مجموعة ومضات من خواطر بقلم رانية مرجية

تاريخ النشر: 10/06/25 | 6:04

ثلاث نكبات في يوم واحد

بقلم: رانية مرجية

في بلادٍ تعيش نكبتها يوميًا بثلاث لهجات: لهجة الداخل الفلسطيني، ولهجة الضفة الغربية، ولهجة غزة العظمى… بدأ اليوم كما ينتهي عادةً: بلا كهرباء، بلا أمل، وبكثير من التصريحات.

أولًا: الداخل الفلسطيني – حيث المواطن “عربي لكن مش كتير”

الحدث الأبرز في الداخل الفلسطيني اليوم لم يكن مظاهرة، ولا اعتقال، بل اجتماع بلدية أم الفحم لتقرير إن كان يجوز تعليق العلم الفلسطيني في “ساحة عامة”!

القرار النهائي؟ يجوز تعليقه بين الساعتين الثالثة والرابعة فجرًا، بشرط أن لا يكون العلم أكبر من كفّ يد، وأن لا يراه أحد غير موظف الصيانة.

وفي كفر قاسم، تم توقيف شاب لأنه ابتسم بثقة زائدة عند حاجز شرطي. الشبهات؟ “النية المبيتة للتحريض على الأمل”.

أما الأحزاب العربية؟ فهي لا تزال منهمكة في نقاشات “استراتيجية” على تطبيق زوم، يصرّ أحدهم أن الحل هو العودة للجماهير، بينما الآخر يرى أن الحل في العودة إلى أوسلو، والثالث يعتقد أن الحل هو في العودة إلى الله، لكنهم جميعًا متفقون على بند واحد:

لا أحد يعود إلى ضميره.

ثانيًا: الضفة الغربية – جمهورية التصاريح العظمى

اليوم في رام الله، تم افتتاح مهرجان وطني للتراث والهوية، برعاية مؤسسة ممولة من الاتحاد الأوروبي، وبحضور ضيوف أجانب لا يعرفون الفرق بين نابلس ونابل. في المهرجان، رقص الأطفال الدحية على منصة محاصرة بالجدران، بينما الجرافات الإسرائيلية تبتلع الأرض خلف الستار.

في جنين، الاحتلال اقتحم المخيم فجرًا. والسلطة أصدرت بيانًا “تدين فيه بشدة اقتحام المخيم”، وأكدت أنها “تُجري اتصالات على أعلى المستويات”… على واتساب.

وفي نابلس، أقيمت ندوة بعنوان: سبل بناء اقتصاد مقاوم… بينما المدعوون يركنون سياراتهم التويوتا المصفحة أمام الفندق.

ثالثًا: غزة – حيث ينتهي العالم قبل أن يبدأ

في غزة، أعلنت شركة الكهرباء أنها ستزيد عدد ساعات التيار… لكن في أحلام المواطنين فقط.

أما المعابر، فمفتوحة دومًا، بشرط أن يكون الخارج منها هو الأوكسجين.

اليوم تحديدًا، أعلن مسؤول أن إعادة الإعمار “تسير بوتيرة جيدة”، ولم يوضح أن هذه الوتيرة هي خطوة كل عامين.

فيما أقيم مؤتمر صحفي مشترك بين فصائل المقاومة، أعلنوا فيه عن موقف موحد من الأوضاع الراهنة: “نحن نراقب”.

أما الناس، فراقبوا بدورهم شاشة التلفاز… إلى أن انقطعت الكهرباء.

خلاصة المشهد

في الداخل الفلسطيني يُمنع الفلسطيني من أن يكون فلسطينيًا،

في الضفة يُسمح له أن يكون فلسطينيًا لكن بموافقة منسق الاحتلال،

وفي غزة… الفلسطيني فلسطيني لدرجة أنه لا يملك شيئًا سواه.

أحداث اليوم؟

عادي. الاحتلال يمضي، الانقسام يتمدد، والناس تحلم بالكهرباء أكثر من حلمها بالحرية.

لكننا سنظل نكتب، لا لنحرر الأرض، بل لنحرر عقولنا من هذا العبث اليومي…

فالحبر آخر ما تبقى لنا من ماء الوجه

أمةٌ لا تحيا إلا في النعوش… فهل نكتب شهادة وفاتها؟

بقلم: رانية مرجية

أمةٌ تعيش على أنقاض تاريخها ولا تملك من يومها إلا النحيب، أمةٌ تُزيّن جدران مدارسها بصور الأبطال الراحلين، لكنها تخاف أن تُنجب بطلًا جديدًا.

هكذا حالنا، للأسف، نُقيم الجنائز للأمل ونحتفل بالهزائم المؤرشفة.

في أزقة هذه الأمة العتيقة، تتدلّى صور المجد من السقوف، بينما تتعفّن الحرية في أقبية الواقع.

نُعلّق على الجدران مقولات صلاح الدين، ونمشي في ظلال سايكس بيكو.

نتحدّث عن عمر بن الخطاب، ونُدارى ظلّ الطغاة.

نُغني لفلسطين، ونُطبع مع محتليها.

أمّةٌ تُشبه قافلةً من العجائز تحمل مفاتيح بيوت مهدّمة وتوزّعها على أحفادٍ لا يعرفون من الوطن إلا نشيد الصباح.

نحن لسنا فقط أسرى الاحتلال الخارجي، بل عبيد تاريخنا.

نعيش على ماضٍ لا نعرف كيف نحفظه إلا بكثيرٍ من الرثاء، وقليلٍ من الحياء.

متى يموت الماضي فينا ليُولد الحاضر؟

لسنا ضد التاريخ، بل ضد تحويله إلى وسادةٍ نائمةٍ على خدّها أمةٌ كاملة.

التاريخ لا يُعبد، يُدرَس.

ولا يُروى كأنّه معجزة، بل كدرسٍ لمن أراد أن يعيش، لا أن يُعيد تمثيل المأساة بحماسٍ أرعن.

أمّةٌ لا تملك مشروعًا للحياة، بل مشروعًا لإحياء رموز موتاها.

أمّةٌ لا تعرف من المستقبل إلا التمنّي، ومن الماضي إلا التقديس، ومن الحاضر إلا الفراغ.

العدو في الداخل… لا تبحثوا عنه وراء الحدود

النكبة؟ نحن من نُعيد صياغتها كلّ يوم.

النكسة؟ لم تكن في 1967 فقط، بل تتكرّر كلّ صباح، مع كلّ تنازل، كلّ صمت، كلّ تطبيع، كلّ صفقة نخجل أن نُسميها خيانة.

كيف تُقاس حياة أمة؟

بالأمل؟

بالحرية؟

بالإبداع؟

بالعدالة؟

نحن نقيسها بعدد الوثائق القديمة، بعدد التماثيل التي لم تسقط، بعدد الكتب التي لا يقرأها أحد.

فمن يعيش من الذاكرة وحدها، يموت من الحقيقة.

يا حال… هذا هو الحال، فهل من سؤال؟

نُباهي الأمم بأننا كنّا… ولا نعرف أن نكون.

نُباهي أننا أنجبنا شعراء وفلاسفة ومجاهدين… بينما نُقصي كلّ مفكرٍ حي، ونكفّر كل من ينادي بعقلٍ لا قطيع.

أمةٌ يومُها ميت، وماضيها حي؟

بل أمةٌ تُقيم عزاءها كلّ صباح، وتُزيّن كفنها بزيتون قديم وأغانٍ وطنية منزوعة المعنى.

نحن بحاجة إلى ثورة، لا على العدو وحده، بل على عقولنا، على مناهجنا، على إعلامنا، على ثقافة التمجيد الأجوف، وعلى ديناصورات السياسة والفكر.

فكفى.

كفى قداسةً للماضي، وكفى خيانةً للحاضر.

متى تنتهي الحرب؟

بقلم: رانية مرجية

هل تنتهي الحرب؟ سؤال يبدو للوهلة الأولى بسيطًا، يُطرح بتنهيدة أو يهمس به عجوز من على عتبة الزمن، لكن الحقيقة أن هذا السؤال يحمل من الفلسفة والمرارة ما يعجز عنه أعتى الشعراء والمفكرين. ففي أرضٍ كفلسطين، حيث لا يبدأ السلام إلا ليُجهض، ولا ينتهي الموت إلا ليُستأنف، تصبح الحرب ليست فقط واقعًا سياسيًا، بل كينونة وجودية.

الحرب ليست بندقية فقط

كثيرون يختزلون الحرب في مشهد الدمار: قذيفة تهوي على بيت، طفل يُنتشل من تحت الركام، أم تودع شهيدًا. لكن الحرب في فلسطين أكثر خبثًا. إنها تمشي بيننا، تلبس وجه المعلمة المتعبة التي تشرح دروس الوطنية لتلاميذ سيُعتقلون لاحقًا، وتُشبه العجوز التي تتقن زراعة الصبر كما تتقن حياكة المفاتيح.

الحرب ليست فقط طائرات فوق غزة.

إنها الجدار الذي يشطر الضفة إلى أحياء وبوابات، والهوية الزرقاء التي تُمنع عن المقدسي لأنها “ليست يهودية كفاية”.

إنها السماسرة الذين يبيعون العقارات في الشيخ جراح بقلوب ميتة.

هي قِلة الحيلة في وجه الصفقات الكبرى، والإنهاك الجماعي حين يصبح الوطن سلعة تفاوض لا حُلم تحرير.

متى تنتهي الحرب؟ حين يتغيّر تعريفها

الحرب لن تنتهي لأن العالم لا يريد لها أن تنتهي. العالم لا يتحمّل صوت فلسطين وهي تصرخ. يريدنا أن نهمس، أن نموت بأدب، أن نحترق بلا لهب. أما حين نرفض الموت المجاني ونُصرّ على الحياة – رغم الأنقاض – عندها فقط، نخيف العالم.

الحرب ستنتهي عندما نكفّ عن تقبلها كقدر.

عندما يتوقّف الفلسطيني عن القول: “هيك الدنيا”، ويبدأ بالسؤال: “ليه هيك؟”.

عندما لا يُعامل الأسير كبطل لحظة الاعتقال، ثم يُنسى بين الجدران.

عندما لا تصبح المأساة مادة للتمويل والتوظيف، بل غضبًا نقيًّا يدفع للتغيير.

نهاية الحرب ليست وقف إطلاق نار

ما يُسمّى “هدنة” هو مجرد فراغ بين قذيفتين. لا يُنهي حربًا، بل يعيد ترتيب مسرح الجريمة. إن نهاية الحرب الحقيقية تتطلّب عدالة لا شعارًا، اعترافًا لا مساومة، حرية لا مراقبة على الحواجز.

تنتهي الحرب حين نتحرر – من الاحتلال ومن تشظينا الداخلي.

حين نكفّ عن تصنيف بعضنا البعض بخانات: مناضل بما يكفي، وطني حتى النخاع، مقاوم ولكن “بحدود معقولة”.

حين تُرفع اليد عن فم المثقف، ويُزال الخوف من حنجرة المغني، ويُكسر قفل الكنيسة، وتُفتح بوابات المسجد دون جندي.

الخاتمة: حربٌ داخلية أيضًا

ولأنني امرأة فلسطينية من الرملة، لا أرى الحرب فقط في الجيوش، بل في التفاصيل: في انتظار تصريح زيارة، في نظرة استعلاء من موظف بلدية، في امرأة تُنهر لأنها صرخت أمام ألمها، في مريض سرطان لا يجد تصريح علاج. الحرب ليست فقط هناك، بل هنا – في الروح. ومن هنا تبدأ نهايتها.

نعم، تنتهي الحرب.

ولكن ليس عندما يعلن ذلك المتحدث العسكري، بل عندما نُقرر نحن – نحن الذين نحمل الذاكرة واللغة والدم – أن لا نكون وقودًا لها بعد اليوم.

هل تتعلم الأحزاب العربية من لعنة الانقسام؟

بقلم: رانية مرجية

لماذا نصرُّ على تكرار ذات الخطأ، كل مرةٍ بأسماء مختلفة ولكن بالنتائج ذاتها؟

سؤالٌ لا يحتاج إلى محلل سياسي، بل إلى صراحة داخلية وقليل من الخجل.

تتحدث الأوساط السياسية في الداخل الفلسطيني عما يشبه اقتراب لحظة الحسم: انتخابات جديدة للكنيست قد تكون أقرب مما نتخيل، على وقع تآكل شرعية حكومة نتنياهو، وتورطها في حرب عبثية مستمرة على غزة، وفي إدارة لا ترى في الدم الفلسطيني سوى مادةً انتخابية رخيصة.

في هذا المشهد المتآكل، يعود السؤال الثقيل على قلوب كل فلسطيني في الداخل: هل تتوحد الأحزاب العربية؟

نحن لا نطلب المستحيل. لا نتحدث عن توحيد العقيدة أو حتى البرنامج، بل فقط عن الحد الأدنى من الأخلاق السياسية. هل يصعب على قادة “المعسكر العربي” أن يفهموا أن أصوات جماهيرنا ليست ملكًا شخصيًا ولا وكالات حصرية؟ هل من الصعب فهم أن الشارع العربي بات يلفظهم جميعًا لأنهم يتقنون لعبة الشتائم أكثر من لعبة التشريع؟

لنقلها بوضوح:

إن لم تتوحد الأحزاب العربية، فإن ما ينتظرها هو الاندثار الأخلاقي قبل السياسي.

الناخب العربي لن ينسى مشهد الانشقاقات المهينة. لن ينسى كيف تحولت الجبهة والعربية للتغيير والتجمع والقائمة الموحدة إلى خصومٍ يتقاتلون على بقايا مقعد، بدل أن يتحدوا لحماية كرامة هذا الشعب.

أية كرامة بقيت حين نشاهد في النقب البيوت تُهدم، وفي اللد يُدفن الشباب قتلى الرصاص، وفي أم الفحم تُهان النساء على الحواجز؟

إن لم تتوحد الأحزاب العربية، فلتعلم أن نسبة التصويت ستنهار. لن يكون هناك تمثيل، وسنعود إلى مشهد ما قبل 1996، يوم كانت الكنيست خالية من الصوت العربي. يومها لم يسمع أحد صراخنا. يومها لم يكن لدينا من يقرأ باسمنا الفاتحة على قانون القومية أو يرفع الصوت في وجه الميزانيات العنصرية.

لكن، لنعترف بشجاعة:

الانقسام لم يعد مجرد خطأ استراتيجي.

الانقسام صار خيانةً أخلاقية.

هل نحتاج إلى دلالات أكثر؟

انظروا إلى مشهد الجنوب، حيث الغارات لا تميّز بين طفل ومقاوم، وحيث الإعلام العبري يروّج للفاشية، في حين يسأل المواطن العربي: من يمثلني؟ من يدافع عني؟ من يقول للعالم إنني لست رقمًا زائدًا في معادلات الاحتلال؟

الجواب؟ لا أحد.

لأن نوّابنا يشتغلون في التجييش ضد بعضهم أكثر مما يشتغلون في الدفاع عن الناس.

أمامنا فرصة أخيرة.

إما أن تعود الأحزاب العربية إلى رشدها، وتشكّل قائمة واحدة بمشروع واضح غير قائم على المحاصصة، أو فلتنسحب بكرامة وتترك المجال لقوى جديدة تنبع من الحراك الشبابي، من نبض الشارع، من قلب أمٍ فلسطينية لا تزال تُعلّم أولادها أن السياسة ليست مهنة بل أمانة.

أما أن نعود مرة أخرى إلى صراعات عبثية على ترتيب الأسماء، فحينها… نقولها بأسى: وداعًا، ولا تلوموا إلا أنفسكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة