ليلــة الاعتقــــال

تاريخ النشر: 18/05/21 | 12:50

قصة: نبيل عودة

الباب يقرع بشدة. افتحوا ابواب الداهرية ليدخل الأباليس. أو هي غادة حسناء جاءتني لأتغطى بها بدل اللحاف. أين اللحاف؟ عادة سيئة أن أقذف به كل ليلة على الأرض! لا أريد ان أتحرك لأجذبه بالرغم من أن نسمة هواء باردة تجعلني اتكور على نفسي كالقنفد.

من يقرع الباب .. وبإصرار وقح؟!

ما أروع النوم عندما تحتويك فكرة، بأن ما تتغطى به ليس لحافًا، وإنما حسناء. ليقرع الباب وليصحو غيري، انا لن أقوم!

قلت لها قبل أن تغادر بي الطائرة موسكو، بأني أشعر بأن قدمي تسوقانني للسجن.

قالت ببراءة ودهشة، وهي تضم ذراعي الى صدرها الدافئ، وسط نهديها:

– ولكن لماذا.. هل انت شرير؟

النهدان ينقلان لي، عبر ذراعي خفقات قلبها الواجفة المذهولة، لا تفهم ولن تفهم. والقرع أصبح في دماغي، رأسها يغطس وسط صدري، اضغط وجهها بيدي واتنشق عبيرها الأخاذ، قالت بتسليم:

– أكيد شرير.

اخذت رأسها بين ذراعي، وذاب الفضاء الفاصل بين شفاهنا، مددت ساقي بقوة، وأردت أن اتغطى جيدًا. قرع متواصل شديد. لن أقوم .. افتح؟ الجنة مغلقة!! أحلامي هي الجنة، والقرع هو جهنم، فكيف استجيب؟

– متى ستعود الي؟

– تعالي معي.

– لا أعرف لغتكم.

– أنا أعرفها

تلاقى القطبان، فحدثت ارتجاجات صدرية، النعومة تتحدى القرع، لن أقوم.

– ابق معي.

– يا ليت.

– انت لا تحبني.

– يروق لي ان أراك سعيدة.

– لا تهرب من الجواب.

– أكون حزينًا ان خطف الدهر ابتسامتك.

– أنت لا تحبني.

– أكون سعيدا بوجودك الدائم معي.

– لماذا لا تقول لي الحقيقة؟

– لأنك تعرفينها.

وغرقت في مد من قبلاتها، وعندما جاء الجزر .. كان القرع يتواصل بشدة.

هل أنا نائم؟

نحن غارقان في مقعد مظلل بالأشجار والليل والنسيم، ونهو موسكو يعكس النجوم بوضوح، وبجانبي التعاسة المنتظرة.

– اعترفي..

– انت تستطيع ان تسيطر على قلب المرأة..

ومدت يدها، وانفرجت اصابعها في حركة تشنجية ثم ضمت قبضتها وأضافت:

– هكذا..

– ولكني لم أخدعك..

– من يعلم؟

– أنتِ!

– أنا أعطيتك كل شيء.

– هذا يحز في نفسي.

– جميع الرجال من نوع واحد، أنانيون..

– لم أكن استطيع ان أرفض.

– أنا كنت أستطيع.

– ولكني استطيع ان اسيطر على قلب المرأة.. هكذا؟

وقلدت حركتها، واضفت

– وعندها آخذ ما أريد!

– أنت وحش .. شرير.

– لذلك أنا ذاهب الى السجن.

ورطبت دموعها المالحة شفتي .. افتح. قرع شديد ينرفزني، منذ شهرين لم يذوبنا العناق. لم تذوبنا القبل. لم نغب عن الوعي في انشودة الخلق .. منذ شهرين وآلاف الأميال تفصل بيننا، وأعصابي تتوتر من الطرق، ولكني جائع للنوم، للدفء والأحلام، لا شيء حولي، لملمت نفسي شاعرًا ببعض البرد حتى كادت ساقاي تلامسان رأسي. القرع شديد، من يقرع؟!

ها هي تطل بشفافيتها ورقتها، وجهها المشرق يحمل مسحة حزن. أمس بكت عندما خسرت عذريتها، واليوم تعطيها مسحة الحزن التي تظلل جمالها، رونقًا، ذا فاعلية شديدة.

وصلت الي وتأبطت ذراعي، ولم تقل أي حرف. سرنا في اتجاه غير معروف. لا أعرف ماذا اقول لها. اشعر بارتباك شديد. ضميري يعذبني. هل أخطأت؟؟

طلبت مني ألا أهتك عذريتها، واللذة لا تعرف حدودًا. استسلمت، وها هي اليوم حزينة، مستسلمة لعشقها وعاشقها.

وصلنا الى حديقة غوركي. جلسنا. لففت ذراعي حول كتفيها. استسلمت والقت رأسها فوق كتفي. لحظات وسالت دموعها بغزارة.

ازداد ارتباكي. يجب ان اقول شيئًا، قلت:

– اني أتعذب..

قالت من خلال دموعها، وهي تحيط خصري بذراعيها:

– ليتني لم أتعرف عليك.

– كفي الدمع.

– لم يبق لي شيء غيره.

– وأنا .. هل تنازلت عني؟

– ستعود الى وطنك، وتكون لك واحدة غيري.

القرع شديد، أحاول أن أستوعب مصدره، فأرى وجهها، فاهتف:

– أحبك.

بحلقت بي عيناها الدامعتان بدهشة، ويداها تضغطان ذراعي.

– نعم أحبك..

– لا أصدق..

دموعها تثيرني، وشفتاها؟ لم أكن أستطيع ان أقاوم.

– أحبك.

قلت بقوة وضممتها الى صدري، وأخذت شفتيها بين أسناني، استسلمت لحظة، ثم ابعدتني عنها بقوة.

– سيرانا الناس.

كانت ابتسامة حزينة تعتلي شفتيها:

– حبنا أقوى من الناس.

أخذت تجفف دموعها. كنت أشعر بحزن شديد. كثيرًا ما حاولت أن تجرني لأقول لها أحبك، ولم أرد ان أعترف بالحب. فأنا لا أستطيع ان أكون لها. ولكن يجب أن تكوني سعيدة يا حسنائي، انتزعت منك الشيء الذي لا ثمن له، فلأعطيك بدلاً منه كلمات، صادقة أم كاذبة؟ وما الفرق؟! الست سعيدة بها …؟ أحبك. أحبك. أحبك.

أخذت اردد هذه الكلمة .. واخرجتني ابتسامتها التي أشرقت كشمس الفجر من حزني واضطرابي وتوبيخ ضميري. وواصلت الترديد بنشوة، رغم الضجة التي لا أعرف كيف تتسرب لنشوتي:

– أحبك.. أحبك .. أحبك.

وضعت اصابعها فوق شفتي، وقال بمرح حزين:

– أحد الأمثال الروسية يقول: ان الحب هو مجنونان اللذان يصنعان الثالث.

– ولكنا لم نصنع الثالث بعد..

– انا وأنت اثنان..

– والثالث؟

– دعك منه، فلن يكون.

– أحبك.. أحبك .. أحبك.

– هذه هي حصتي منك.

– لماذا أنت حزينة؟

– بل أنا سعيدة..

– لن اخطئ معك مرة أخرى.

– فات الأوان، لم يعد مجال للخطأ.

– لا أفهم.

– هل تحبني؟

– ألم تقتنعي بعد؟

– اذن فأنا كلي لك.

– أنت رائعة.

– لقد أعطيتك كل شيء.. أعصابي .. عقلي .. جسدي.

– هذا هو الحب الحقيقي.. أنت أغلى شيء عندي.

لماذا هذه الضجة؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟

– ما أعطيتك اياه لا أستطيع ان استرده. وانت تستطيع ان تسترد كل شيء. انا قدمت اقصى ما تستطيع فتاة أن تقدمه وانت لم تقدم سوى حبك.

– من الممكن ان تصبحي فيلسوفة؟

– الرجل يلقي بجراثيمه في كل مكان، والمرأة تتلقى فقط!!

– عدم مساواة جدير بالدراسة.. ولكن بالمقابل قدمت حبي.

– شكرًا، سأحتفظ به في أحشائي.

– سنصبح ثلاثة؟

– سنبقى اثنين.. مجنونين.

– ولكن.

– أنا الآن اريدك.

– كما أردتك أنا أمس؟

– بل كما أردتني دائمًا.. ومنذ أول يوم.

– وهل انت لم تريديني مطلقًا؟

– الآن زال الحاجز.

– أنا المذنب.

القرع على الباب ينرفزني، يجذبني من أجمل أيامي، سراب يشملني. اين أنا، ولما الضجيج؟ وحبيبتي تتوهج قربي، رائعة كما أعهدها. دفنت رأسي في صدرها هربًا من الضجيج. احطتها بذراعي، قبلتها في اعلى عنقها، احتمت من شفتي بصدري، ورغم الضجيج وصلني صوتها الحزين.

– متى ستسافر؟

– بقيت سنة وآخذك معي.

– هنا وطني.

– وهناك أنا.

– أنت لست وطني.

– سأعطيك أكثر..

– كل شيء يفنى.

– هذا مشترك لنا.

– ما عدا الوطن.

– انت عنيدة.

هزتني قرعة في قمة الشدة، فعدت الى نفسي، الآن أميز قرعًا حقيقيًا على الباب، ترى من يقرع الأبواب في منتصف الليل؟ هل أقوم؟

أمس، عندما قمنا بالمظاهرة تنبأت بالاعتقال. طريقة بوليسية كلاسيكية دمقراطية. هل يكون البوليس؟! لا أحد غيره يستعمل الدمقراطية لإقلاق راحة الناس في الليل. قرع متواصل مرفق بكلمات عصبية، يروق لي ان أتحدى. لن أقوم. حنين جارف لاستعادة الذكريات العاطفية، قرع وقرع ثم قرع. النوم يشدني بقوة مغناطيسية تفوق شدة القرع. يسرني أن أجرب الاعتقال. لا شك أني متوهم. هل يعقل ان اعتقل على عمل لم أفعله بعد؟

هنا دمقراطية، هنا ..

– تفتاح مشطاراة .

(كلمتان بالعبرية : افتح شرطة)

قرعت أذني تلك الكلمتان العبريتان. يبدو أني غارق في حلم اسرائيلي. هل يجوز ان تصل السخافة الى حد اعتقالي؟ أشعر بحركة خارج غرفتي. جزء من الحلم أم أحد افراد العائلة سحبه القرع من نومه؟ لأنام بعمق ولأزيد مقلقي راحتي نرفزة. الضوء يملأ غرفتي فجأة. والدي يهزني… شيء من التثلج يسري في أطرافي، أريد أن أنام، ان أستعيد ذكريات الانفتاح العاطفي، ذكريات الدخول للرجولة بمعانيها وأبعادها المختلفة. لا أروع ولا أجمل من ذكريات عهد جديد انفتح في الأفق، وجهها المشرق يلوح لي… أحاول ابقائه في ذهني.

هزة عنيفة تجعلني استعيد الواقع. نرفزة وقهر يعترياني. لن أقوم قبل الهزة العاشرة. التثلج يذوب ويتحول الى تحد. التحدي يطرد النوم. الشرطة تنتظر، وأنا لن أقوم قبل ان يطول بهم الانتظار، قرعوا طويلا ما شاء لهم القرع، فلينتظروا ما شاء لي، وما راق لي أن أماطل. أحاول ان أعود لفتاتي، ابحث عنها في وعيي وفي لا وعيي. أناديها بصمت وإصرار. انتظر طيفها. ابتسامتها. عطرها. يعتريني القلق… هزة جديدة. هل هي العاشرة؟ أو ربما العشرون؟ اذن لأفتح عيني بمشيئة الآب والابن والروح القدس والدمقراطية والشرطة.

* (كتبت عام 1970)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة