قراءة في شعر عاطف محمد أسعد يونس ابن عرعرة

تاريخ النشر: 31/07/17 | 19:17

عاطف محمد أسعد سلامة يونس شاعر مجيد ومبدع من بلدنا عرعره. عاش في مدينة الزرقاء بالأردن. في عام 1981 كان في بيروت ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، ومنها انتقل إلى الجزائر حيث عاش مدة طويلة.
لكي يكتبَ الناقدُ العالم بصدق عن شاعر معين يجب عليه أن يبحر في تاريخه الحياتي، أي في سيرته الذاتية، بكل تقلباتها وطقوسها ومحطاتها، وفترات التراجع والتوقف، وفترات ذروة العطاء والتوهج، وهي بيانات مهمة على طريق النقد لتعريف القراء والسامعين بالشاعر.مشوار حياته يمثل النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948 وما تلاها مرورًا باحتلال الجزء الباقي من فلسطين عام 1967 وقيام منظمة التحرير الفلسطينية وحرب لبنان عام 1981. ولد في قرية عرعره عام 1942. في عام 1950 هاجر مع والده إلى الأردن نتيجة الضغط الهائل الذي مارسه الحاكم العسكري على الناس لمغادرة البلدين ببيع أراضيهم للقيرن-قييمت. لسنا بصدد تقييم تلك المرحلة من تاريخ بلدنا لكن من الضروري بمكان الإشارةُ إلى أن سماسرة عرب نشطوا في تلك الفترة لإغراء الناس على بيع أراضيهم والهجرة. كما مارس الجيشُ أعمالاً قمعية ضد السكان تمثلث بمنع التجوال في ساعات النهار، في إطلاق النار فوق رؤوس الشباب لإيهام أهاليهم بأنهم قد قتلوا. كثرت الاجراءات القمعية لدفع السكان للبيع، بلغ عدد الأسر التي باعت 43 عائلة، ثلاث عائلات من عاره وأربعون من عرعره. أحد الذين غادروا القرية كان محمد أسعد سلامة يونس وذلك رغم بقاء والده أسعد وزوجته في عرعرة. قسمت العائلة بين عرعرة وبين الأردن.
ظل الحنين إلى الأهل والوطن يشد المغتربين والمهاجرين وينفي الكرى عن أعينهم. كان الصبية والأشداء منهم يجيئون خلسة إلى البلد ليقضوا عددًا من الأيام، أما الباقون فكانوا يأتون في المناسبات والأعياد إلى نقاط الحدود الواقعة في وادي المية(برطعة)، أو بالقرب من عين السهلي في المنطقة المعروفة بالعمرة قبالة أم الريحان ليلتقوا أهلهم وذويهم، ثم يعودون أدراجهم من حيث أتوا. على الرغم من أن دوريات الجيش الإسرائيلي كانت تلاحق المهربين والمتسللين (بين قوسين) وتنصب لهم الكمائن، إلا أن الحكم العسكري كان يغض الطرف عن تلك اللقاءات العائلية إلى أن قرر يومًا وبدون سابق إنذار أن يضرب بعنف وهمجية.!
حدثني المرحوم غازي علي محمد سلامة قال: في أحد أيام العيد(يقصد عيد الفطر بتاريخ 25/6/1952) وصل إلى البلد خبر مفاده أن أقاربنا القاطنين في حي العرب(الأردن) وصلوا إلى منطقة العمرة للمقابلة. ذهبت إلى هناك مع جماعة كبيرة ممن كان لهم أقارب. أخذنا معنا صبيًا اسمه عاطف محمد أسعد يونس، وهو ضيف جاء من الزرقاء لزياره جده أسعد ، ما أن اجتزنا عين السهلي، ولما نعبر الحدود، حتى بدأ الجيش بإطلاق النار علينا دون تحذير أو سابق إنذار. استشهد اثنان هما: أحمد خالد سلامة وسعيد عبد الرحمن أسعد يونس، وأصيب خمسة بجروح منهم: عاطف في رأسه(ابن 9-10 سنوات)، جده أسعد، غازي علي محمد سلامه(الراوي)، مصطفى العتيلي من خور صقر. نقلوا الجثامين مع الصبي الجريح إلى مستشفى رمبام في حيفا، وهناك لم ينجح الأطباء في استخراج الرصاصة من رأس عاطف، وكتب الله له النجاة فلما تماثل للشفاء سلموه للأردن.
لن أطيل عليكم في الحديث عما جرى حيث نجح الشاب محمود رشيد يونس في إثارة زعماء حركة هاشومير هاتسعير، فجاء للعزاء في المسقاة حاييم كافري رئيس المجلس الإقليمي منشه، بيرتس شيف مختار معانيت وليفي أديب مختار كيبوتس عين شيمر، فطلب الحاكم العسكري منهم الحضور إلى مكتبه فور تقديم واجب العزاء حيث ألقى القبض على بيرتس وأديب وزج بهما في السجن وقدمهما للمحاكمة فحكمت المحكمة عليهما بدفع غرامة مقدارها 30 ليرة أو بالسجن شهرا كاملا، فآثرا السجن، وقامت مظاهرة في مركز شرطة كركور وأثيرت القضية من على منصة الكنيست، فأجبر بن غوريون على الوعد بأن يدفع تعويضًا لأسرى الشهداء.
الرحيل أثر في نفس الشاعر عاطف محمد أسعد حيث يقول في مؤلفه عبد الله الساكت يتكلم:
يا سيدي أسعدُ يا عملاقَ الخطاف
يا روحَ الروحاء
هل كنت تطالعُ كفَّ الغيب
وتقرأ أسرارَ الأشياء
أذكرُ أنك ذاك اليومَ لعنت أبا القافلة العمياء
أذكر أنك قُلتَ: الموتُ هنا
أشرفُ من عيشِ الغرباء
هل أنت الأمي تُرى
أم نحن الجهلاءُ الجهلاء
غادرنا الفردوس المحتل، وهِمنا في الأرض
وكانت مرحلةُ الخيمة
من منكم جرّبَ بعد العز وبعد الجاه
حياةَ الذلة في العتمة
قالوا في كل الساحات لنا:
بعتم وهربتم فزتم بالصفقة
ويرى عاطف أن هذا المنطق ليس جديرًا بالبصقة.(ص 74-75)
والقافلة التي يشير إليها الشاعر هي التي خرجت من عرعره مرددة واحنا نوينا على السفر وبخاطرك يا بلادنا..!
وعاطف في كتاباته يبدي تأييدًا كاملاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في نضالها في بيروت عام 1981، وتأييدًا لجمال عبد الناصر في لاءاته الثلاث في الخرطوم، وهو يرفض رفضًا باتًا اتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1977، ويدعو الشعب المصري إلى الثورة ضد فرعون مصر يقصد السادات. وهو ضد اتفاقية أوسلو الموقعة بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو يدعو إلى التمسك بحق العودة، ويرفض فكرة التوطين، هو رافض للواقع الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، هو رافض للشعر القديم رغم أنه ينظم على بحوره، وهو يدعو إلى الكف عن السكوت، هو وعبد الله واحد، وعبدالله أخذ يتكلم، وعبد الله هو الشعب الفلسطيني، أو لنقل العربي، والغريب في الأمر أن المناضل حمزة يونس اتخذ موقفًا مشابهًا، ولم يَعد أو يُعد من الجزائر إلى رام الله. وقد سمعت أن كتاب قافزو الأسوار الذي صدر باسم حمزة كتبه عاطف محمد اسعد رواية عن حمزة يونس.
نلمس لدى الشاعر عاطف نزوعًا إلى الصوفية وقد تجلى ذلك في كتابه(رابعة وعبد الله والعصفور الأخضر).
للشاعر ثلاثة مؤلفات وهي:
1.شموس في الليل، دار الشروق، عمان، 1998م، وهو ديوان شعر
2.رابعة وعبد الله والعصفور الأخضر، دار الشروق، عمان، 1997.. سماها رواية شعرية.
3.عبد الله الساكت يتكلم، دار الشروق، عمان، 1998. سماها ملحمة شعرية.
لكي أذيقكم شهد القصيد دعوني استفتح وإياكم بهذه النفحات من قصيدة (علمينا إلى روح أبي سلمى) التي ألقاها عاطف في الذكرى الأولى لوفاة الشاعر الفلسطيني الكبير عبد الكريم الكرمي المعروف بأبي سلمى والتي نشرت عام 1981. يقول مخاطبًا روح أبي سلمى:
علمينا كتابة الحرف سيفًا
علمينا قصائدَ الغليانِ
نحن يا قدسُ لو علمتِ فقدنا
هيبة الشعر في حزام الأمان
نتسلى بفاعلٍ وفعول
ونغني فما تقول الأغاني
همهماتٌ طلاسمٌ وشوشاتٌ
حشرجاتٌ مجنحات الهوان
رب حرفٍ يتيه مثل عروس
هو كالصفر في حساب المعاني
كان للشعر رونقٌ ومضاءٌ
حين كان المخاض فوق الحصان
يقصد المتنبي الذي مات على ظهر حصانه لما قال له عبده كيف تفر وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني *** والرمح والسيف والقرطاس والقلم
يا أبا سلمى أين منك ليبٌ
يصهرُ الثلجَ في دم الشريان
وهنا هو يشير إلى قصيدة لأبي سلمى مطلعها:
انشر على لهب القصيد *** شكوى العبيد إلى العبيد
شكوى يرددها الزمان غداً إلى الأبد الأبيد
قوموا اسمعوا في كل ناحية يصيح دم الشهيد
ويقتبس عاطف من قصيدة أخرى لأبي سلمى حين يقول:
جمع الشعر حين قال جهارًا
من فلسطين ريشتي وبياني
عشقَ الأرض فهي في السلم سلمى
وهي في الحرب ثورةَ البركانِ
إن قلبًا توحدت فيه سلمى
هو قلب الشعوب والأوطان
وهنا يشير إلى قصيدة لأبي سلمى التي يقول فيها:
من فلسطين ريشتي وبياني *** فعلى الخلد والهوى يدرجانِ
من فلسطين ريشتي ومن الرملة واللد صغتُ خمر الأغاني
من شذا برتقال يافا قوافيها ** ومن سهل طولكرم المعاني
وأبو سلمى وعاطف يعشقان فلسطين بمدنها وقراها وسهولها وجبالها، بحواضرها وبواديها بقاصيها ودانيها.
وعاطف لا يكتب قصيدة معارضة بمعنى هو لا يكتب قصيدة مشابهة لقصيدة شاعر آخر على نفس البحر والقافية والروي في نفس الموضوع، والمعارضات في الشعر العربي مشهورة، كما أنه لا يغير على شعر المتنبي وأبي سلمى وميخائيل نعيمة وغيرهم، فيكتب قصيدة على منوالهم لأن ذلك يعد سرقة أدبية وهي مذمومة ولكنه يكتب بشكل مستقل على البحر الخفيف بطريقة تشد السامعين. هو يستعمل التناص في الكتابة، وهو استخدام النصوص الشعرية القديمة من أجل الإتيان بمعان جديدة. وللتناص شروط لن نلج إليها الآن. كانت كتاباتُ من سبقوه رموزًا وعلاماتٍ تدل على سعة ثقافة الشاعر عاطف الذي يعرف الأصفهاني والمتنبي وأبي سلمى. وهو يتقن التراث بقصصه الغريبة مثل قصة أيوب المصري وقصة العصفور الأخضر أو كما سمعناها من جداتنا بالطير الأخضر. هو الطفل الذي ذبحته زوجة أبيه، وتحول إلى طائر أخضر وانتقم ممن ذبحته.. هو يوظف كل ذلك في ايصال فكرة عدم السكوت على الواقع المقيت، يعني نستطيع أن نقول أنه يتخذ موقف الرفض ومبدأ الثورة.
كلما ارتفع مستوى الشاعر الذي نحن بصدد تحليل قصائده ونقدها ارتفع مستوى النقد وازدهى، وزاد استمتاع الناقد بالكتابة واستمتاع القراء كذلك، حتى لتبدو كلمة الناقد قطعة فنية مستوحاة من عالم الشاعر.
يقول الشاعر عاطف محمد أسعد يونس: (ص37-38)
في قصيدة يا حادي العيس
قل للجماهير قاصيها ودانيها
ملَّ الغناءَ وملّ العيس حاديها
يا حادي العيس ما عادت تحركها
حتى السياط التي أدمت حواشيها
كانت وكنتَ إذا غنيتها طربتْ
واليوم أنتَ إذا غنيتَ تشقيها
ثم بعد التساؤل يردف قائلاً:
أتساء لَنَّ: وما شأني بقصتها
أنا ابن نكبتها الأولى وراويها
أعيش منذ قرون في حواضرها
وما تزال جذوري في بواديها
وكم لقيت عناء في محبتها
وكم رَفضتُ بديلا عن تآخيها
اقرأ على القدس عن بعد تحيتنا
وإن دنوت فقبّل مسجدًا فيها
في مجلس الأمن من أوراقها هرمٌ
وفي الطواحين فيضٌ من مراثيها
وسرعان ما يغضب فيقول:
تلك الملايين ما جدوى تسكعها
على الرصيف وما جدوى تباكيها
وهو يصنع التناص مع قصيدة محمد بن القاسم والتي يغنيها صباح فخري:
يا حادي العيس عرّج كي نودعهم
يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ
ويلي من البين ماذا حلّ بي وبها
من نازلي البين حلّ البين وارتحلوا
وعلى منوال قصيدة(أخي) ميخائيل نعيمة التي مطلعها:
أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله
حتى يقول:
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقًا آخر نواري فيه أحيانا.
يقول الشاعر عاطف يونس:
أخي في مصر من قلبٍ
إلى قلب أُناديكا
وأنفخ من دمي في الصور
علّ الصور يأتيكا
ورغم الخنجر المزروع
في ظهري أُحييكا
وباسم القدس والأقصى
إلى البركان أدعوكا
أخي قد باعنا فرعون
للأعداء مجانا
وخان الأرض خان العرض
خان دماء قتلانا
ووقع صكّ غفران
وما أسخاه غفرانا
أحيانًا يستعمل الشاعر عاطف التشطير كما نلاحظ ذلك في قصيدة له بعنوان: هل غادر الشعراء فهي على نسق معلقة عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم ***أم هل عرفت الدار بعد توهم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي *** وعمي صباحًا دار عبلة وأسلمي
يقول عاطف:
هل غادر الشعراء من متردم ***دعني إذنْ من شعرك المتجهم
دعني من الحُمّى ومن هذيانها ***واطلعْ من الأزمات دون تأزم
في الريح تُمتحنُ الأصولُ فكُنْ كما *** تهوى أصالتُكَ التي لم تهزم
فتشبثي بالأصل يا أغصاننا ***لا يُثمرُ الغصنُ الذي لا ينتمي
وهو يصب جام غضبه على النقد الذي لم ينصفه أو ينصف شعره حيث يقول:
إنْ يُسألُ الشعراءُ عمن أجرموا *** فالنقد لا السجانُ أولُ مجرم
هو يتماثل مع عنترة الذي لم يترك له الشعراء ما يقوله في الاطلال.
ظاهرة أخرى نلمسها في كتابات عاطف هي العبر نوعية في الأدب:
قديمًا صنفوا النتاج الأدبي إلى أنواع أدبية: فقالوا: شعر، نثر، رواية، مثل، مسرحية وغير ذلك من الفنون الأدبية ووضعوا حدودًا فاصلة بينها. في عصر الحداثة ظهر الشعر الحر الذي حافظ على الوزن ولكنه لم يتقيد بقافية ولا بعدد التفعيلات في البيت مثل شعر بد شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني ومظفر النواب. ظهر التضمين وهو عدم وحدة البيت. في عصر ما بعد الحداثة تطورت قصيدة النثر لدى أدونيس. عاطف يهاجم أدونيس وأفكاره التي تدعو إلى ترك اللغة العربية الفصحى واستعمال العامية. هو يعشق اللغة ويعتز بها. في عصر ما بعد الحداثة ظهرت العبر نوعية بحيث لا يحافظ الكاتب على نوع معين أو لون معين وإنما يمزج بين أنواع أدبية في كتابته كأن يبدأ بشعر ثم ينتقل إلى النثيرة، ثم إلى المسرحية، ثم إلى الكتابة الصحفية، أو الرواية، وقد نجح عاطف يونس في رابعة وعبد الله وعبد الله الساكت يتكلم في صناعة ذلك، وأسلوب مظفر النواب واضح تمامًا في هذين المؤلفين.
في نهاية المطاف إليكم بعض الملاحظات حول شعر عاطف يونس:
1.عاطف يهمل دور دول الغرب في تقهقر الأمة العربية.
2.لا يوجه أي نقد للأردن خوفًا من السلطان.
3. هو ينتقد دول الخليج الذين يلفظون الجيم ياء، فيقولون: أنايب بدلاً من أجانب.
4.هو يكثر من ذكر أحداث لا يعرفها الشباب ونسيها الناس، لكي تفهم شعره عليك أن تلم بتاريخ القضية الفلسطينية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ليس أجمل من أن يكرم المرء في بلده وها نحن خصصنا للشاعر عاطف يونس ندوة كاملة ضمن اجتماعات الرابطة الأدبية في عاره وعرعره، نرجو له دوام العطاء والصحة والعافية وهو يستحق كل ثناء. دمتم وإلى لقاء آخر.
الدكتور محمد عقل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة