قراءتي لقصيدة ” الناي” للشاعر الفلسطيني صلاح الفقيه

خالديه أبو جبل

تاريخ النشر: 31/07/23 | 23:12

«اصغ الى الناي وهو يقص قصته»
البيت الاول في كتاب المثنوي
لجلال الدين الرومي

جالساً في الركن
منتظراً قدوم الفجر
امتدُّ إلى ألف إختلاف
كلما مر بيَ الضوء أخاف

كنت أهذي
ربما أفسدني الحلم قليلاً
كيف أنساق بلا وعيٍ لاحلأمي العجاف

يدخل النهر المرايا
فاغتسل باللامبالاة

وعد من حيث تهت
لستَ من شاء
ولكن دون إدراكٍ الى ما شئت سرت
تحرس النهر الضفاف
واذا ضاقت على مجراه
اغواه الجفاف

يحمل النهر سباياه عرايا
والى وحل الرؤى يستدرجك

لا ترى ضوءا لتتبعه
ولا صوتا لتسمعه
ولا امراة بشهد كلامها الوردي عشقا تخرجك

ما الذي ينقصك الليلة غير الإعتراف
تاه ما فيك
وما تخفيه عنك يؤدلجك

ألف دهليزٍ تراوغ

كلما اتسعت منافيك تأمل خارجك

انت عاديٌ
وعاديٌ طريقك
والذي تمشي إليه نماذجك

فانزوي في ركنك المنسي
كي يأتي إليك النهر
واحذر أن ترى
فالنور إن اقفلت قلبك يزعجك

أنت لغزٌ
كنتَ فيك متاهةً
فاجمع بقاياك التي اغوتك
ما آمنت فيه يحاججك

أعطاك فلسفة النعامة
ليس إلا الرمل قاموساً يعرِّف منهجك

لك ما تبقى من شظاياك
انتظم
واذهب بكامل ما خسرتَ
إلى سؤال ينضجك
واجعل رؤاك تؤججك

واعرف جهاتك من غزاتك
من اناشيدٍ سبتكَ
وقد حبتكَ تأدلجك

ما أنت إلا ما فقدتَ
وما تركتَ على هدوء النهر عند تموجك

فاذهب بعيدا عنك
واخرج منك تبصر منهجك

يحتاجك العدم السحيق
فقد يعيدك للوجود توهجك

ويلملم الانَّات
من فوضى حنينك ينسجك

فكما اناخ لك الوجود
لفهم ما معنى وجودك…… احوجك

قصيدة تعانقت فيها كل الفنون الجميلة
حتى ضاقت المسافة بين الشعر وبين كلّ هذه
الفنون.
فلو قلنا عنها انها قصيدة سردت لنا رواية، كان قولنا صحيحا.
ولو قلنا اننا شاهدنا فيلما سينمائيا مرتب العناصر و المشاهد واللقطات، لكان قولنا صحيحا ايضا.
فقد جاء ترتيب اللقطات مدروسا على نحو
يُحدث تأثيرها المطلوب في نفس القارئ
، حيث اعتمد الشاعر على ترتيب اللقطات في رسم الجو النفسي
الذي يريد رسمه وفق اسلوب المونتاج المبني

على اساس الترابط بين اللقطات،
فحصل الشاعر على ما اراد من ترك إحساس
عميق بالحزن والوحشة والذبول. ومن ثم النهوض.
التقط الفقيه من الواقع المادي “الناي” ورسم حولها هذه الصور الشعرية بكل ما فيها من مكونات شعورية ونفسية وفكرية، مستندا بذلك
لخصائص الناي، دائم الحزن وكأنه في حالة حنين دائم لأمه القصب!

هي اذن قصة الناي شاعرنا
تسردها بعدما أسرّت إليك بما أدهشك
عزفتها كزفرة مسروقة من ذات ضوء
أطل على ثقب الناي فأججك…
تقضي الناي عمرها حزينة
تعزف نحيبا باكيا
متخذة ركنا في جوف الليل
تبثّه حزنها، وتشكو خوفها
من النور ، إذا جاء…

يحمل جراحا في الجسم والقلب ، واحساسا ثقيلا بالخوف والهذيان لا يستطيع ان يخفيه…
تفوق احلامه قدراته، لا يقوى على الوقوف امام النهر، نهر يعري حقيقته ووحدته وعجزه
” يدخل النهر المرايا
فاغتسل باللامبالاة
وعد من حيث تهت
لستَ من شاء
ولكن دون إدراكٍ الى ما شئت سرت
تحرس النهر الضفاف
واذا ضاقت على مجراه
اغواه الجفاف”

يبقى الناي مهزوما ، لا حول له ولا قوة ،
تتكاثر عيدان القصب على الضفاف، تضيّق اطراف النهر ، لكنها لا تمنع جريانه، ولا تحد من قوته، فياخذ سباياه عرايا

“يحمل النهر سباياه عرايا

وإلى وحل الرؤى يستدرجك”

هي لعنة العجز ، نابتٌ في الوحل ، منزوع من وحل، فلا تكون رؤاه الا الى وحل!…
فلا ضوء، ولا صوت ، ولا عشق يؤججك

“ما الذي ينقصك الليلة غير الإعتراف
تاه ما فيك
وما تخفيه عنك يؤدلجك”
هذا التجسيد البارع للمعاني والاحاسيس التجريدية التي تقف شاخصة بوجه القارئ
تجعله يدرك انه امام شاعر استطاع بخياله
النافذ ان يقرب بين الناي والانسان العربي المهزوم من الداخل، والذي لا بد له من وقفة
اعتراف جريئة ، ليعيد أدلجة افكاره، وحساباته
مع نفسه اولا، قبل الآخر

“أنت لغزٌ

كنتَ فيك متاهةً
فاجمع بقاياك التي اغوتك
ما آمنت فيه يحاججك”
كم اختزل الشاعر هنا بكلمات قليلة كثيفة
حالة وطن باسره، إنسانه يؤمن بشعارات
ومبادئ ، بينه وبينها الاف الاميال،
يستنهض الشاعر قارئه او نايه او ذاته
يطالبه باتباع الفعل للقول،
“ما آمنت فيه يحاججك”
كفاك مراوغة وقد اتسعت منافيك، كفاك
نفخا في صورتك ، كفاك دفنا لراسك في الرمال كالنعامة، وحدها الرمال تشبهك وتعرفك !

لك ما تبقى من شظاياك
انتظم
واذهب بكامل ما خسرتَ
إلى سؤال ينضجك
واجعل رؤاك تؤججك”

يتابع الشاعر وهو الذي لا يعرف اليأس استنهاضه لما تبقى من شظايا
بتوجه جاء على القضية الفلسطينية
بشكل ايحائي رائع، ما تبقى من شظايا…
إشارة للفلسطينين في كل انحاء العالم…
واذهب بكامل ما خسرت
خسارة الوطن
“الى سؤال ينضجك”
كيف نهزم هزيمتنا ؟!
” واجعل رؤاك تؤججك”
اذن فالمطلوب رؤية حكيمة قوية تقبل
التطبيق على ارض الواقع،
ولتصل الى هذا الحد من النضج والقرار السليم
راقب عدوك وارقبه لتحدد اتجاهاتك بدقة
وما عدو لك الا آل صهيون وكيانهم
وقد جاءت كلمة سبتهم لتعوض عن ذكرهم.
“واعرف جهاتك من غزاتك
من اناشيدٍ سبتكَ
وقد حبتكَ تأدلجك”

في نقلة شاعرية ذكية ينتقل الشاعر من حالة
البعثرة واليأس والاوهام ، ليلملم ويدعو الى لملمة ما فًقد من ثقة وشجاعة وايمان بالنفس
يعيد للذات توهجها ونورها وطريقها،
فما احوجنا لفهم معنى وجودنا…

ما أنت إلا ما فقدتَ
وما تركتَ على هدوء النهر عند تموجك

فاذهب بعيدا عنك
واخرج منك تبصر منهجك

يحتاجك العدم السحيق
فقد يعيدك للوجود توهجك

ويلملم الانَّات
من فوضى حنينك ينسجك

فكما اناخ لك الوجود
لفهم ما معنى وجودك…… احوجك

أنصتّ للناي تسرد قصتها، وما حكت الا قصتي
وقصته، وقصتك…
شكرا لبحور الشعر إذ ساقت سفينتك الينا
هي اكثر من انحناءة تقدير واحترام

خالديه أبو جبل
الجليل الفلسطيني
31/7/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة