرسل صورتين، صورة قبل ما تفعل جرّافته فعلها، وصورة بعد أن تظهر تجلّياتها الفظيعة.” (ص. 94) وكذلك الأمر “كان هناك بيت جميل مبنيّ بطريقة مميزة، توقّعنا أن هذا الجمال سيثير شهيّتهم لتدميره وسوف يتصورون معه قبل وأثناء وبعد تدميره كي يتسنّى لهم إرسال صورهم معه لأحبابهم.”(ص. 174)
جاء استعمال الأمثال الشعبيّة موفّقاً؛ “ما بردّ على الرطل إلّا رطلين”، “يم مثل غراب البين”، “دخول الحمام مش مثل الخروج منه”، “ما بظلّ في الوادي إلّا حجارته”، “ضرب الحبيب زبيب”، “لمّا بيجي الصبي بنصلّي على النبي”، “بسيح الثلج وببان المرج”، “الريحة ولا العدم”، “ويا عينك ما تشوف إلّا النور”، “مثل شاهد الزور مكرّم في الروحة ومبهدل في الرجعة”، “القصة ليست طبخة مقلوبة رأسمالها تلزق في قاع الطنجرة”، “ويا دار ما دخلك شرّ”، “اربط الحجش محلّ ما بدّو صاحبه”، “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، “عنزة ولو طارت”، “اللي على راسه بطحة بحسّس عليها”، “صبّ الزيت على النار”، “عمره ذنب الكلب ما بصحّ”.
ملاحظات لا بدّ منها؛ غاب التحرير عن الرواية فوقعت أخطاء مطبعيّة جسيمة؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر – “جيتر” بدل كيتر (ص.15)، عدد القرى المهجّرة حوالي 530 وليس 360 (ص. 80)، الياسين 501 بدل 105 (ص.88)، قتل راشيل كوري عام 3002 بدل 2003 (ص.105)، ال اف 53 بدل 35 (ص. 107)، ال اف 61 بدل 16 (ص. 107)، هجرونا سنة 84 بدل 48 (ص. 113)، وحدة المخابرات الإسرائيلية 8200 وليس 2008 (ص. 253)، حزب “عظمة يهودية-عوتسما يهوديت” وليس عظمة إسرائيل.
وأخيراً؛ راقت لي العَصفرة (ص. 265)، وكذلك أمر نهاية الرواية “طوفان الوعي الذي أنتجته غزّة لن يتوقّف. تحرير الأمّة يحرّر فلسطين وتحرير فلسطين يحرّر الأمة”.