د.صافي صافي:العابرون والمقيمون في رواية تزوجت شيطانا”/ لكفاح عواد
تاريخ النشر: 22/06/25 | 18:02
(صدرت الرواية عن دار المفكر العربي للطباعة والنشر/ القاهرة عام 2023 في 232 صفحة من القطع المتوسط)
قصة ماريا/ مريم مرقص، ابنة الدباغ، ليست قصة ساندريلا
المسكينة التي عاشت في ظروف صعبة، فأنتشلها القدر إلى النعيم، وليست “جبينة” فلسطين التي عانت هي الأخرى حتى تزوجت
الأمير. لا تكون النهايات دائما سعيدة كما في أفلام الستينيات
والسبعينيات من القرن الماضي، بل هي قصة الفلسطينية التي
يرميها القدر من سيء إلى أسوأ، من الفقر والبؤس إلى اليتم،
للهرب والبحث عن حياة، فلا تجد حياة، فلم تعد تمتلك ما تعيش
لأجله.
ماريا ابنة الخربة، التي لعبت في الأزقة مع صديقتها “دميانة”،
وحلمتا؛ كما غيرهن؛ بالزواج ليشعرن بالاستقلال، ويملأن بيوتهن بكبشة صغار أو كبشتين، فلم يتحقق ذلك، واستبدلت دميانة ب
“زينب” ابنة الشيخ عمران، وتزوجتا من “نوريين”، إبراهيم زوج زينب، البائع المتجول، وعبد النبي/ بنيامين زوج ماريا،
فرزقتا “ليا” و “نتانيا”، و “يعقوب” و “هيلانة”. إن هروب ماريا
من “خربتها” رغم الظروف القاسية في الكنيسة والميتم المنوي
إرسالها إليه، لم ينتج إلا هذه النهاية، رغم أن السذاجة قد طالت
مناطق أخرى كتلك التي وجدت فيها نفسها، بلدة الشيخ عمران
وابنته زينب، فمجتمعك يكون حيث أنت، وكل المجتمع في تلك
الفترة كان يتحلى بالبداهة قبل النكبة، مجتمع تيه وبساطة دون
نباهة، فهي جزر مترامية، يحكمها شيخ، ويوصل بينها “يوسف”
الذي يبحث هو الآخر عن لقمة العيش ويشارك في مقاومة السقوط، ولم ينجح، وهذه قصة أخرى.
إن الفعل الحالي هو ما يرسم المستقبل، وقصة الخلاص بهذه
الطريقة، التي من الصعب التعاطي معها، هي ما أوصلتها لتلك
النتيجة، فما معنى أن تقوم ماريا، بالهرب لأجل الهرب، ليس لها
وجهة معينة، ودون هدف واضح، بين الجبال والأودية، بين المغر والحيوانات المفترسة على الأرض، والثلج الساقط من السماء؟ ما
معنى أن ترسم أحلاما في الهواء، وتقفز على أرض طرية دون
تخطيط، فالهرب لأجل الهرب لن يوصل لنتيجة مرضية، حتى لو التقت صدفة ب “يوسف” الطيب، وحتى لو احتضنها بيت الشيخ
عمران. هذه هي أحداث الرواية، فالوقوع في “المعصية” مع
داوود في الخربة، وخوفها من العيش في ميتم في بيت لحم، ليس مبررا لهروبها، وربما هذا ما قصدته الروائية كفاح عواد. فبيت
والديها لم يحسم أمره بعد، ولم تعد “شهلا العرجا” بتلك المكانة
رغم شراستها، والمجتمع لا يتخلى عن حالات كهذه. بل إن ماريا
تقرر إرسال ابنتها “هيلانة” إلى بلدتها الأصلية قبل أن تجد نفسها في مخيم الزرقاء.
صحيح بأن “النور” وما شابههم كانوا منتشرين في البلاد، لكنهم
شكلوا حالات من البناء المجتمعي، وصحيح أنه تم هناك بعض
التصاهر مع المقيمين رغم ندرته، إلا أنه من غير المفهوم أن
يكون هؤلاء الاثنان (إبراهيم وبنيامين/ عبد النبي) مقطوعين من
شجرة، ولا يمكن تبرير ما حدث إلا بسذاجة أجيال أجدادنا
وأجدادهم، بالتخلص من عبء العنوسة، حتى لو تزوجتا “مارق
الطريق”، فالزواج ليس هو الهدف، بل كان التشدد أكثر مما
لاحظناه في الرواية. ربما كان هدف الروائية أن تضيء على هذا الواقع لنقده، وليس لتبريره.
ماريا اليتيمة واللطيمة، تتربى في بيت “خالتها” “حنينة”، وترسل
كخادمة في بيت الرب، و “تغتصب” من داوود/ ساقي الكنيسة،
وتهرب إلى مغارة، وتلتقي “يوسف”، وتعيش سنوات في بيت شيخ القرية، وتتزوج من بنيامين. أي تحول هذا الذي يجري؟ هل هذه مراحل تحول هذه البلاد من الحكم البدوي العشائري للفترة
المسيحية ثم للإسلامية، ثم لليهودية؟ هل مشاهدات زينب وماريا
لزوجيهما لم تكن كافية لكشفهما؟ أم أن هذه صيرورة الأحداث؟
طارت كل أحلام ماريا، فابنها اختطف من والده، وأوصت بإرجاع “هيلانة” إلى بلدتها، وهي رحلت شرقي النهر، شتات في شتات،
دون هدف، ودون إشارات، إلا ما يقوم به يوسف بين منطقة
وأخرى. هل الشتات هو من سيصنع المستقبل أم يعقوب الذي
صار في الموقع المعادي، أم “هيلانة” التي عادت لخربة أمها؟ هل التشرذم والسقوط هو المآل؟ ظل الجواب معلقا، فأحداث الرواية لم تنته بين أغلفتها.
مقتل الشيخ عمران، شيخ القرية، وبيت الثائرين، يحتاج لوقفة، فهل سقوط الشيخ ومقتله سيكون نهاية الذين يأوون المقاومين؟
لا تتضح الصورة، فيوسف الأصغر سنا ما زال يتجول بين بلدة
وأخرى، والأمل ما زال باق رغم مأساوية حال ماريا.
سأقف قليلا عند ثلاث حالات من “المسمار”، بالمسمار له علاقة
بالصلب، والتثبت والاستخدام، لكن معناه يتغير عبر الرواية، فبعد موت والدة ماريا، كان طيف السيد المسيح يزورها، ليضفي عليها مسحة من الهدوء والطمأنينة والسكينة، فأخذت تتحسس الجدار،
ووجدت المسمار قد دق في وسطه، فقررت أن تزيله حتى لا
يخدش طيف النبي، فأدمت يدها، فلم يعد هناك حاجة لتعليق
ملابسها، فتبحث عن علاقة ما مع الرب. وكذلك مسمار الدير،
المسمار الصدئ الذي يحمل مرآة، فهي لا تود رؤية نفسها، فالمرآة تريها حالها الممزق داخليا وخارجيا، لم تتصالح مع حالها، رغم
أنها رأت فيها طيف العذراء، التي لم تعد في الدير عذراء،
فاستبيحت، وتشرذمت لتقع في وضع لا يحتمل. وفي الحالة الثالثة يتحول المسمار كأداة للأمل لتضع عليه الخالة صبحة ما تنسجه
الصنارة للصغار القادمين للحياة. فالمسمار الأول تم خلعه، وهذا
ما ينسجم مع معتقدات “النور” حين سرقوا مسمار السيد المسيح
ليخففوا عنه الأمل، والمسمار الثاني لترى فيه أم السيد المسيح،
والمسمار الثالث للحياة القادمة، ولا أظن أن الروائية كتبت ذلك صدفة.
وقفة أخيرة عند حالة الرواية التي استمتعت بأحداثها ولغتها
وسلاسة أحداثها، وسعة إطلاع كفاح عواد خاصة الدينية
والاجتماعية، وهي ليست وصف للحالة بشكل عام والتفاصيل، بل هي نقد للواقع، من أجل أن نفهم أنفسنا، ونبني لما هو قادم.
فالصبايا اليوم لم يعد الزواج هو الهدف بحد ذاته، بل الزواج من
أجل ماذا. والقيادة السياسية المقاومة تجاوزت الشيوخ والمتجولين الثائرين، والدين يتسع حتى للخطاة، والخرب لم تعد كذلك، والكل
يعرف الكل، والمارون سيظلون مارين.
ما جاء في الكتب السماوية، ليست “كوميديا”، بل “تراجيديا”،
مآسي ومواعظ من أجل الخلاص، بالصعود إلى العلياء، فوق
مآسينا، وصنع الخير فرديا وجماعيا، من أجل الحياة الكريمة في
الدنيا والآخرة. بل إن الديانات خاطبت المظلومين أكثر من
الظالمين، لأنهم هم أدوات التغيير، وهم مآلاته. ماريا، واحدة
منهن، فهم أم الحياة، وصانعة الأخلاق والمحبة والسلام، وإن كان بعيدا كما في الرواية، بعيدا عن الأهداف الصغيرة، والرغبات
المؤقتة، فظلت معلقة بابنها وابنتها، وإن غابت.