عروس في زمن الحرب

تاريخ النشر: 26/03/20 | 18:13

بالرغم من سطوع شمس ذلك اليوم وشدة حرارته، إلا أنني شعرتُ بقشعريرة سرتْ في بدني لم أستطع أن أحدد سببها؛ أهو ما وصل لسمعي من نشرة الاخبار؛ أم هو كثرة الالتزامات التي تنتظرني هذ اليوم؛ لقد كان عليَّ القيام بالتزامات كثيرة تتطلب مني التنقل بين الناصرة ونتسيرت عليت والعفولة؛ لينتهي يومي بحضور حفل زفاف لقريب العائلة. فكرتُ بأن أتصل بعبير لنأجل ذهابنا الى العفولة، لكني أبيتُ أن أرضخ لتعكر مزاجي وعدم شعوري بالارتياح غير المُبرر، وقررتُ أن أنفذ برنامج يومي بحذافيره وكما خططتُ له.
في طريقنا الى العفولة، أخبرتُ عبير، صديقتي ذات الروح المرحة، عن سوء حالتي النفسية وتعكر مزاجي، فبدرتْ عنها ابتسامة خفيفة ولربما ساخرة، وقالت: “إتِرْكك من هلحكي وحكيلي وين قررتِ تسافري هاي الصيفية”؟ أجبتها: “بعدني مش عارفة وين بالزبط، العطلة بعدها بأولها وكمان في عندي أعراس للقرايب هالأسبوعين، بعد ميخلصو بقرر”. ثم أضفتُ: “هاي إزا ضلينا بخير”. فقالت: “معك حق إزا ضلينا بخير، اسمعتي الصبح الأخبار”؟ “سمعتها، الوضع بطمنش، مع إنو وينتا يعني كان الوضع بطمن؟
أنهيت وعبير المَهمَّة التي جئنا من أجلها الى البنك في العفولة بوقت أقل مما توقعناه، فاقترحتْ عبير أن نجلس لنستريح قليلا في أحد المطاعم القريبة من البنك، قبل أن ان تبدأ جولتنا في حوانيت الأزياء في المدينة. وافقتها الرأي ودخلنا الى أحد المطاعم؛ وبينما نحن في انتظار ما طلَبنا، لفت انتباهي سلوك أحد المتواجدين في المطعم، حيث وقف من مكان جلوسه وراح ينصِتُ لما تقوله المذيعة في الراديو باللغة العبرية. فِعلتُه هذه أدّتْ لأنْ يصمت الجميع في المطعم، بما فيهم أنا وعبير، وأخذنا جميعا نصغي لأقوال المذيعة: “حزب الله يقوم بعملية أدت إلى أسر جنود إسرائيليين… ولم أسمع ما جاء بعد هذه الجملة؛ كانت هذه الجملة كافية لإثارة قلقي من جديد وإحياء مخاوفي إزاء ما قد يحدث في المنطقة. شربت العصير الذي قدمه النادل بيدين مرتجفتين ووجه عابس، وهمست في اذن عبير بما قد يحصل في المنطقة نتيجة ما سمعناه، بل بما يمكنه أن يحدث لنا في المطعم إن بقينا فيه لمدة أطول وساءت أكثر الأخبار التي تصل الموجودين فيه؛ فقد كانوا جميعا من اليهود سواي وسوى عبير. خرجتُ من المطعم مع صديقتي عبير وألغينا فكرة التجول في حوانيت الأزياء، لنعود الى الناصرة؛ فقد تيقنا أن الحرب قد اندلعت، وسيشهد التأريخ بأن هذا اليوم، الموافق 12 من شهر تموز (يوليو) من سنة 2006 هو اليوم الأول لنشوب حربٍ، بدأت بعملية أسر جنود إسرائيليين على يد حزب الله، لتتحول الى حربٍ لعينة، استمرت لمدة 34 يوما.
لم يكن اندلاع الحرب بأمر غريب عليَّ، فمنذ ولدتُ في هذه البقعة من الأرض، وإمكانية نشوب حرب في المنطقة دائما كانت قائمة. لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا بالنسبة لي، ففي عصر اليوم الثامن للحرب، الموافق العشرين من تموز، ذهبت لصالون الحلاقة لأعدُّ نفسي لسهرة عرس قريبي، وصادف، أن العروس كانت في ذات الصالون الذي كانت صاحبته تبذل أقصى اهتمامها لتظهر العروس بأبهى صورة تليق “بعروس الموسم”، كما أحبتْ صاحبة الصالون أن تطلق على العروس.
كانت المُزينّة ومعها العاملات الأخريات منهمكات بعملهن، وضجيج السشوار قد ملأ ارجاء المكان ومنعنا من سماع صفارة الإنذار؛ ففوجئنا بسماع صوتٍ دوى عاليا، فأثار الرعب فينا.
توقفت العاملات عن العمل وهرعت إحداهن الى المذياع وشغلته لتسمع أخبار الخامسة مساءً، فجاء صوت المذيع متقطعا بسبب لهاثه، وكأنه أسرع في الهرب من ملاحقةٍ ما وقال: سقوط صاروخ في الناصرة وسنوافيكم بالتفاصيل…
سقوط صاروخ؟ في الناصرة؟ كيف ذلك؟ ومن يصدق ذلك؟ ولكن كان علينا أن نصدق ذلك، لأن صوت سقوط الصاروخ كان مدويا وأدى الى ارتجاجات في المكان، وهذا يعني أنه قريبٌ من مكان تواجدنا. خيم الخوف والقلق على المكان، وساد الهرج والمرج، واختلفت ردود الأفعال؛ فهناك من بكت، وهناك من أسرعت للحمام، وهناك من أخذت تهاتف عائلتها، وهناك من أرادت العودة الى بيتها كتلك التي ركضت باتجاه الباب تنوي الخروج وهي تقول:
– ابني، ابني حبيبي، تركتو اليوم عند حماتي، يمكن هناك سقط الصاروخ …
فأمسكت بها صاحبة الصالون ومنعتها من الخروج حرصا على سلامتها؛ وهنا؛ سمعنا مراسل الإذاعة ،لاهثا هو الآخر، يقول: لقد سقط الصاروخ في حي “كوكب الشمال” ونتيجة لذلك، أصيب عدد من الأطفال بجروحٍ بالغة …..
ماذا؟ كوكب الشمال؟ أطفال؟ تجمدتُ في مكاني ولم أعد أسمع ما يدور من حديث في الصالون. كوكب الشمال؛ هذا الحي الذي يبعد عن مكان الصالون مسافة 3 كم فقط، هو حي حديث نسبيا، يقع شمال الناصرة ولا يبعد كثيرا عن القرية المهجرة ” صفورية”، أما سكانه فهم مزيج من السكان، جاءوا الى الحي من جميع أحياء الناصرة والقرى المحيطة بها.
سيطر القلق عليّ، ووجد الشيطان فرصته ليوسوس لي، وفجأة سمعت صاحبة الصالون توجه كلامها لي: “أكيد علّمتي حدا أكبر من عيلتهن لهدول الولاد، لأنهن مساكين بعدهن صغار بتعرفيهنش”. وجهت صاحبة الصالون حديثها لي بعد أن كان قد تأكد خبر مقتل الشقيقين ربيع ومحمود (4 و7) سنوات بالرشق الصاروخي الأول على الناصرة.
عادت صاحبة الصالون والعاملات لمتابعة عملهن بعد توقفٍ عنه لأكثر من نصف ساعة، وسط هرج ومرج، ووجوم العروس التي ربما قالت في نفسها: “غدوتُ الآن العروس في زمن الحرب”. اما انا؛ فقد حبستُ دموعي لكي لا يراني احد وأنا أبكي، وقد كلفني ذلك جهدا نفسيا كبيرا. كان حزني شديدا على زهق روح طفلين بريئين، وعلى زهق ارواح غيرهم من ضحايا الحرب، إلا أن حزني كان أكبر على “معتز”. معتز؛ ابن الثالثة عشرة سنة والابن الأكبر للعائلة وشقيق المرحومين، أعرفه جيدا، وأعرف مدى انكساره، نعم مدى انكساره بالرغم من خصاله الجميلة والطاقات الذهنية التي كان يتمتع بها لم تكن ابتسامته الحزينة تفارق وجهه. ماذا يشعر الآن؟ صعبٌ أن أتخيل. تنبهتُ الى أن صاحبة الصالون تضع لمساتها الأخيرة على مظهر العروس لتنهي عملها، أما أنا؛ فالكثير من العمل ينتظرني بدءاً من الغد.
******************
بقلم، جميلة شحادة، كاتبة فلسطينية من الناصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة