في رحابِ مكتبتِه

تاريخ النشر: 10/05/18 | 20:30

تغريد يحيى- يونس

كم وقفت أواخر ستينات القرن الماضي مندهشة من ضخامة مكتبته، وعدد الكتب على أرفُفِها، وقدرته على الإبحار فيها، حين لم أدرِ ما الكتاب ولم أتمكّن من القراءة بعد. غطّت مكتبته جدارين من جدران الغرفة، أعمدة خشبيّة مدعّمة بأخرى حديديّة تصل إلى أرضيّة الغرفة تحمل أرففها الخشبيّة وتثبتها إلى الحائط، وتنضّد الكتب على الأرفف بطريقة آسرة ما كنت لأفقهها حينها، ففي بعضها يراعى حجم المؤلفات، وهو ما تلتقطه العين دونما عناء على صغر الناظرة. لكن، ما سرّ ترتيب الكتب وأخذها مواضعها على النحو الذي تظهر فيه؟ سؤال ما حزت على الإجابة عليه خلال مرحلة الطفولة، ولم أسأله أصلًا، وإن كنت في جيلنا ممن لم يتورعوا من السؤال، لكن مقارنة بما أتيح لأجيال لاحقة وبما لا يقارن مع جيل اليوم، بقي حجم الأسئلة ونوعها في حدود ما عرّفه الأدب والتهذيب وما تحمّله الكبار.
لم يحظ جيلنا بمكتبة مدرسيّة في المرحلة الابتدائية، لا ولا بزاوية قصص في الصف، ولم نخرج في رحلة مدرسيّة تعليميّة لزيارة مكتبة في مكان ما. المكتبة العامة الأولى التي عرفتها كانت في المرحلة الاعدادية، في قبو بناية المدرسة، أو ما كان يسمى بالملجأ. وإذا غابت عن ذهن أجيال عهد الانترنت حقيقة أنه لم تكن أيّة إمكانية لرؤية مكتبة عامة افتراضية أو الكترونيّة دون أن تبرح غرفتك، أذكّرهم بواقع ما قبل الانترنت. لهذا تمامًا ولما سيأتي ذكره أدين لمكتبته الخاصّة بالكثير الكثير، وأتذكرها بحنين وحنينيّة، أكاد أستشعر فيها ملمس الكتب ونوعيّة ورقها وأسترجع رائحتها.
في منتصف السبعينات وبالتزامن مع دخولي المرحلة الاعدادية بدأت أحتاج مكتبة. كانت مكتبته المكتبة الأولى التي استخدمت. أزوره في بيته وأسأل عن الكتاب الذي أريد أو عن المادة التي أحتاج. كم كانت تصيبني دهشة من معرفته أيّ الكتب يستلّ من بينها، وكيف عرف موضعه، وكم كنت أنبهر من التقاطه من متن الكتاب المادّة التي تجيب على ما أبحث عنه، وكم كنت أحبط من صغر الكتابة، بعينيْ قارئة مبتدئة، ومن تراص السطور في الصفحات وحجم الكتب، والأهم قلقي من ألّا أحقّق هذه المقدرة فيّ. كم كنت أنبهر مما يتلوه عليّ من معلومات قصدته فيها، وكم حدث أن سارع في القراءة دون مراعاة أنّ هذا فوق مقدرتي، أو أنني أصغر من أن أحيط بما يتلو عليّ، فلم أتمكّن من متابعته أو اللّحاق بسرعته، فازداد إحباطي … لكنّي لم أوجّه له ملاحظة على ذلك يومًا، إذ فرحي في رحاب مكتبته أكبر من أن يشوّشه كلّ هذا، وإذ كان يشغلني السؤال: هل سيأتي يوم أستطيع أنا الأخرى “التحويق” على كتاب كامل؟ كم كنت أغبطه وأتوق للتمكّن من المطالعة وعالم الكتب كما هو!
وحيث غادرت الطفولة إلى مرحلة الصبا، وغدت القراءة والمطالعة غاية ما أردت وأبعد ما تمنيت، تدخلني عبر أبواب ما كان ليشرّعها مفتاح آخر، وتأخذني إلى عوالم ما كانت لتنقلني إليها وسيلة أخرى، صار باستطاعتي أن أختار الكتاب الذي أريد، أطالعه وقد تتناوله بالقراءة بعدي واحدة من شقيقتيْ من نفس الفئة العمرية، قبل أن نعيده سليمًا محفوظًا نظيفًا لمكتبته. جلّ ما احتوت عليه مكتبته كان في الأدب، شعرًا ونثرًا، وفي النقد الأدبيّ واللغة والقواعد، والمعاجم، والتاريخ والفكر والمجلدات الموسوعيّة والكتب الدينيّة (تفاسير القرآن وبعض كتب الفقه). لا يبرحني شعور التفرّد حين وفّر بين يديّ وعلى وجه السرعة كتاب جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسّرة، حيث طلب منا معلم اللغة العربيّة في الصف السابع قراءته وتلخيصه، لتكون هذه بداية معرفتي بالمؤلف والانتقال لقراءة بقيّة مؤلفاته، وقصص وروايات كثيرة لمؤلفين عرب آخرين، والمؤلفات الموسوعيّة لأحمد أمين، فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، بأجزائها … واستمرت مكتبته تسعفني كلما تعذّر، لسبب ما، توفّر ما أنشد في المكتبة العامة في دراستي في المرحلة الثانويّة.
خلال كتابتي هذه السطور، وكلما استذكرت المكتبة الأولى التي نشأت عليها، لا تغيب عن ذاكرتي هيئته في المشهد. ببدلة رسمية وربطة عنق وحذاء نظيف، حتى في فصل الصيف، بعد يوم عمل في التدريس، يقف أمام مكتبته ليوفر لي ضالتي. حتّى حينما انبرى يقرأ في مرجع ما، عادة ما قام بذلك وقوفًا بهيئته تلك. أذكر بابتسامة أنه انتقى بعناية بدلاته وربطات عنقه، وتفرّد في هذه الهيئة ليس في محيط العائلة فقط، حيث في هذا الجيل أبناء البلدة القرية الذين اعتمدوا البدلات الرّسمية لباسًا يوميًا لهم يعدّون على أصابع اليد الواحدة. ليس غريبًا أن خصصتُه بربطة عنق راقية من الحرير مصنوعة في إنجلترا في أول سفرة لي إليها، لأكرر ذلك مع عودتي وأسرتي من دراسة ما بعد الدكتوراه في لندن.
ليس الكتاب في المرحلة التاريخية التي أتحدث عنها بالشيء سهل المنال، ولا هو برخيص الثمن نسبيّا. فالكتب تقتنى بميزانيّة لا يستهان بها من مدخول الفرد الذي يستهويه عالمها ويسمح لنفسه بممارسة الهواية، وموطن الكتب ودور النشر والمكتبات التي تبيعها هو المدن، وصناعة الطباعة ليست باليسر والسهولة والمناليّة كما هي اليوم. وبالتوقّف عند موطن الكتب نستذكر أن القاهرة وبيروت ودمشق وعمان وعواصم المغرب العربيّ لم تكن متاحة لفلسطينيي الداخل جرّاء عزلهم عن المحيط العربيّ منذ النكبة وتأسيس إسرائيل. احتلال إسرائيل للضفة الغربية وشرقيّ القدس عام 1967 أعاد تواصل الفلسطينيين عبر طرفيْ “الخط الأخضر”، وحوّل المدن الفلسطينيّة الجبليّة – نابلس، طولكرم، القدس ورام الله – مصدرًا لاقتناء الكتب والصادرة منها في العواصم العربية لدى شريحة المثقفين على قلّتهم آنذاك.
إنّ تكوين مكتبة بيتيّة خاصّة في السياق والظروف المحليّة والقطريّة والإقليميّة آنفة الذكر يزكيها بقيمة اجتماعيّة ومعنويّة وماديّة لا تقدّر، والانكشاف المبكّر على مكتبة من هذا الصنف وفي تلك المرحلة التاريخيّة هو استطلاع لعالم خفيّ وكنز ثمين لم يتسنّى إلأّ لقلّة من النشء في بلداتنا. أمّا التجربة وإسقاطاتها على الشخصيّة فعميقة وذات أوجه لا يمكن استجلائها بالكامل في هذا النّص القصير، والذكريات ذات الصّلة لا يمكن الإحاطة بها في هذا المقال، وقد حصرتها في رحاب المكتبة تحديدًا، وليس في الاستعداد للخروج من البيت إليها، وفي الطريق إليها وعلى هامش ارتيادها وفي العودة منها. ذلك في مناسبة ووسيلة أخرى.
أمّا مالك المكتبة وفارسها فحاضر فينا رغم أنّ الموت غيّبه، وذكراه عطرة، والرغبة بالكتابة عنه لا تقاوم، إلى أن حلّت الذكرى السنويّة الثالثة لوفاته والتي تصادف اليوم، 10 أيار 2018. لروح معلمي الأول المرحوم الأستاذ سليم الأمين، عمي سليم، رحمة من الله وسكينة وسلام.

تغريد يحيى- يونس

اقرأ المزيد:حين يستحضر الفيسبوك مدارج طفولتي: وفاءً للأستاذ المرحوم سليم يحيى
وفاة الحاج سليم أمين يحيى من كفرقرع

المرحوم الأستاذ سليم الأمين يحيى

‫25 تعليقات

  1. سلمت اناملك معلمتي القديرة على هذه اللغة الرائعة بحق المعلم الموقر والجار المحترم الذي علمني ثلاث سنوات ….
    رحمه الله وأسكنه فسيح جناته

    1. حفظك الله.
      عالية يونس، يا حبذا لو تتواصلين معي على الخاص. شكرا.

  2. سلمت اناملك معلمتي القديرة على اللغة الرائعة والكلام المؤثر
    بحق استاذنا الغائب الحاضر في قلوبنا….رحمه الله وأسكنه فسبح
    جناته

  3. الله.يرحم.استاذنا.المحترم.تعلمت.عنده.ثلاث.سنوات.بموضوع.النجليزي.والله.يديمك.لنا.يا.معلمة.تغريد.

  4. شكرا لك ام مجد على هذه الكلمات الرائعه والمعبره . الله يرحمك يا عمي سليم ويسكنك فسيح جناته

  5. ان كلماتك معبره واسلوبك مشوق كعادته معلمتي القديره ……رحمه الله فهو ايضا كان معلمي الذي ما زالت معزته في القلب ……..كم اتمنى ان ينتقل الضمير الحي الذي عهدناه عند اساتذتنا في سلك التعليم لقسم من معلمي هذه الزمان ……اااااخ بس

  6. بارك الله فيك خيتا ام مجد على ابداعك بوصف مكتبه عمي الاستاذ سليم والمامه بكل ما تحويه. قديش كان سند ومصدر النا بكل ما نحتاج، قديش كان يحب يساعدنا ويعلمنا بل يتوسع بالمعلومات ويتشعب بوصف الكاتب وما حول الكتابه والتفسيرات والتمكن من اللغه العربيه وادبها وقواعدها. التمكن من القرأن وتفسيره وكثره المطالع عن السيره النبويه والاحاديث اغلبها ومسببات كل كتابه. طيب روحك بقبرك عمي سليم وتبقى ذكرى حيه وحلوه في عقولنا

  7. رائعة دكتورة تغريد. وصف رائع ولفتة انسانية بنكهة تاريخية. أعادتني بالذاكرة الى مكتبة طفولتي في دار عمتي مريم رحمها الله. كم كنت استمتع حين كنت “اسرق” بعضا من وقت اللعب لاجلس في غرفة الضيوف، لأقرأ وأقرا ….
    اروح عمك الاستاذ سليم الرحمة ولتبق ذكراه عطرة في قلوب طلابه ومحبيه.

    1. أشكرك دكتور حسام على تصنيف النص.
      جميل هذا التذاكر …
      رحمة الله لعمتك مريم

  8. ر حمك الله أبا نزار فذكراك منذ الطفولة وحتى الشراكة في العمل والأخلاص به لا تزال في ذاكرتنا .مع الشكر والتقدير للدكتورة على ذكراك الطيبة وأسأل الله أن يتغمده برحمته بذكرى حلول الشهر الفضيل شهر البر والأحسان .مع تمنياتي أن يبلغنا الله رمضان الخير وكل عام والجميع بخير وهناء.

    1. بارك الله بك، أستاذ خيري -أبو سمير، وخفظك برعايتة.
      صدقًا، خلال كتابتي عنه وعن تلك الفترة الزمنيّة، كنتَ من أبرز من مرّوا بخاطري …
      رمضان مبارك وكل سنة وانت سالم.

  9. رحمه الله…جزء من طفولتي …كان معلما رائعا ..له خالص الحب والتقدير …من علمني حرفا صرت له عبدا!! من المعلمين القلائل اللذين اثروا بي..اسكنه الله فسيح جناته

  10. بارك الله بك أستاذ خيري -أبو سمير، وحفظك برعايته.
    صدقًا أقول، خلال كتابتي عنه وعن تلك الفترة الزمنية، كنتَ من أبرز من مرّوا بخاطري …
    رمضان مبارك وكل سنة وانت سالم.

  11. لا فض فوك دكتورة تغريد .
    رحم الله استاذنا ومعلمنا الاستاذ سليم يحيى فقد حظيت أن أكون إحدى طالباته ، وكم استشعرت فيه عظمة القاريء المعلم المثقف الذي ينطبق عليه القول ” خير جليس في الزمان كتاب”.

  12. كل احترام ورحم الله استاذنا العزيز

    تتلمذ وتخرج ع يده كثير من الطلاب من القريه وغيرها
    استاذنا العزيز رحمة الله عليك نكن لك احتراما وتقدير وندعو الله ان يتغمدك برحمته الواسعه
    الفاتحه

  13. معلمتنا تغريد نريد تحليلك لموضوع العائليه والحماءليه ومن يغذيها من المتعلمين. حتى تصبح قريبه للمافيا،ما هو رايكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة