نظرة على ديوان “ظل السنديان على جبل كنعان” لسليم سليمان

بقلم: سيمون عيلوطي

تاريخ النشر: 09/06/25 | 14:02

في زمن أخذ فيه الشِّعر يتراجع، ويترنّح ويسير نحو الهاوية على جميعِ الأصعدةِ الفنيَّة، اللغويَّة، وكذلك غياب مختلف العناصر الضروريَّة والمطلوبة في الشِّعر، كالتّضمين، والتَّشبيه، والتَّرميز، والاستعارة، والإيحاء، والتَّلميح بدل التَّصريح، والانزياح، والتَّناص، أقول: إنَّ ظاهرة غياب هذه العناصر الفنيَّة-الضَّروريَّة في الشِّعر، أخذنا نراها في الآونة الأخيرة بشكلٍ جليٍّ في كتاباتِ الشَّباب خاصة، وقد ساعد على نشرِ هذه الإخفاقات “الشعريَّة” وجود وسائل التَّواصل الاجتماعي التي تُمكِّنهم من النِّشرِ بسهولٍ متناهية، كما أن بعض المواقع على الشَّبكةِ العنكبوتيَّة، وخلوِّها من المحرِّرين المختصِّين في مجالِ الأدبِ عامَّة، والشِّعر خاصَّة، ساهمت هي أيضًا في نشرِ كل ما هبَّ ودبَّ من هذه الكتابات المترنِّحة…الهابطة.
تجربة شعريَّة ناضجة
في هذا الجوَّ الذي تشوبه فوضى نشر عارمة جاءت مجموعة “ظل السنديان على جبل كنعان” للصِّديقِ الدكتور سليم سليمان، فـأعادت للشِّعرِ ماءَ الوجهِ، إن صَحَّ التَّعبير، وجعلتني أشعُر أنَّ الشِّعرَ الجيِّد لم يزل يُبشِّر بالخير.
عتبة الديوان: “ظل السنديان على جبل كنعان”، دعتني بحرارةٍ للوقوفِ عندها، فوجدتُ نفسي أقفُ أمام تجربة شعريَّة ناضجة، وأمام شاعر متمكَّن من أدواته. فظلِّ الشجرة عادة ينعكس أمامها على الأرض، في حين أن عدسة الشَّاعر هنا، التقطت صورة “ظل السنديان” ينعكس فوق الجبل، “جبل كنعان”. ويمكن أيضًا مشاهدة السنديان يعتلي قمَّة الجبل، ثم يعكس ظلَّه عليه.
الحداثة وشموخ السنديان
الصُّورة النَّصيَّة الحداثيَّة التي اختارها الشَّاعر عنوانًا لديوانِه، تُدلُّ على إدراكه أنَّ توظيف اللغة الإبداعيَّة هي إحدى العناصر المطلوبة في الأدبِ عامة والشِّعرِ على وجهِ الخصوص. هذا بالإضافةِ إلى البُعد الوطنيَّ-الإنساني الذي يحمله العنوان، باعتبار أن السِّنيان هو أحد الرُّموز التي توحي بانغماس الإنسان الفلسطيني عميقًا في ترابِ وطنيهِ، من جهة، وشموخه كالسنديان من جهة أخرى، أما ما يرمز إليه “كنعان” فأراه واضحًا، لا يحتاج إلى تفسير.
قصائد ذات نكهة مختلفة في الشِّعرِ المنثورِ
عند الغوص في قصائد الدِّيوان، نجد أن المشاهد الشعريَّة، أو بعبارة أدق، الصور الشعريَّة المجنَّحة، وما إلى ذلك من العناصر الشعريَّة التي وظَّفها الشَّاعر سليم سليمان في معظم قصائد مجموعته، أكسبت شعر النَّثر عنده أبعادًا استطاع من خلالها أن يرفع مستوى المضامين الوطنيَّة، الوجدانيَّة، والإنسانيَّة التي جسَّدها، إلى قدرٍ عالٍ من فنِّ البوح الشِّعري، ما جعله يُعوِّض من خلالِ تلك العناصرِ عن الأوزانِ المعروفةِ في الشَّعرِ العمودي، أو شعر التَّفعيلة، وهو بذلك أثرى مكتبتنا العربيَّة بقصائد جديدة، ذات نكهة مختلفة من الشِّعرِ المنثورِ، غاية في الجمال والكمال.
في هذا الصَّدد: يقول الشَّاعر سعود الأسدي في تقديمهِ للديون، “ظل السنديان على جبل كنعان”، (ما يميز هذا الديوان أن القافية الشعريَّة ضمنيَّة ومخفيَّة بين السطور. مع المحافظة على النَّغمة الموسيقيَّة للقصيدة) ويضيف: (اعتمد الشاعر على ابراز المشاهد الطبيعيَّة المستوحاة من قريته المهجرة صفوريه، وتغيير وظائف الحواس بالصورة الشعرية للقصيدة…مما يجعل قصائده لوحات نابضة بالحياة، تشهد على حسن إنساني عميق ورؤية شعرية متفرِّدة.) حيث يلتقي الجمال بالحقيقة، والحكمة بالعاطفة.)،”انتهى الاقتباس”.
المكان والإنسان في الديوان
قصائد المجموعة تفوح برائحة الجليل وتنصهر في مواقعه وبلداته لتحتلِّ كما جاء في قصيدة “قطعةُ نقودٍ نَسِيها الرُّومان” (ص:11) (زُرقةَ السماءِ ومرجِ ابنِ عامر/ وموجَ بحرِ عكا) إلى أن يقول في نفس القصيدة، (وتركت لنا مَسرحًا في صفورية وقيسارية… وشقائق النُّعمانِ ليزُهرَ، ليبشِّرَنا بالرَّبيعِ/ وبيتَ الحمامِ لننتظرَ حلولَ السلام، وبعضِ أعمدةِ الرُّخامِ مثلَ طيرِ اللَّقلق الحزين).
أما الإنسان، الصَّاحب الشَّرعي لهذه الأمكنة، المُعمَّد بمياهِ قسطلها، الحالم كالنَّدى على نُوَّارِ عطورِ بساتينِها، الحامل قضايا وهموم أترابه، والشَّاهد على بقاءِ جزورِهِ نابضة في الذاكرة، فقد رأيناه في قصيدة “الطُّيورُ تختفي خلفَ ظِلَّ الريِّحِ”، (ص:14) حيث يقول:
(مشيتُ خلفَ ظِلِّ الريحِ لأبحث عن حُلمي
لربَّما سقطَ في بئرٍ ولم يلتقِطْهُ بعضُ السَّيَّارة…
قلتُ في سرِّي: أنتظِرُ وِلادةَ ديوان شعرٍ جديدٍ دون اسمٍ
أو مدحٍ…قصيدةً عفويَّةً عابرةً خفيفةً على النَّدى
لا تغضِبُ إلهَةَ الحربِ أو تُعكِّرُ مِزاجَ الضَّحيَّة)
وفي قصيدة بعنوان، “لا أنتظرُ شيئًا منكِ”، (ص 96) يقول ما يلي:
(لا أحسنُ أخذَ رشفةِ قهوة
لأنَّ جميعَ الأواني انكسرت
لم أجد الوقتَ لأكملَ الانتظار
هل يكفي ما تبقَّى من اعتذار
لم أقف في صفٍّ واحدٍ مع الزُّوار
نظرتُ إليكِ في مُخيَّلتي الأولى
أستنسخُ الزَّمنَ لتعودَ الذِّكرى
كم بقيَ من هشاشةِ الوقت
لأرى من خافِ النُّورِ ظلَّلِ البعيد
لعلَّ سَوْسَنَةَ الكرملِ تبوحُ بسرِّها)
التَّجديد الدَّائري في قصيدة النَّثر
القصائد التي أوردتُ بعض أبياتها تُؤشِّرُ في رأيي إلى أجواء الدِّيوان من حيث الشَّكلِ والمضمون. فالشَّكل في بعض القصائدِ يأخذ إلى حدٍ ما شكل القصيدة الدائريّة التي اشتُهِرَ في كتابتها الشَّاعر العراقي الكبير حسب الشِّيخ جعفر، مع أنَّ التَّفعيلة الموسيقيّة عند جعفر هي التي فرضت على قصيدتهِ ذلك الشَّكل الدَّائري من حيث أنها لا تتوقف، بل تستمرُّ في مرافقة القصيدة إلى عدَّة أبيات، وفي بعض الأحيان تجري معها من أول القصيدة حتى آخرها.
غير أنَّ هذا الشَّكل الشِّعريّ الدَّائري في قصيدة النَّثر، فإنني لم أره عند شاعر من شعراء هذا النَّوع من الشِّعر إلَّا في مجموعةِ شاعِرنِا سليم سليمان، وهو بهذا الإنجاز يضيفُ للقصيدةِ النَّثريَّةِ شكلًا فنِّيًا جديدًا يِستحق من النُّقادِ والمهتمِّين الوقوف عنده ومعالجته بإسهاب.
ما معنى كلمة ارتقاء
ضرورة ارتقاء المضمون إلى مستوى الفنِّ في الحداثة الشعريَّة
بخصوص المضامين التي أشرتُ إليها سابقًا، أقول: لا توجد في الأدبِ والشِّعرِ خاصَّة، وفي الحياةِ عامة، مضامين قديمة، ومضامين جديدة، فالحياة هي الحياة، والموت هو الموت، والحب هو الحب، والبغض هو البغض، والحرب هي الحرب والسِّلم وهو السِّلم، والصيد هو الصيد، والخير هو الخير، والشَّر هو الشَّر، إلخ…إلخ…. ولكنَّ الذي يختلف من هذه النَّاحية هو طريقة التَّعبير عن هذا المضمون أو ذاك. بعبارة أخرى، فإنَّ التَّجديد في المضامين، يأتي من الزَّاوية التي ينظر من خلالها المُبدِع عامة إلى المضامين التي يريدها، فيصوِّرها بعدسةٍ سرديَّةٍ، فنيَّةٍ وإبداعيَّة، تمامًا كما فعل صاحب “ظل السنديان على جبل كنعان” في هذا الديوان، وأنا في هذه الجزئيَّة أسجِّل بثقة أنَّ شاعرنا استطاع أن يُحقِّقَ لقصيدتهِ ذلك التَّجانس المطلوب بين الشَّكلِ المضمون، بأسلوبٍ فنِّيٍ جديدٍ ومُبتَكَر.
الإغراق بالمحليَّة هو أقصر الطُّرق للوصول للعالميَّة
أرى أنَّ انشغال شاعرنا بالمحليَّة، من حيث الأمكنة والمضامين التي أبدعها في ديوانه، واستطاعته أن يرفعها إلى مستوى فنِّ البوح الشَّعري، استوجبَ ترجمتها إلى لغات أخرى، ذلك لأنه يقدَّم لأُولئك، أصحاب اللَّغات الأخرى المختلفة، نمازج لمضامين وأمكنة لا يعرفونها، وقد أحسن شاعرنا حين أوكلَ للأديب المصري حسن حجازي أن يقوم بترجمة قصائد المجموعة إلى الإنجليزيّة من منطلق الحاجة إلى مخاطبة العالم من حولنا، ومشاركته في قضايانا وهمومنا الإنسانيَّة، باعتبارها جزءًا لا يتجزَّأ من هموم العالم المتطلِّع إلى العدالة والحريَّة، وكذلك نشر أبداعنا على رقعةٍ واسعةٍ من هذه البسيطةِ الكُرَوِيَّةِ، ليكون عالميًا.
استلهام التَّاريخ وتوظيفه يُساهم في اغناء النَّص الشِّعري
كما أنَّ شاعرنا لم يتوقَّف في باكورةِ أعمالهِ الشِّعريةِ ذات الصِّلة بحديثنا، عند تلك العناصر الفنيَّة التي تطرَّقتُ إلى ذكرِها أعلاه فحسب، ولكنَّهُ أضاف إليها استلهام جوانب من التَّاريخ ِالعربيِّ، لاسيَّما في قصيدتِهِ بعنوان: “ليش تِتْرِكني” (ص104) جاء فيها ما يلي:
(لو خبيتك بعيني حتى يوم القيامة ما كفاني
تتركني وجرح ما يلتئم لو سرت حتى بغدادي
أين بنات العامريَّة يبكيني حزن وألم
مالي على الهوى وقد كتبت الشعر من حلب لشامي)
كم ركضت خيول بني تميم وتسابقت قدامي
أنت أنت اللي توسلت وسجدت تحت أقدامي
رح يجي اليوم اللي ترجع تبكي ومثل الطفل تترجاني)
الإشارات الواردة في هذه القصيدة، مثلَ: “بنات العامريَّة”، و”حلب لشامي”، و “خيول بني تميم” تستحضر للقارئ وقائع من التاريخ العربي، ليتماثل مع الواقع العربي-الفلسطيني المعاش، بكلِّ ما فيه من مآسٍ، وهمومِ، وويلات، مع الإيحاء ببزوغ فجر جديد بعد هذا الظلام الدَّامس.
تجدر الإشارة إلى أنَّ الديوان “ظلّ السنديان على جبل كنعان” للشَّاعر سليم سليمان، صدر عن دار سهيل عيساوي، للطباعة والنَّشر. باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، التَّرجمة الإنجليزيَّة للمترجم الأديب المصري حسن حجازي. تدقيق لغوي صالح أحمد كناعنة، يقع الديوان في (224) صفحة من الحجم المتوسط، وهو من الدواوين الشعريَّة التي أدهشتني لما جسَّده من تراكيب تعبيريَّة مبتكرة، لذا أرجو للشَّاعر أن يواصل رحلة العطاء ويدهشنا بإصدار ديوان آخر جديد.
(الناصرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة