إبحار في رواية عين التينة للأديب صافي صافي
بقلم: كفاح عواد
تاريخ النشر: 17/06/25 | 8:29
كيف يمكنك أن تقنع رجلا يقتات على ذاكرة الطفولة، ويحفظ كل تضاريس الأرض بتينها وجبالها وتلالها أن الماضي لا يعود، وأننا حين نغادر بيادر الطفولة تغادرنا تلك اللهفة التي سكنتنا.
ظننت للوهلة الأولى وأنا أتجول بالسطور الأولى لرواية “عين التينة” للكاتب صافي صافي، ابن بيت نبالا التي هٌجر منها ومن اللد التي حملها في ذاكرتة ككتاب مقدس. ظننت أنني سأكون أمام رواية عادية، لأكتشف بعد سطور عدة أنني أحتاج لاستحضار كل ذهني لأتمكن من سبر أغوار الكلمات التي كونت من حروف مألوفة جدا، لترسم لنا لوحات غير مألوفة، لوحات لها نكهة الطفولة وشبق الشباب وأماني ما زالت تقف على بوابة الروح لتعبر سنوات العمر الآتي.
لوحة” “بيسان” “أخدش راحة غيري” في السطور الأولى، تصورت أنني أمام كاتب أو رجل كلاسيكي، حروفه تخجل أن تخدش بكارة مجتمع صنعها بألف وهم، حتى جاءت الكلمة. حروف مألوفة في مكان لم نألفها فيه. وهذا يدل على شخصية متمرده ولو بتحفظ من الكاتب، رغبة دفينة في البوح بصوت عالٍ.
وجاء اللقاء،ليحملنا إلى الوصف المادي، كأنما ليتأكد البطل ان هذا اللقاء ليس حلما، ولا ثرثرة الروح في لحظات التمني، بل هو يقين وواقع، وربما لذلك لم أستشعر تلك الحرارة الحريفة في الأرواح خاصة عند البطلة.
وجملة “عرفتها عن بعد” عززت لدي تلك القناعة، ووجدتني أمام رجل يريد أن يأتي بالماضي من داخل هوة سحيقة جدا، وكل ما قيل وتم وصفه فيما بعد، يدل أن البطل بذل جهدا خرافيا ليحيي أرضا يخشى أن يكون أصابها البوار في روح ضيفته.
وحين وصفت الألوان التي ترتديها حنان، كنت بوصفك تسحبني كقاريء إلى تلك الحيرة التي سكنتك بأنك ما زلت تجهل في أي خانة ممكن أن تضع طفلة عادت من ذاكرة الماضي بثياب امرأة، وتسألت وأنت تصفها، هل يمكننا أن نحس بالخيبة إذا كانت أحلامنا ومخيلتنا لا تشبه الواقع؟ مجرد سؤال.
لملمت شتات روحكَ وولجت دهاليز الوصف الروحي لكنك سرعان ما غادرته لتصف بيسان المدينة
كأنك تخشى أن يقبض عليك أحد بالجرم الروحي، أو خفت أن توحل أكثر في أحلام بنيتها على ركام الطفولة، وكلمات الفيس بوك.
أغنية “كن صديقي”، أنا دوما أقول إنها أقوى دعوة للحب، حتى أكثر من كل كلمات العشق المألوفة لأنها دعوة لعلاقة أكبر من الحب المألوف، هي دعوة لتلاحم روحي لا يدرك كنهه الكثيرون، واختيارها إذا جاء صدفة، فهو تعبير عن روحانية عالية لدى الكاتب وإذا جاء مقصود فهو عبارة عن براعة وذكاء.
يحتفلون”بانطلاقتهم” و “ظهر الولاء وقل الانتماء”. أعتقد أنك تقصد بها تنظيم بعينه لأن وصفك الباقي يدلل على ذلك، لكنك حشرت نفسك في زاوية محددة، ليقيني أن هذا ينطبق على الجميع وليس حزبا محددا.
مرة أخرى تقفز جمل عادية، لنكتشف أنها تسبح في عالم لم نألفه بعد.
“نخفي مشاعرنا تحت عناوين فضفاضة” الخ من الفقرة فلسفة عميقة جدا جدا، ورؤية لا تتأتى للكثيرين، لكن أعود لأرى ما رأيته في البداية، نَفَسك في الروحانيات يختبأ دوما خلف ظلك، ما أن تسلط الضوء على رؤية حتى تفلت زمام النور لتركض خلفها بسرعة. وددت لو تترك نفسك حرا أكثر من ذلك، كأنك ترقص الباليه بخفة الروح التي سكنت الكلمات، واتركنا نشرف بلا تحفظ على تلك البقاع المظلمة في النفس البشرية، تلك الزوايا التي لا تتأتى إلا بتهشيم تلك الطبقة الجليدية التي يحملها كل منا ويخفي خلفها الكثير. اتركنا نلج خفايا الأرواح بكل خفة كعصفور وليد يحاول أن يتعلم الطيران في درسه الأول.
لوحة “حنين”، ذكرتني بعبارة جاءت في روايتي ظلال ورجال تقول ( كم نكون أغبياء حين نظن الزمن يسير بتوقيت قلوبنا.)
ما هو الوطن الذي يجمعنا؟ سؤال كبير جدا، أكبر حتى من روايتك ولحظات الخوف والحب التي عشتها مع رفيقتك، سؤال أكبر بكثير من أن تحده إجابة رجل وامرأة التقيا بعد عمر من الغربة كي يستعيدا طفولة هرمت، وغيبت معها شقاوة الطفولة ورعونة الشباب.
لوحة “المدينة”؛ لا تغضب مني يا صديقي؛ إذا قلت لك إن صديقتك تشبه حبة مشمش سقطت من شجرة على الأرض لأنها لم تعد تحتمل الأغصان.
نعم ما زالت تصلح للاكل، لكن دون شهية. هكذا جاءت في لوحة “المدينة” امرأة مبتورة من العاطفة، محايدة في كل شيء حتى في عواطفها، وجئت أنت مثل فلاح مسكين يريد أن يجعل أرضا بورا تطرح زرعا أخضر، يجود عليها بكل ما في وسعه، لكنه ينتكس في لحظات الحياد.
في أول المقابلة، وخلال كل هذا أبدعت في تصوير الحالة حتى أنها سكنتني كقاريء، وتساءلت: هل يمكن أن تبقى بتلك الهمة إلى نهاية قصتكما أو بداية جديدة قد نتفاجأ بها؟ واعترف لك أن ذلك كان عنصر تشويق لي كقاريء خاصة أن لغتك وتعابيرك سهلة ممتنعة، قوية تفتح في العقل ألف احتمال.
أنت يا صديقي صاحب الأسئلة الكبيرة بامتياز.
و “هل القدس أهم من بيسان؟” سؤال أكبر من سابقه، تركت فمه مفتوحا دون كلمات، وأعتقد أنك تعمدت ذلك، ليجيب كل قاريء عليه حسب نبضه، ويبقى في كل سؤال رائحة جواب، نشتمها في الكلمات وبعيدا عن الرواية تساءلت: ما وجه الشبه بين اسم بيسان وحنان؟ انا عجزت عن أن أجد إجابة.
لوحة “باقة”، وصف جميل للرشفات المتبادلة لكنها أيضا خجلى، اللغة فيها تحرر من قيود، كأنك تتدرج في كل شيء، وتترك تحرر روحكما من القيود مرهون بتحرر اللغة.
“أتبحثين عن نفسك؟” سؤال كبير آخر، لكن الجواب أكبر منه
“وماذا لو لم تجديها؟”
لغة قوية تحررت من قيود السطور الرتيبة
لوحة “حنين” وددت لو كان اسمها لوحة مها، بطلة صنفها الكاتب في الصف الثاني لتقفز أمام القاريء وتحتل الصف الأول بلا منازع، امرأة تمد إليك يديها لتدعوك لرقصة خاصة، تدك الأرض بقدميها، فتترك خلفها صوت يشبه صهيل فرس ولوف. لوحة “حنين” فيها إبداعات وصفية فعلا رائعة، وصف الرقص والحركات ودلالات الحركات والدلالة النفسية لامتهانها الرقص وسط كل هذا الوجع الذي تعيشه.
مها بطلة بامتياز، انبثقت من رحم أحداث قد تبدو عادية لتضيء بسراجها أعماق كل امرأة تحررت من رتابة العادات والمسموح والممنوع وأطلقت عنان روحها للحياة، لتترك أثرا أينما ترتفع قدمها لتزرع النشوة والفرح.
لوحة “التيه”، تدلل على ثقافة دينية ومعرفة بالآخر، والحوار الذي جرى يقودنا إلى قناعات الكاتب الدينية ورؤيته للأمور، وورود عدة دلالات على أن الكاتب يرى الله بقلبه ويقينه لذا جاءت بعض الدلالات الروحية.
خلال النقاش، أبدعت في تسليط الضوء على ثقافة غريمك وبعده الديني، وهذا مهم جدا يدلل على موضوعية في التفكير وليس الكتابة لمجرد الكتابة بل للمتعة والإفادة.
لوحة “الطريق”، ما زالت الأسئلة الكبيرة حاضرة بعيدا عن التفاصيل. أأنت مع كامل جسدك أم تريد تقسيمه؟. نعم الحوار يدل على الجسد المادي لكن طرح السؤال يدل على بعد آخر أبعد بكثير، خاصة أنك ما زلت تبحر في التوراة والمعتقدات بطريقة سهله سلسلة فيها إضاءة للقاريء.
انا ادعي إنني مطلعة جيدة لكن فعلا لم اسمع من قبل أن الطالب العربي يجب أن ينتظر عامين للالتحاق بالجامعة ليتساوى مع اليهودي. كان الحوار بينك وبين أبو المجد قصير، لكنه عميق. وفيه إثراء للقارئ.
في لوحة “البركة”، تعود بطريقة جميلة وذكية لتعلن عن قناعاتك الدينية، بلغة سهلة مشوقة ولكنها ثابتة كالحجر المدبب، تريد أن تصوبه نحو الهدف، وتريده أن يصل، لتقول لنا: هذا ما أؤمن به وهذا ما لا يتقبله عقلي.
كما قلت لك سابقا انت تجد الف ثقب لتخرج منه،بسلام وذكاء، كما في حوار الجنة والعري.
وعدت لتطلق وشوشة فرح مرة أخرى، وعادت مها تشبه أغنية هادئة ودعوة للرقص.
الحقيقة أنت تبدع في وصف مها، لدرجة بت على يقين أن شخصية الكاتب أقرب لطبيعة مها التي تحب الحياة والفرح والضحك والرقص والنور. أحس أن الكاتب أقرب لتلك الشخصية من شخصية صديقته، لأن الوصف لمها فيه جمال وفرح. رغم تحفظ الكاتب في الضحك بصوت عال إلا أنني ارى بسمته عبر الكلمات وهو يصف مها.
لوحة “اليعسوب”، في بدايتها أسلوبك أصبح يحاكي أسلوب مي زيادة، الأسلوب موفق جدا ولكن أنت تعطي معلومات كثيرة، قرأتها وقرات كيف تتكاثر وتنام. أحسست ببعض التطويل، لكن للحق لم يكن مملا، فالكاتب يملك من الذكاء ما يكفي ليغادر في الوقت المناسب.
لوحة “الأزرق”، أعتقد أنك أردت من خلال الألوان العبور للنفس البشرية، والتعمق فيها. اللوحة جميلة لها بعد نفسي، لكن أنت مغرم ببعض التفاصيل، أو بالأحرى تجعل لكل سلوك أو رؤية ذيل يرتبط بمكان ما. نجحت في تقديم رؤية عن الأزرق والفرق وارتباط ذلك بقضيتك الأم ثم انسحبت بسرعة دون ملل للقاريء. اللغة سهلة جميلة، تعابيرك عن الألوان فيها عمق ودلالات.
لوحة “العنق”، لو لم تكتب سوى هذه الجملة لكانت لوحة متكاملة: “اجتمعنـا حـول العنـق، وكابرنـا علـى أنفسـنا، فلـم ننهـزم، ومـا جئنـا لننتصــر. جئنــا لنقــف علــى أطــلال بلدنا، ونبحــث عــن ظــلال الذيـن رحلـوا قبـل عقـود، ونشـتم رائحـة الماء والتـراب والحجارة”. لوحه “العمق” من أجمل ما قرات, هي صرخة الكاتب في وجه الظلم وتمرده على الخوف، وإعلان أنه لن يكون مجرد سائح في وطنه. لغة قوية جدا وتعابير لها ألف معنى. بصراحة لوحة تعانق الروح قبل العيون.
لفت نظري تشبيه أن القصير يقع رأسه بجانب جسده، الحقيقة أني ضحكت وأنا اقرا التشبيه، بل وتخيلته الصورة أيضا.
لوحة “العصي”، أخال ان هذه اللوحة الجميلة ينقصها شيء مهم وارجو أن يتسع صدرك. في الحوار عن الطويل والقصير وأبو المجد، هو حوار مسل جدا. يذكرني بلقاء الأصدقاء على مقهى، وهم يلعبون النرد ويتداولون النكات الخفيفة. لماذا لا تطلق العنان للضحك بصوت عال في لحظات المرح؟ لماذا تخنق ضحكتك و تأخذ الحياة “بوز لبوز”؟ اللوحة جميلة فيها دعوة للمرح لكن ينقصها ضحكة الداعي.
لوحة “التينة”، فيها أسماء لأنواع التين المعروفة في فلسطين، وللأمانة أنا شخصيا لا أعرف كل تلك الأسماء، فكان فيها إفادة حقيقية تستحق عليها الشكر.
جملة “كانت خضراء باهته” في وصف التين، وددتُ لو تركتها يلا تعليل لكانت أبلغ، لجعلت لكل قاريء أن يؤل الجملة حسب قدرته على التصور.
“الحولة”، تخمين سبب تسمية الحولة بهذا الاسم جميل، فيه شي من المرح، حتى القهقهات التي خرجت لكسر رتابة الوجع الذي ولد كان جميلا، ودخول مها أيضا ترك وشوشة لطيفة جدا. أعتقد أني انحزت بكلي لتلك المرأة التي تصنع الفرح من أحلك لحظات الوجع.
ما هو الحب؟ هل الحب للحبيب الأول؟ ماذا تسمي علاقتكما؟ هي إضاءات بنكهة الفرح وسط كل هذا الوجع.
أظننا على أرض بيسان.
أحس بذلك. دعني اشتم رائحتها.
بيسان، كانت الأرض الخصبة التي حررت الخوف والشوق والترقب. بيسان التي جعلت للعشق لحظة انطلاقة بلا خوف. بيسان التي لم يشعر إلهها بالخوف او بتأنيب ضمير حين رحل أهلها الأصليين، وبقى كما هو هادئا في سكينته. بيسان التي حملت في ذاكرتها ألف عريس بالف ضحكة وزغرودة، والكثير من المعتقدات التي عاشها أهلنا. الحقيقة قصة العجين مالوفة ودارجة، اما قصة التخييط في الهواء جديدة. “سندفن بعضنا” يبدو جليا تأثر الكاتب بجلال الدين الرومي.
النهاية مفتوحة على كل التكهنات، ما دام الحب قد تحرر فحتى الموت سيكون هزيلا.
في النهاية أتمنى أن أكون قد أشرفت على لحظات النور في الرواية. أشكرك لكل هذا الزخم الرائع في التعابير، ولكل هذا التوثيق البديع الذي حملنا إلى ربوع الوطن بكل خفة وجمال وإبداع.
ننتظر جزءا آخر، جزءا يحملنا إلى نهاية سعيدة نصلي لله جميعا أن نكون جميعنا من شهودها، نهاية تليق بصبرنا ونبضنا وسنوات التيه التي عشناها وعاشتنا، نهاية تليق بالوطن الذي نعشق. دمت مبدعا.
كلمة ” فأنزوينا ” تحمل ألف معنى، لكني أريد المعنى الأقرب لقلبي. للحظات تصورت البطل وحنان قد تكوما كما كنا ونحن صغار حين يبللنا المطر. نحتضن بعضنا ونستجلب الدفء من أنفاسنا.
في النهاية أتمنى أن أكون قد أشرفت على لحظات النور في الرواية. أشكرك لكل هذا الزخم الرائع في التعابير، ولكل هذا التوثيق البديع الذي حملنا إلى ربوع الوطن بكل خفة وجمال وإبداع.
ننتظر جزءا آخر، جزءا يحملنا إلى نهاية سعيدة نصلي لله جميعا أن نكون جميعنا من شهودها، نهاية تليق بصبرنا ونبضنا وسنوات التيه التي عشناها وعاشتنا، نهاية تليق بالوطن الذي نعشق. دمت مبدعا.